الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه) (1).
الدليل الثالث: أنه من بيع الكالاء بالكالاء (الدين بالدين)؛ لأن المجيزين له لا يشترطون كون الثمن معجلًا ولا كون المعقود عليه غير مؤجل، فصح تعجيل العوضين وتأجيلهما (2)، وبيع الكالاء بالكالاء مجمع على تحريمه (3)، والكالئ: المؤجَّل المؤخَّر، وهو أخص من بيع الدين بالدين المطلق، وهو محل الإجماع على قول.
المناقشة:
1.
أن هذا الإجماع معارض بالإجماع العملي على جواز الاستصناع (4)، فيخصِّصه.
2.
أنه لا دين في الاستصناع؛ لأن المعقود عليه متعين، وليس مضمونًا في الذمة.
الترجيح
الراجح جواز الاستصناع إذا كان الثمن معجلًا، وإذا أريد تأجيل الثمن يُجعل عقد إجارة، ويكون الصانع فيها أجيرًا مشتركًا مع توكيله في شراء المواد (5)، وهذا أولى من جعله عقد استصناع من جهتين: الأولى أن الاستصناع عقد جائز عند الحنفية خلافًا لأبي يوسف والمتأخرين، أما الإجارة فلا خلاف في لزومها، والثانية أنه لا يوجد دليل على إجازة تأخير البدلين إذا كان المعقود عليه من صنعة الصانع أو العامل البائع، فيدخل في عموم المنع.
سبب الترجيح: ما تقدم من الأدلة ومناقشة أدلة القول الآخر، ومن تعليل في الترجيح.
المطلب الثاني: حكم استصناع الصانع
(6).
صورة المسألة: أن يعقد الطرف الأول مع المصرف -مثلًا- عقد استصناع طائرة، فيعقد المصرف مع جهة أخرى عقد استصناع بمواصفات الطائرة المطلوبة في العقد الأول، فالمصرف صانعٌ في العقد الأول مستصنِعٌ في العقد الثاني، فإذا تسلم المصرفُ الطائرةَ من الجهة الأخرى بمقتضى العقد الثاني قام بتسليمه للطرف الأول بمقتضى العقد الأول.
(1) إعلام الموقعين 3/ 206 - 207.
(2)
الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 524.
(3)
الإجماع لابن المنذر ص 132، بداية المجتهد 7/ 158، ونقله عن الإمام أحمد: ابن قدامة (المغني 6/ 106) وابن حجر (التلخيص الحبير 4/ 1798) وغيرهم.
(4)
الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 524 - 526، العقد من الباطن ص 239 - 240، قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 116 - 120.
(5)
ينظر في الفرق بين الاستصناع والإجارة "المعايير الشرعية"، المعيار الشرعي للاستصناع ص 190.
(6)
ويسمى الاستصناع الموازي أو المتوازي أو الاستصناع من الباطن.
الحكم:
ينبني الحكم في هذه المسألة على محل عقد الاستصناع، هل هو العين أو العمل، وللحنفية في ذلك قولان:
القول الأول: أن محل العقد العين المستصنَعة والعمل تابعٌ له، وهو مذهب الحنفية عدا البردعي (1)، وعلى هذا القول للصانع أن يستصنع بشروط يأتي ذكرها.
القول الثاني: أن محل العقد العمل، وهو قول أبي سعيد البردعي من الحنفية (2)، وعلى هذا القول ليس للصانع أن يستصنع؛ لأن العقد وقع على عمله لا على مجرد توفير العين المستصنعة.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: (أن عقد الاستصناع واردٌ على العمل والعين في الذمة).
