الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (1) والصدقة الجارية المستمرة، وهي الوقف، ونقل غير واحدٍ الإجماع على مشروعيته (2).
المطلب الثاني: حكم وقف الوقف من قِبل الموقوف عليه
(3).
صورة المسألة: إذا وقف فهد عقارَه على أخيه سعد، فهل يحق لسعد أن يقف هذا العقار الموقوف عليه على المساكين أو على أخيه خالدٍ؟ فالوقف الأول لابد أن يكون على معيَّن يملك، كسعدٍ في المثال المذكور، والثاني قد يكون على جهةٍ أو على معين.
الحكم:
لم ينص العلماء -فيما أعلم- على حكم هذه المسألة؛ لذا أذكر الاحتمالات فيها تخريجًا على قولهم فيمن ينتقل إليه مِلك الوقف (4).
تحرير محل النزاع المخرَّج: إذا كان الوقف على جهة لا يتصور فيها الملك -سواء قيل باشتراط كونها جهة قربة أو لا- فإن الوقف يكون حقًّا لله سبحانه وتعالى ولا يملكه أحدٌ من الناس بالاتفاق (5)، وعليه فلا يمكن إعادة وقفه، وإذا كان على معين يملك ففيه احتمالان:
(1) رواه مسلم، كتاب الوصية (5/ 73)(ح 4223) من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكثر عزو الحديث له بلفظ:(إذا مات ابن آدم) فقد تكون نسخة.
(2)
الجامع الكبير للترمذي 3/ 53 (عند ح 1375)، نهاية المطلب 8/ 339، المغني 8/ 185 - 186، حاشية البيجوري 2/ 77، يُلاحظ أن الإجماع والاختلاف المشار إليهما في "مراتب الإجماع" لابن حزم ص 173، و"المفهم" للقرطبي 4/ 600 - 601، و"تحفة الفقهاء" للسمرقندي 3/ 647 إنما هو في ما يصح وقفه وما لا يصح وقفه، ولزوم الوقف وعدمه، وليس في حكم الوقف أصالةً. كما يلاحظ أن ما ذُكر من خلاف شريح في مشروعية الوقف مسبوق بإجماع من قبله؛ لذا ردّ عليه مالك والشافعي وغيرهما، وأن ما ذُكر في عددٍ من المصنفات عن أبي حنيفة مثل ذلك لا يصح؛ لأنه لا يخالف في المشروعية إنما في اللزوم. المبسوط 12/ 34، بدائع الصنائع 6/ 346، الموافقات 5/ 86، سير أعلام النبلاء 8/ 109، وردُّ الأئمة على شريح في "الأم" 4/ 52 وما بعدها، و"التاج والإكليل" 7/ 626.
(3)
وقف الوقف إضافة تحتمل معنيين: وقف الواقف للوقف، وهو مبني على لزوم الوقف، فمن قال بلزومه -وهم جمهور العلماء- يمنع الواقف من الرجوع فيه، وعليه فإنه لا يملك أن يقف ما وقفه، ونصَّ على ذلك بعض المالكية -كما سأشير إليه إن شاء الله-، ومن قال بعدم لزومه -وهو قول أبي حنيفة- لم يمنعه من الرجوع ومِن ثَم له أن يقفه على غيره بعد الرجوع، ومحل البحث المعنى الثاني، وهو وقف الموقوف عليه للوقف، من إضافة المصدر إلى اسم المفعول.
وقول القائل: (من قِبَل كذا) استعمال فصيح، وارد في السنة وفي كلام التابعين والعلماء كافة.
(4)
وقد ذكر ابن رجب اثنتي عشرة فائدة مبنية على هذه المسألة في قواعده (3/ 359 - 365) مثل زكاة الوقف ونفقة الوقف وولاية الأمة الموقوفة، ويمكن إضافة هذه الفائدة إليها.
(5)
مجموع الفتاوى 31/ 233: (وأما المسجد ونحوه فليس ملكًا لمعين باتفاق المسلمين، وإنما يقال: هو ملك لله. وقد يقال: هو ملك لجماعة المسلمين).
