الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكنه من حيث التكييف الفقهي دائرٌ بين أن يقدم المقاول العمل فقط ويقدم رب العمل الأدوات، فتكون المقاولة في هذه الحالة عقد إجارةِ الأجير المشترك، وبين أن يقدم المقاول العمل والأدوات، فتكون المقاولة في هذه الحالة عقد استصناع (1)، فعقد المقاولة دائر بين عقدين جائزين، وليس مشتملًا عليهما في آنٍ واحدٍ معًا، وقد قال الكاساني:(وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا)(2)، وهذا الاشتمال إذا كان على سبيل البدلية -كما هنا- كان بالجواز أولى، وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي على جوازه (3)، ولم أر مخالفًا من العلماء والباحثين المعاصرين (4)، وأدلة جواز عقد المقاولة هي قاعدة الأصل في العقود وأدلة جواز الإجارة وجواز الاستصناع باعتباره عقدًا مستقلًا عن السلم.
المطلب الثاني: حكم المقاولة من الباطن
.
صورة المسألة: أن يتعاقد الطرف الأول مع مقاولٍ أصلي على عملٍ كإنشاء مبنى، فيتعاقد المقاول الأصلي مع مقاولٍ ثانٍ أو مقاولين على إنشاء المبنى كاملًا دون أن يقوم المقاول الأصلي بجزءٍ من العمل، أو يتعاقد المقاول الأصلي مع غيره على إنجاز جزء من العمل كأن يتعاقد مع مقاول للقيام بأعمال الكهرباء أو السباكة، ومع آخر للقيام بأعمال التجصيص والتلييص، وهكذا، فهذا العقد الثاني بين المقاول الأصلي والمقاول الثاني هو عقد المقاولة من الباطن سواءً كان كليًا أو جزئيًا.
الحكم:
المقاولة من الباطن جائزة بشروط، وأصدر مجمع الفقه الإسلامي قرارًا فيه جواز ذلك (5)، وقال في "عقد المقاولة":(والمقاولة من الباطن جائزة باتفاق الفقهاء)(6).
شروط جواز المقاولة من الباطن:
1.
توفر شروط الإجارة إذا قدم المقاول العمل فقط، وشروط الاستصناع إذا قدم العمل والمواد.
(1) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 129 (3/ 14)، عام 1423، عقد المقاولة ص 101 - 120.
(2)
بدائع الصنائع 5/ 6، وينظر: في فقه المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة ص 181 - 182.
(3)
قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 129 (3/ 14)، عام 1423.
(4)
ينظر مثلًا: أبحاث المجمع، عقد المقاولة للعايد ص 161 - 162، الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 560 - 561، الغش وأثره في العقود 1/ 422.
(5)
قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 129 (3/ 14)، عام 1423.
(6)
ص 249، وينظر: الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 561، العقد من الباطن ص 285 - 290.
2.
ألا يشترط رب العمل على المقاول أن يقوم بالعمل بنفسه (1).
3.
ألا تقوم قرينة عرفية على قيام المقاول بالعمل نفسه، كأن يكون العمل مما يختلف باختلاف الأجراء (2)، أو أن تكون شخصية المقاول الأصلي محل اعتبار لدى رب العمل لما يأنسه فيه من تميز، كما أنه قد يحصل العكس -وهو الأصل-، فقد جرى عرف المقاولين على الالتزام بتسليم العمل حسب المواصفات المطلوبة سواء قام بالعمل بنفسه أو بغيره، فالأصل بقاء هذا العرف إلا إذا قامت قرينة أخرى بخلافه.
4.
ألا يكون العقد الثاني حيلةً على الربا (3)، وذلك بتحقيق الشروط الآتية:
أ- أن يكون المقاول الثاني مستقلًا عن رب العمل؛ لئلا يكون المقاول الأصلي وسيطًا صوريًا في القرض الربوي، كما لو تقدم صاحب أرض طالبًا من المصرف بناءها سكنًا بشرط أن يكون هو المقاول من الباطن، فيبنيها للمصرف بثمنٍ حالٍّ يأخذه من المصرف بصفته مقاولًا ثانٍ -من الباطن-، ويتسلمها -بموجب العقد الأول- من المصرف مَبنيةً بثمن مقسط بصفته رب العمل وطالب الاستصناع، وهذا من بيع العينة.
ب- الانفصال التام بين العقد الأصلي والعقد الثاني، فلا يحق للمقاول الأصلي التحلل من تسليم الثمن للمقاول الثاني إلا بشرط تسلمه من رب العمل.
