الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: إعارة المعار
، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الإعارة وحكمها
.
تعريف الإعارة
في اللغة: الإعارة والاستعارة والعارية ترجع لمعنى واحد، وهو تداول الشيء وترديده ذهابًا ومجيئًا (1)، والعارية مشدَّدةٌ وقد تخفَّف (2).
وفي الاصطلاح:
1 -
عند الحنفية: تمليك المنفعة بغير عوض (3).
2 -
عند المالكية: تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض (4).
3 -
عند الشافعية: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه (5).
4 -
عند الحنابلة: إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه (6).
5 -
قال أبو العباس ابن تيمية: إعطاء العين لمن ينتفع بها ثم يردها (7).
حكم الإعارة
الإعارة والعارية يعرض لها ما يجعلها واجبة أو مكروهة أو محرمة بالنظر إلى المقاصد والمآلات، فتجب إعارة ثوبٍ لدفع حرٍّ أو بردٍ شديدين، وتحرم إعارة صيدٍ لمحرِمٍ أو أمة لأجنبي على تفصيل وخلاف، وتكره إعارة العبد المسلم لكافر، فإذا كانت تُعين على محرَّم فهي محرَّمة، وإذا كانت تُعين على مكروه فهي مكروهة، كما نص عليه جمعٌ من الفقهاء (8).
أما حكمها من حيث الأصل فأجمع المسلمون على مشروعية الإعارة (9)، ولكنهم مختلفون في الوجوب وعدمه على قولين:
(1) مقاييس اللغة، مادة عور 4/ 184 - 185، لسان العرب، مادة عور 6/ 297.
(2)
القاموس المحيط، ماد عور ص 446، المطلع ص 127.
(3)
المبسوط 11/ 142، بداية المبتدي مع شروحها 7/ 100.
(4)
مواهب الجليل 7/ 297، الفواكه الدواني 2/ 263.
(5)
البيان 6/ 505، تكملة المجموع (الاستقصاء للماراني) 15/ 420.
(6)
الروض المربع 7/ 166، المطلع ص 327.
(7)
مجموع الفتاوى 20/ 550، وتعريفه بجنس الإعطاء يشمل التمليك، كما عند الحنفية والمالكية، والإباحة، كما عند الشافعية والحنابلة، فهو أجمع.
(8)
الذخيرة 6/ 200، الفواكه الدواني 2/ 263، مغني المحتاج 2/ 340، المغني 7/ 346، الفروع 7/ 197، المقنع مع الشرح الكبير 15/ 68 - 69.
(9)
مراتب الإجماع ص 167، الإقناع في مسائل الإجماع 2/ 168، مجمع الأنهر 2/ 346، الفواكه الدواني 2/ 263، البيان للعِمراني 6/ 507، مغني المحتاج 2/ 340، المغني 7/ 340.
القول الأول: أنها مندوبة، وهو مذهب جمهور العلماء (1).
القول الثاني: أنها واجبة إذا كان السائل محتاجًا ووثق بوفائه، وهو قول ابن حزم (2) وابن القيم (3)، فالعبرة بحال المستعير.
القول الثالث: أنها تجب مع غنى المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد واختيار أبي العباس ابن تيمية (4)، فالعبرة بحال المعير.
الأدلة: وهي قسمان أدلة عدم الوجوب -الاستحباب أو الجواز- وأدلة الوجوب.
أدلة جواز العارية واستحبابها:
الدليل الأول: قول الله عز وجل: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} الحج: (77)، وقوله جل جلاله:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: (114)، والعارية من الخير والمعروف والإحسان.
الدليل الثاني: عن جابر وحذيفة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل معروف صدقة» (5).
الدليل الثالث: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يُسمع دوي صوته ولا يُفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام
…
قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة. قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوّع» (6).
وجه الاستدلال: أنه لو كانت العارية واجبة عليه لبيَّنه صلى الله عليه وسلم، وأكد عدم الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا إلا أن تطوع» فدل على أنها من التطوع.
(1) الاختيار 3/ 55، مجمع الأنهر 2/ 346، مواهب الجليل 7/ 296، حاشية الدسوقي 3/ 433، حاشيتا قليوبي وعميرة 3/ 17، البجيرمي على الخطيب 3/ 488، المغني 7/ 340، تجريد العناية ص 92، ونصَّ المالكية على أن الوجوب يعرض لها كغني عنها لمن يخشى بعدمها هلاكه. مواهب الجليل 7/ 297، بلغة السالك 2/ 205، فالأصل استحبابها.
(2)
المحلى 9/ 168 - 169.
(3)
إعلام الموقعين 3/ 286.
(4)
المغني 7/ 340، الأخبار العلمية في الاختيارات الفقهية ص 231، الفروع 7/ 197، الإنصاف 15/ 67.
(5)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة (8/ 11)(ح 6021) من حديث جابر رضي الله عنه، ومسلم، كتاب الزكاة (3/ 82)(ح 2328) من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه البيهقي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه كتاب العارية (6/ 88) وفيه:(وكنا نعد المعروف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم القدر والدلو وأشباه ذلك) ورواه أبوداود -كما سيأتي إن شاء الله- بلفظ: (الماعون) بدل (المعروف).
(6)
الطاء مخففة في "اليونينية" في المواضع الثلاثة من الحديث، وقال في "الفتح" بالتشديد وجواز التخفيف، وقال النووي في التشديد:(وهو المشهور)، وكلاهما صحيح. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (1/ 18)(ح 46)، ومسلم، كتاب الإيمان (1/ 31)(ح 100).
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أديت زكاة مالك قد قضيت ما عليك» (1).