الاحتمال الأول: لا يملك الموقوف عليه أن يقف، وهو مذهب المالكية تخريجًا على قولهم إن مِلك الواقف لا يزول بالوقف (1)، وهو قولٌ للشافعي (2)، وهو مذهب الحنفية والشافعية تخريجًا على قولهم إن مِلك الواقف يزول عن الوقف ويكون حقًا لله سبحانه وتعالى (3)، وكلاهما قول لأحمد (4).
الاحتمال الثاني: يملك الموقوف عليه أن يقف، وهو مذهب الحنابلة تخريجًا على قولهم إن مِلك الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه (5)، وهو قولٌ للشافعي (6).
الأدلة:
أدلة الاحتمال الأول:
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها» (7).
وجه الاستدلال: أن التحبيس: المكث والسكون، فأصلها ثابت لم ينتقل عما كان عليه، وعليه فليس للموقوف ما يحبسه أصلًا.
المناقشة:
1.
المراد بالحديث الحبس عن التصرف المؤثر، فلا يباع ولا يوهب ولا يورث، وليس أن يكون مملوكًا للواقف، بدليل أنه لا يرجع فيه ولا يتصرف فيه بما ينافي الوقف، فمن حُبِّس عليه يجوز له أن يحبس المنفعة على غيره بما لا ينافي الوقف أيضًا.
2.
أن الثمرة انتقلت للموقوف عليه باتفاقٍ فملكها، فكان له أن يقفها كما يجوز له أن يأكلها أو يعيرها أو غير ذلك.
الدليل الثاني: أن الوقف إزالةُ مِلكٍ عن العين والمنفعة على وجه القربة فينتقل إلى الله عز وجل
(1) الذخيرة 6/ 327، مواهب الجليل 7/ 626، بلغة السالك 1/ 229، وجاء في "الشرح الصغير" (2/ 297 مع حاشيته للصاوي):(وما تعلق به الحبس لا يحبس) ونسبه للخرشي، وهو يفيد المنع وصياغته صياغة قاعدة، لكنه لم يقصد بها مسألتنا وإنما وردت في ثنايا كلامه.
(2)
نهاية المطلب 8/ 341.
(3)
بدائع الصنائع 6/ 350 قال: (يزول الموقوف عن مِلك الواقف، ولا يدخل في مِلك الموقوف عليه، ولكنه ينتفع بغلته)، فتح القدير 5/ 40، مجمع البحرين ص 468 - 469، نهاية المطلب 8/ 341، مغني المحتاج 2/ 502، نهاية المحتاج 5/ 275، وقد نصّوا على أن المالك حقيقةً لكل شيء هو الله سبحانه وتعالى، وإنما سمي العبد مالكًا توسعًا، كما في "فتح القدير" و"مغني المحتاج" و"نهاية المحتاج".
(4)
المغني 8/ 186 - 189.
(5)
المغني 8/ 186 - 189، الفروع 7/ 343، كشاف القناع 10/ 34، تقرير القواعد 3/ 359، وقد لا يلزمهم ذلك؛ لأن مِلك الموقوف عليه للوقف ليس تامًّا، فلهم أن يقولوا: ينتقل الملك للموقوف عليه ولا يملك بيعه ولا هبته ولا وقفه.
(6)
نهاية المطلب 8/ 341، المهذب 17/ 203.
(7)
سبق تخريجه ص 203.
قياسًا على العتق، فلم يبق في يد الموقوف عليه ما يقفه.
المناقشة:
1.
أن العتيق قد خرج بالعتق عن المالية بخلاف الموقوف.
2.
أن امتناع التصرف في الرقبة لا يمنع الملك، كأم الولد.
الدليل الثالث: أن الوقف على مَن لا يملك كالمساجد والقناطر وسائر القُرب لا ينتقل فيها الملك للموقوف عليه، فكذلك من يملك؛ لأنه أحد نوعي الوقف.