وهذا يحتمل أن يكون قولًا جامعًا بين القولين، ويحتمل أن يكون على العين والعملُ تابعٌ كما في القول الأول، وهذا أقرب.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أن الاستصناع فيه شبهٌ بالإجارة من حيث طلب الصنع، وهو العمل، وفيه شبه بالبيع من حيث إن المقصود منه العين المستصنعة، والأصل قصد العين المستصنعة المملوكة للصانع قبل التسليم وبعد الصُّنْع فيكون بيعًا، لكن لما لم يكن له وجود من حيث وصفه إلا بالعمل أشبه الإجارة في حكم واحد لا غير، وهو أنه يبطل بموت أحدهما، كما هو مذهب الحنفية (3) والشعبي (4) والثوري (5) والليث (6)، وذهب مالك (7) والشافعي (8) وأحمد (9)
(1) الاختيار 2/ 38، فتح القدير 5/ 355 - 356، حاشية ابن عابدين 7/ 503، مجمع الأنهر 2/ 107.
(2)
فتح القدير 5/ 355، حاشية ابن عابدين 7/ 503، مجمع الأنهر 2/ 107.
(3)
العناية 5/ 355 - 356.
(4)
رواه عبد الرزاق، كتاب البيوع، باب البيع يقطع الإجارة (8/ 191)(ح 14837).
(5)
رواه عبد الرزاق، الموضع السابق (8/ 191)(ح 14837)، المغني 8/ 43.
(6)
المغني 8/ 43.
(7)
المدونة 5/ 362، الإشراف للقاضي عبد الوهاب مع الإتحاف 3/ 1262.
(8)
الأم 4/ 36، المهذب مع تكملة المجموع 16/ 385.
(9)
المغني 8/ 43، الإنصاف 14/ 455.
وإسحاق والبتي وأبو ثور وابن المنذر (1) إلى أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، وعليه فليس للاستصناع امتياز عن البيع من هذه الجهة، وليس العمل مقصودًا بدلالة العرف في عقد الاستصناع.
الدليل الثاني: أن الأصل الجواز، وليس في عمل الصانع هذا حيلةٌ ولا ضررٌ ولا معنى يقتضي التحريم، ومباشرته للصنعة ليست مقصودة في كل الحالات، فمتى كانت مقصودة فإنه لا بد من إذن المستصنع، ويُعرف ذلك بالشرط أو القرينة، ويبقى حكم الأصل الجواز.
الدليل الثالث: أن الاستصناع ثبت له أحكام بيع العين، كثبوت خيار الرؤية، وأنه متى جاء الصانع بالعين على الصفة المشروطة صح العقد، وأنه إذا جاءه بالعين من صنعته قبل العقد جاز، وهذه الفروع تدل على أن محل العقد العين لا العمل (2).
الدليل الرابع: أن العقد وقع على ضمان تسليم العمل وتحصيله لا على المباشرة (3).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن الاستصناع مشتق من الصنع، وهو العمل، فاسم العقد دليل على محله وأن المعقود عليه هو العمل (4).
المناقشة: أن العمل تابعٌ للعين في هذا العقد، وكون الصنع هو العمل لا يدل على أن العمل مقصودٌ في العقد، فالبيع أيضًا عملُ البائع والمقصود بالاتفاق المبيع، وهو المعقود عليه، وليس لمد البائع باعه أثرٌ في محل العقد، مع أن اسم العقد مشتق من ذلك، وقال في "مجمع الأنهر":(وذكر الصنعة لبيان الوصف والجنس)(5) بدليل الفروع السابقة.
الدليل الثاني: أن في الاستصناع شبهًا بالإجارة من حيث طلب الصنع؛ لذا قيل ببطلانه بموت أحد المتعاقدين.
المناقشة: عدم التسليم بحكم الأصل فالجمهور على أن الإجارة لا تبطل بموت أحد المتعاقدين إلا إن تعذّر الاستيفاء، ومن جهة أخرى فشبهه بالبيع أكثر، وما تردد بين أصلين ألحق بالأغلب شبهًا.
(1) الإشراف لابن المنذر 6/ 301 - 302، المغني 8/ 43.
(2)
ينظر في هذه الفروع: المبسوط 12/ 167، الهداية 5/ 355 مع فتح القدير والعناية، الاختيار 2/ 38، حاشية ابن عابدين 7/ 503، المعايير الشرعية، المعيار الشرعي للاستصناع ص 176 - 177، البند رقم 2/ 2/1، 3/ 1/5.
