الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: هبة الموهوب
، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الهبة وحكمها
.
تعريف الهبة
الهبة لغةً العطية (1)، وهي بمعنى الهدية.
واصطلاحًا:
1 -
عند الحنفية: تمليك عين بلا عوض (2).
2 -
عند المالكية: تمليك من له التبرع ذاتًا تنقل شرعًا بلا عوض لأهل بصيغة أو ما يدل (3).
3 -
عند الشافعية: تمليك لعين بلا عوض في حال الحياة تطوعًا (4).
4 -
عند الحنابلة: تمليك جائز التصرف مالًا معلومًا، أو مجهولًا تعذر علمه، موجودًا مقدورًا على تسليمه غير واجب في الحياة بلا عوض (5).
وتعريف الحنفية والشافعية بالنظر لحقيقة الهبة، وتعريف المالكية والحنابلة يجمع الشروط في كل مذهب منهما.
حكم الهبة
الهبة مندوبة بالإجماع (6)، وكذلك قَبولها، ومما يدل عليها عموم أدلة الإحسان والمعروف، والأدلة المذكورة في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: هبة الموهوب
.
صورة المسألة: إذا وهبتَ لزيد هبة فهل يجوز له أن يهبها أو يلزمه أن يستعملها بنفسه أو يبقيها عنده ونحو ذلك وألا يهبها لغيره؟
الحكم:
هبة الموهوب جائزة إذا كانت تامة سواء كان الموهوب له ابنًا للواهب أو لم يكن (7)؛ للأدلة
(1) تهذيب اللغة، مادة وهب 4/ 3961، المصباح المنير، مادة وهب ص 553.
(2)
مجمع الأنهر 2/ 352.
(3)
الشرح الصغير 2/ 312 (لأهلٍ) أي لمستحقٍّ.
(4)
مغني المحتاج 2/ 512.
(5)
كشاف القناع 10/ 117.
(6)
الاختيار 3/ 48، بداية المجتهد مع الهداية 8/ 203 - 204، الفواكه الدواني 2/ 241، نهاية المطلب 8/ 407، مغني المحتاج 2/ 511، نهاية المحتاج 5/ 287.
(7)
قال ابن عبد البر: (
…
فهذا كله يدل على أن الهبات لا تتم إلا بالقبض، وقد أجمعوا على ثبوت مِلك الواهب، واختلفوا في زواله من جهة الهبة بالقول وحده، فهو على أصل مِلك الواهب حتى يجمعوا، ولم يجمعوا إلا مع القبض) التمهيد 18/ 548، وفي مجمع الأنهر 2/ 353:(وتتم الهبة بالقبض الكامل) والمراجع في هذا كثيرة، وهو مذهب جمهور العلماء.
اللاحقة، وهذا متفق مع قواعد الشرع وكلام الفقهاء، ولم ينصوا عليه -فيما أعلم-، وهذا مقتضى كون الهبة تمليكًا في المذاهب الأربعة، كما سبق في التعريف، وبهذا يُعلم خطأ العبارة الشائعة (الهدية لا تهدى ولا تباع).
الأدلة:
الدليل الأول: عن سهل رضي الله عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها
…
قالت: نسجتُها بيدي فجئت لأَكْسُوَكَها. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلانٌ فقال: اُكسنيها، ما أحسنها. [وفي رواية قال:«نعم» فجلس ما شاء الله أن يجلس ثم رجع فطواها وأرسل بها إليه] قال القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد. قال: إني والله ما سألته لألبسه، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه (1).
وجه الاستدلال: أن هذه البردة وُهبت للنبي صلى الله عليه وسلم ثم وهبها الرجلَ.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأى عمر حلة على رجل تباع
…
فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بحللٍ فأرسل إلى عمر منها بحلة، فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: «إني لم أكسكها لتلبسها، تبيعها أو تكسوها» فأرسل بها عمر إلى أخٍ له من أهل مكة قبل أن يسلم (2).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الحلة لعمر رضي الله عنه فوهبها عمر لأخيه، ومن وجه آخر: يحتمل أنها وُهبت للنبي صلى الله عليه وسلم فوهبها لعمر رضي الله عنه.
الدليل الثالث: عن علي- رضي الله عنه قال: أهدى إليّ النبي صلى الله عليه وسلم حلة سِيَراء فلبستها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي (3).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الحلة لعلي رضي الله عنه فوهبها علي لنسائه.
(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب من استعدّ الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه (2/ 78)(ح 1277)، والرواية المذكورة بين [] في صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ذكر النساج (3/ 61)(ح 2093)، وكتاب اللباس، باب البرود والحبرة والشملة (7/ 146)(ح 5810)، والسائل سعد بن أبي وقاص (توفي سنة 55) أو عبد الرحمن بن عوف (توفي سنة 32) رضي الله عنهما. فتح الباري 4/ 16.
(2)
رواه البخاري، كتاب الهبة، باب الهدية للمشركين (3/ 164)(ح 2691)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة (6/ 137)(ح 5401)، وعند مسلم (6/ 141 - 142) (ح 5419) من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:(إني لم أعطكه لتلبسه إنما أعطيتك تبيعه) فإذا جاز له بيعه جاز له إهداؤه.
(3)
رواه البخاري، كتاب الهبة، باب هدية ما يكره لبسها (3/ 163)(ح 2614)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة (6/ 142)(ح 5420)، ومعنى سيراء: نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور. النهاية، مادة سير، ص 459.