المناقشة: الوقف على المساجد ونحوها وقف على المسلمين إلا أنه عُيّن في نفعٍ خاص بحيث لا يمكن أن يصرف لغيره، وليس كذلك الوقف على المعين.
الدليل الرابع: أن وقف الوقف يلزم منه مخالفة شرط الواقف الأول، فإذا قال: هذا وقف على زيد ثم على المساكين، وجاز لزيد أن يقفه فإنه سيمنع المساكين حقهم ويخالف مقصود الواقف الأصلي.
المناقشة: ليس كل وقفٍ فيه شرط يلزم مخالفته، ومتى وُجد فيشترط في الوقف الثاني ألا ينافيه.
الجواب: أنه إذا وقفه على غيره فقد خالف الشرط شاء أم أبى؛ لأن الواقف وقفه على معين لا على غيره.
أدلة الاحتمال الثاني:
الدليل الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» ، رواه البخاري، كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (3/ 164)(ح 2623)، ومسلم (5/ 63)(ح 4164)، قال ابن قدامة:(وهذا يدل على أنه ملكه، لولا ذلك ما باعه) المغني 13/ 43، فإذا جاز له أن يبيعه بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، جاز له أن يوقفه.
الدليل الثاني: حديث أنس أن أبا طلحة رضي الله عنهما تصدق بحديقته بيرحاء على ذوي رحمه، قال:(وكان منهم أبيّ وحسّان، قال: وباع حسان حصته منه من معاوية، فقيل له: تبيعُ صدقةَ أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟)(1).
(1) رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب مَن تصدّق إلى وكيله ثم رَدَّ الوكيل إليه (4/ 8)(ح 2758)، وأصله دون محل الشاهد عند مسلم، كتاب الزكاة (3/ 79)(ح 2315). ودخول الباء على المبدل المتروك خلاف اللغة المشهورة.
وجه الدلالة: أن حسَّان رضي الله عنه موقوف عليه، وقد باع نصيبه من الوقف، فإذا جاز بيعه جاز وقفه، ويدلّ على أن صدقة بيرحاء كانت وقفًا إنكارُ مَن أنكر عليه بيعه لها، وفهمُ العلماء ذلك، ومنهم البخاري، حيث قال:(باب إذا أوقف أو أوصى لأقاربه، ومَن الأقارب؟ وقال ثابت عن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «اجعله لفقراء أقاربك» فجعلها لحسان وأبيّ بن كعب)(1).
المناقشة:
1.
أن هذا فعلٌ لم يقرّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان بعد وفاته، ولم يوافقه عليه الصحابة (2).
2.
أن بيع حسان رضي الله عنه يدل على أن أبا طلحة رضي الله عنه ملَّكهم الحديقة، ولم يجعلها وقفًا عليهم، وهذا يعكِّر على من استدل بشيءٍ من الحديث في مسائل الوقف، إلا شيئًا يتفق فيه الوقف والصدقة، ويحتمل أن أبا طلحة شرط جواز البيع لمن احتاج، وقد أجاز بعض العلماء هذا الشرط (3).
الدليل الثالث: أن الوقف سبب يزيل مِلك الواقف، وقد وُجد إلى من يصح تمليكه على وجه لم يُخرِج المال عن ماليته، فوجب أن يَنقل الملك إليه كالهبة والبيع، فإذا ملكه من انتقل إليه جاز أن يقفه.
المناقشة: هذا يلزم الحنفي والشافعي، أما المالكي فلا يوافق على المقدمة الأولى المفيدة زوال ملك الواقف.
الدليل الرابع: أن الوقف والحبس راجع للأصل، والثمرة طَلْقٌ، والمِلك فيها تامٌّ، للموقوف عليه التصرف فيها بجميع التصرفات وتورث عنه، فيجوز له أن يقفها، قياسًا على ثمرة الأرض المستأجرة.