(3)
مستفاد من تقرير القواعد 2/ 24.
(4)
فتح القدير 5/ 355، مجمع الأنهر 2/ 107.
(5)
2/ 107.
الترجيح
الراجح جواز استصناع الصانع بالشروط الآتية:
1.
توفر شروط البيع.
2.
توفر شروط عقد الاستصناع في العقدين، وهي:
أـ أن يكون المستصنَع معلومًا، وذلك ببيان الجنس والنوع والقدر.
ب ـ أن يكون مما يجري تعامل الناس فيه عرفًا، مع مراعاة تبدل الأعراف زمانًا ومكانًا.
ج ـ اشترط أبو حنيفة عدم ذكر الأجل وإلا صار سلمًا، وذهب الصاحبان إلى عدم اشتراطه، وفي قرار مجمع الفقه الإسلامي اشتراط أن يحدد فيه الأجل (1).
3.
ألا يشترط المستصنع عمل الصانع بنفسه، وألا يشترط كون التصنيع بعد العقد.
4.
ألا تكون هناك قرينة عرفية على قصد عمل الصانع أو كون التصنيع بعد العقد، كأن يقصده لما امتاز به عن غيره، كما أنه قد تقوم القرينة على الإذن في استصناع الصانع بأن تكون الصنعة أو السلعة ليست من شأنه، كمن يتقدم للمصرف بطلب إنشاء مبنى سكني أو تجاري.
5.
أن يكون المستصنع الصانع مستقلًا عن المستصنع الأصلي صاحب المشروع، وكذلك عن الصانع الثاني، سواء كان شخصية حكمية أو حقيقية، حتى لا يكون مجرد وسيط صوري بين المستصنع الأصلي والصانع الثاني (2).
ووجود قسم مختص بدراسة العقود التي من هذا النوع وتقدير أرباحها وخاطرها لدى المصارف ونحوها: من وسائل تلافي الصورية.
6.
الانفصال التام بين العقدين: عقد الاستصناع بين المستصنع الأصلي والمستصنع الصانع، وعقد الاستصناع بين المستصنع الصانع والصانع الثاني.
7.
أن يتملك المستصنع الصانع السلعة تملكًا حقيقيًا لا صوريًا ويقبضها قبل أن يدفعها للمستصنع الأصلي بالقبض المعتبر، وقبض كل شيء بحسبه؛ لتلافي التمويل المحرم.
8.
أن يكون ضمان السلعة على المستصنع الصانع في العقد الأول فيتحمل تبعات تملك العين المستصنعة وقبضها ونفقات صيانتها قبل تسليمها للمستصنع الأصلي (3).
(1) بدائع الصنائع 5/ 6،343، فتح القدير 5/ 356، الموسوعة الفقهية 3/ 328 - 329، قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 67 (7/ 3)، عام 1412، الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 529 - 531.
(2)
المعايير الشرعية، المعيار الشرعي للاستصناع ص 176 - 177، البند رقم 2/ 2/4، عقد المقاولة للعايد ص 256، العقد من الباطن ص 251.
(3)
المعايير الشرعية ص 182، البند رقم 7/ 3، قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي 1/ 96، 142، 205، 484، 2/ 1254، فتاوى الهيئة الشرعية للبركة ص 124، فتاوى ندوات البركة ص 36، الخدمات الاستثمارية في المصارف 2/ 535، العقد من الباطن ص 247،250.
أسباب الترجيح:
1.
ما ترجح من أن محل عقد الاستصناع العين، والعمل تابعٌ له بناء على الأدلة السابقة ومناقشة أدلة الطرف الآخر.
2.
موافقة هذا القول للأصل في العقود، وهو الجواز والصحة، وعدم قيام حجج صريحة تنقل الحكم عن هذا الأصل.
3.
موافقة هذا القول لمقصد الشارع في رفع العسر والحرج، وفي دفع الحاجة التي أبيح الاستصناع من أجلها.