الدليل الرابع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت في بريرة ثلاث قضيات كان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا [وفي رواية: فتهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم] فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هو عليها صدقة ولكم هدية فكلوه» (1).
وجه الاستدلال: يتم بمقدمتين:
الأولى: أن الصدقة لابتغاء الثواب، والهبة أو الهدية للتودد والإكرام، وكلاهما تمليك عين بلا عوض (2)؛ لذا قال في "الذخيرة": (لا تفترق الصدقة والهبة إلا في حكمين
…
وإذا تقرر اشتراك الصدقة والهبة بما عدا هذين الحكمين فليكن الكلام عليهما واحدًا)، وفي "الروض المربع":(والصدقة -وهي ما قُصد به ثواب الآخرة- والهدية -هي ما قُصد به إكرامًا وتوددًا ونحوه- نوعان من الهبة حكمهما حكمها في ما تقدم)(3).
والثانية: أن بريرة رضي الله عنها تُصدِّق عليها، والصدقة في معنى الهبة، فوهبت للنبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الخامس: عن أم عطية رضي الله عنها قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها فقال: «عندكم شيء» قالت: لا، إلا شيء بعثت به أم عطية من الشاة التي بعثْتَ إليها من الصدقة. قال:«إنها قد بلغت محلها» (4).
وجه الاستدلال: كالدليل السابق.
الدليل السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة فإن قيل: صدقة. قال لأصحابه: «كلوا» ولم يأكل، وإن قيل: هدية. ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم (5).
وجه الاستدلال: أن هذه الهدية أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم فأهدى منها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فإنهم يأكلون معه؛ لذا جاء في رواية:(فأمر أصحابه فأكلوا وأكل معهم)(6).
(1) رواه مسلم، كتاب الزكاة (3/ 121)(ح 2487)، والزيادة عند ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا أعتقت (3/ 223)(ح 2076)، وأصل الحديث في البخاري أيضًا في مواضع كثيرة منها (3/ 155)(ح 2577)، وينظر فتح المغيث (1/ 75).
(2)
الذخيرة 6/ 223، تكملة المجموع 17/ 272، المغني 8/ 239 - 240،264، المطلع ص 352، وفرقُ الهدية عن الهبة أن الهدية يُتقرب بها إلى المهدى إليه بخلاف الهبة. الفروق اللغوية ص 189.
(3)
7/ 522.
(4)
رواه البخاري، كتاب الهبة، باب قبول الهدية (3/ 156)(ح 2579)، ومسلم، كتاب الزكاة (3/ 120)(ح 2490)، وفي أول الحديث عند مسلم:(بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة من الصدقة فبعثت إلى عائشة منها بشيء).
(5)
رواه البخاري، كتاب الهبة، باب قبول الهدية (3/ 155)(ح 2576)، ومسلم، كتاب الزكاة (3/ 120 - 121)(ح 2491).
(6)
رواه أحمد (39/ 127)(23722) من حديث ابن عباس عن سلمان رضي الله عنهم.
الدليل السابع: عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون المدينةَ من مكة وليس بأيديهم -يعني شيئًا- وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة، وكانت أمه أم أنس أم سليم
…
فكانت أعطت أمُّ أنسٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عذاقًا فأعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد (1).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الهبة لأم أيمن رضي الله عنها، فإن قيل: هذه عارية كما سبق وليست هبة؟ قيل: قال في "البدائع": (وهبة المنفعة تمليكها من غير عوض، وهو معنى العارية)(2).
الدليل الثامن: عن عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عرض له شيء من هذا الرزق من غير مسألة ولا إشراف فليتوسع به، فإن كان عنه غنيًا فليُوجهه إلى من هو أحوج إليه منه» (3).
الدليل التاسع: عن أنس رضي الله عنه قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم التمر فأخذ يهدّيه. رواه الدارمي (ح 2106)، وقال عقبه:(يُهَدِّيه يعني يرسله هاهنا وهاهنا).
الدليل العاشر: أنه مال ملكه ملكًا تامًا بطريق مباح صحيح فجاز له جميع التصرفات المشروعة والجائزة -ومنها الهبة- كإهداء الموروث والمشترى والمنفعة المستأجرة (4).
(1) رواه البخاري، كتاب الهبة، باب فضل المنيحة (3/ 165)(ح 2630)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير (5/ 162)(ح 4603).
(2)
بدائع الصنائع 6/ 184.
(3)
رواه أحمد (34/ 247،244)(ح 20642،20647، 20648)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 182 - 183) (ح 3276) قال عنه المنذري:(إسناد أحمد جيد قوي) وتعقبه الألباني ولكنه صححه، وقال محققو المسند:(صحيح لغيره) وقال محقق الشعب: (ولكن فيه انقطاع). الترغيب والترهيب (ح 1254)، الثمر المستطاب 1/ 151، صحيح الترغيب والترهيب (ح 850).
(4)
وهناك أدلة أخرى، فإن قيل: هذا أمر لا خلاف فيه فلا داعي لكثرة الأدلة. قيل: كثير مما هو متقرر في الشريعة ولا خلاف فيه حصل من بعض الناس القدح فيه وإيراد الشبه عليها مع الاستدلال بها، وهذه المسألة شائعة كما ذكرت -الهدية لا تهدى ولا تباع-.