الترجيح
أولًا تصوُّر وقوع المسألة مبني على جوازه عقلًا، وهو كذلك، فلا يمنع أن يوجد فقير ليس له مال، ويسمع بما في الوقف من فضل، ثم يوقف عليه، فيسأل: هل له أن يقف هذا الوقف؟ ويقول: إذا جاز لي أن آكله وأن أصرفه على أولادي فلماذا لا أقدمه لحياتي؟ يعني لآخرته.
(1) صحيح البخاري (الجامع الصحيح) 4/ 6.
(2)
ينظر مثلا: سنن أبي داود (4/ 503 - 505)(ح 2878 - 2879)، ومصنف عبد الرزاق (10/ 374 - 378)(ح 19414 - 19418)، المغني 8/ 192، مجموع الفتاوى 28/ 588 - 589، 30/ 246، 31/ 262.
(3)
ينظر فتح الباري 6/ 713.
وقد وقع ذلك في عهد أبي العباس ابن تيميّة وسئل عنه (1)، والوقوع دليل الجواز وزيادة.
فيقال: لا بد من التفصيل في ذلك فإن أريد وقف ثمرة الوقف دون أصله فالراجح أنه يجوز ذلك للموقوف عليه بحيث لا ينافي الوقف الأول وشروطه، فإن قلنا إن الملك ينتقل للموقوف عليه فواضح، ويكون ملكًا ناقصًا (2)، وإن قلنا إن الملك يكون للواقف فلا شك أن ملك الثمرة والغلة على هذا القول لا يبقى للمالك -الواقف-، بل ينتقل للموقوف عليه فيجوز له وقفه، ويكون الباقي في ملك الواقف العين (الأصل، الرقبة)، وإن قلنا: إنه يخرج عن ملك الواقف ولا يدخل في ملك الموقوف. فالمراد أنه يكون حقًا لله جل جلاله ووقفه أيضًا يجعله حقًا لله عز وجل فلا يتنافى مع ذلك؛ لأن حق الله سبحانه وتعالى له متعلَّق، كما أن الزكاة حق لله سبحانه وتعالى ويستحقه الأصناف الثمانية، فكذلك الوقف هو حق لله سبحانه وتعالى ويستحقه الموقوف عليه فيملك أن يقفه، ومخالفة شرط الواقف بذلك ليس مسلَّمًا؛ لأن العبرة بالمقاصد والحقائق، ومراد الواقف أن تعود فائدة الوقف للموقوف عليه، وهذا ما حصل، وإن أريد وقف أصل الوقف فالراجح أنه لا يوقف؛ للإجماع الذي نقل ابن قاضي الجبل: أنه لا يجوز بيع درهم خالص بدرهم خالص إذا كان من مال اليتيم؛ لعدم ثبوت المصلحة في هذا التصرف وانتفاءِ الرجحان في هذا العقد، وقال:(وكذلك ينبغي أن يكون في مال الوقف إذا لم يكن في ذلك مصلحة مطلوبة)(3)، وهل وقف الموقوف عليه مصلحة مطلوبة للوقف؟ يظهر أنها مصلحة، ولكنها مرجوحة، فالمشغول لا يشغل، والأسبق أحق، ولا مسوِّغ لتغيير الوقف ما دام قائمًا يمكن الاستفادة منه في ما وقف لأجله، وبهذا يتضح سبب الترجيح.
(1) مجموع الفتاوى 31/ 262.
(2)
مجموع الفتاوى 29/ 178 - 180: (وأصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية في الرقبة، بمنزلة القدرة الحسية، فيمكن أن تثبت له القدرة على تصرفٍ دون تصرف شرعًا
…
) فيتصرف في الثمرة أو المنفعة كالسكنى دون الرقبة.
(3)
المناقلة والاستبدال بالأوقاف والإفصاح بما وقع في ذلك من النزاع والخلاف ص 47 - 48، بواسطة استثمار الوقف، وينظر في التصرف في الوقف: استثمار الوقف ص 63 - 76، 89 - 99، 128 - 132.