ج- أن يكون الضمان في العقد الأول على المقاول الأصلي، فيتحمّل تبعات تملُّك العين وقبضها ونفقات صيانتها قبل تسليمها لرب العمل، ويضمن المقاول الثاني أمام المقاول الأصلي -لا أمام رب العمل- في مثل الحالات التي يضمن فيها المقاول الأصلي (4).
أدلة جواز المقاولة من الباطن:
1 -
أن عقد المقاولة الثاني عقد توفرت فيه شروط الجواز فيكون جائزًا كالعقد الأول مع المقاول الأصلي، ولم يترتب عليه ضرر بالمتعاقد الأول ولا فيه معنى يقتضي المنع.
2 -
أن استصناع الصانع، جائز وكذلك إجارة الأجير المشترك، إلا عند وجود شرط أو قرينة تخالف ذلك، كما سبق في مبحث الإجارة ومبحث الاستصناع، والمقاولة من الباطن دائرة بين هذين العقدين فيأخذ حكمهما، وهو الجواز.
إيراد:
(1) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 129 (3/ 14) عام 1423 هـ، عقد المقاولة ص 249، العقد من الباطن ص 291.
(2)
المراجع السابقة.
(3)
الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 561، العقد من الباطن ص 291.
(4)
العقد من الباطن ص 291 - 292، عقد المقاولة ص 263.
إن مما عمّت به البلوى بين المقاولين في هذا العصر أن يتقبّل بعضهم مشروعات، ثم يقبِّلها برمتها لمقاولين من الباطن، وذلك يستوجب إعادة النظر في حكمه، وإعادةَ النظر -كذلك- في حكم أرباح الشركات التي تمارس هذا العمل، حتى أصبحت مجرد وسيط بين رب العمل -وغالبًا ما يكون مؤسسةً من المؤسسات الحكومية- وبين المقاولين من الباطن، الذين يباشرون -في الحقيقة- تنفيذ أعمال المقاولات، وكان من مفسدة هذا أن صار كثير من المشروعات الحكومية التي يُعهد تنفيذُها برمتها إلى مقاولين من الباطن يُلحظ عليها خللٌ في التنفيذ، وقصورٌ في العمل، وافتقاد تلك المشروعات لمعايير الجودة والإتقان حتى مع وجود الإذن الرسمي الصريح.
الجواب: أنه مهما قيل عن قصور أداء المقاولين من الباطن، وتواطؤ المقاولين الأصليين معهم فإن مردّ الخلل لا يمكن قصره على توسع المقاولين في المقاولة من الباطن، من حيث كونهم يقبِّلون أعمال المقاولة كلها، دون أن يكون لهم مباشرة لبعض العمل، حتى نحصر الحل في إعادة النظر في حكم المقاولة من الباطن لجميع أعمال المقاولة.
وإنما السبب الأصلي لهذا القصور والخلل هو ضعف الإدارات الرقابية في المؤسسات الحكومية وتساهلُها في معايير الجودة وقبولها لأعمال تلك الشركات على علاتها ورداءتها، وقد يكون سبب ذلك التساهل قلة المراقبين، أو إغراءات الرشوة التي لا تكاد تصمد لها أمانة بعض المراقبين ووطنيتهم، كما أن ضعف التنفيذ والإخلالَ بالمواصفات ومعايير الجودة المشروطة ملحوظٌ -كذلك- في الأعمال التي يباشرها المقاول الأصلي، فليس الخلل محصورًا في أعمال المقاول من الباطن، حتى نَقْصُر الحل على منع عقود المقاولة من الباطن التي تتقبّل أعمال المشروع كلها، وسيظل الخلل موجودًا ما لم تكن الإدارة الرقابية على المشروعات الحكومية صارمة في رقابتها ومعاييرها، وفي إلزامِها المقاولين بشروط العقود، فما أُبرمت عقود المقاولات من الباطن في مشروعاتها الحكومية إلا بإذن تلك الجهات المسؤولة (1).
ومتى خشيت هذه الجهات من ضعف المشروع أو تأخر إنجازه بسبب العقد من الباطن فلها أن تشترط على المعقود معه مباشرته للعمل، والواقع أن عقود المشاريع الكبيرة تتضمن بنودًا للمقاولة من الباطن.
ولا يختلف الحكم فيما لو تكررت المقاولة من الباطن، بأن يقوم المقاول من الباطن بالتعاقد مع طرف ثالث، والثالث مع رابع، وهلمّ جرّا.
(1) العقد من الباطن ص 289 - 290.