الدليل الخامس: عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أنه سمعته -تعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس في المال حق سوى الزكاة» (2).
الدليل السادس: قال ابن قدامة: (وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها)(3).
المناقشة: أنه ذكر بعد ذلك بأسطر: (وقيل: هي واجبة) وذكر أدلة من قال بذلك وستأتي -إن شاء الله-.
الجواب: نقل غيره الإجماع أيضًا، والمخالف محجوج بإجماع من قبله.
الدليل السابع: أن الأصل براءة الذمة، ولا يوجد دليل صريح في إيجاب العارية.
المناقشة: محصَّله المطالبة بالدليل، وقد أقامه أصحاب القول الثاني.
الدليل الثامن -وهو دال على الجواز-: عن أنس رضي الله عنه قال: كان فزعٌ بالمدينة فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب فركب فلما رجع قال: «ما رأينا من شيء وإن وجدناه بحرًا» (4).
الدليل التاسع -وهو دال على الجواز أيضًا-: عن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعًا يوم حنين فقال: أغصبٌ يا محمد؟ فقال: «لا بل عارية مضمونة» (5)، وفي
(1) رواه الترمذي، أبواب الزكاة، باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك (2/ 6)(ح 618)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب ما أُدّي زكاته فليس بكنز (3/ 8)(ح 1788)، قال الترمذي:(حسن غريب) وفيه دراج أبو السمح، وهو ضعيف؛ لذا ضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه"، ولكنه رجع عن تضعيف دراج وحسَّن حديثه آخرًا إلا في أبي الهيثم (السلسلة الصحيحة 7/ 3/1383 ح 3470).
(2)
رواه ابن ماجه، الموضع السابق (3/ 9)(ح 1789)، وهو ضعيف، علته شريك النخعي وأبو حمزة ميمون الأعور، وفي متنه اضطراب، وينظر مجموع الفتاوى (29/ 185 - 196).
(3)
المغني 7/ 340.
(4)
رواه البخاري، كتاب الهبة، باب من استعار من الناس الفرس (3/ 165)(ح 2627)، ومسلم، كتاب الفضائل (7/ 72)(6007)، بحرًا: أي واسع الجري كالبحر.
(5)
رواه أبوداود، كتاب البيوع، باب في تضمين العارية (5/ 414)(ح 3562)، والنسائي في "السنن الكبرى"، كتاب العارية والوديعة (2/ 888)(ح 5747)، وأحمد (24/ 12 - 13)(ح 15302) وغيرهم، قال الترمذي:(سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هذا الحديث فيه اضطراب، ولا أعلم أن أحدًا روى هذا غير شريك. ولم يُقَوِّ هذا الحديث) العلل ص 188، وممن أعله بالاضطراب ابن عبد البر وابن التركماني، وأعله ابن حزم وابن القطان وابن عبد الهادي، وقال أبو نعيم:(محفوظ)، وصححه الحاكم، وقواه بمجموع طرقه البيهقي وابن كثير. المستدرك 3/ 48 - 49، المحلى 9/ 174، البدر المنير 6/ 748، الجوهر النقي 6/ 89 - 90، التنقيح 4/ 157، إرشاد الفقيه 2/ 67، التلخيص الحبير 4/ 1902.
حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: يا رسول الله أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: «بل مؤداة» (1).
أدلة وجوب العارية:
الدليل الأول: قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة: (2).
وجه الاستدلال: أن الأمر للوجوب متى كانت العارية برًا وتقوى.
المناقشة: أنه ورد صارف له إلى الاستحباب، كما في أدلة القول السابق.
الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} الماعون: (7).
وجه الاستدلال: ذم عز وجل مانع العارية، والذم لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، والماعون العارية، كما قاله ابن عباس وابن مسعود وأم عطية رضي الله عنهم وسعيد بن جبير والطبري، وقال:(وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب -إذ كان الماعون هو ما وصفنا قبل، وكان الله قد أخبر عن هؤلاء القوم، وأنهم يمنعونه الناس، خبرًا عامًا، من غير أن يخص من ذلك شيئًا- أن يقال: إن الله وصفهم بأنهم يمنعون الناس ما يتعاورونه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة والمسكنة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق؛ لأن كل ذلك من المنافع التي ينتفع بها الناس بعضهم من بعض)(2)، وكلام الطبري يشعر بأنه يرى الوجوب عند الحاجة.
المناقشة: أن عليًا وابن عمر رضي الله عنهم والحسن وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير ومحمد بن الحنفية والضحاك وقتادة فَسَّروا الماعون بالزكاة، كما عند الطبري.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: «إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحملٌ عليها في سبيل الله» (3).
وجه الدلالة: أن هذا الوعيد لا يكون إلا على ترك واجبٍ، وليس لمعترض أن يحمل الحق في الحديث على الزكاة؛ لأنه لا تفسير بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإعارة في حقها،
(1) رواه أبوداود، الموضع السابق (5/ 419)(ح 3566)، والنسائي في "الكبرى"(2/ 888)(ح 5744 - 5745)، وأحمد (29/ 471)(ح 17950)، وصححه ابن حبان (ح 4720) وابن الملقن، وقال ابن حزم:(هذا حديثٌ حسنٌ ليس في شيء مما روي في العارية خبرٌ يصح غيره، وأما ما سواه فلا يساوي الاشتغال به) المحلى 9/ 173، وينظر زاد المعاد 3/ 422 - 423.
(2)
تفسير الطبري 24/ 666 - 678، وسنن أبي داود (ح 1657)، وسنن البيهقي 6/ 88، والمحلى 9/ 168.
(3)
رواه مسلم، كتاب الزكاة (3/ 74)(ح 2297).