الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحق هو الواجب.
المناقشة: حمل الحديث على هذه الصورة، ويبقى حكم الأصل على عدم الوجوب؛ جمعًا بين الأدلة.
الترجيح
الراجح أن العارية مستحبة، ويعرض لها الوجوب، كما في الحالات المذكورة في القولين الآخرين؛ لأنها مقيدة بما يخرجها عن حال الأصل، لا سيما وقد قال الروياني:(وكانت واجبة أول الإسلام؛ للآية السابقة ثم نسخ وجوبها وصارت مستحبة) قال في "مغني المحتاج": (أي أصالةً)(1).
سبب الترجيح: أن في هذا توفيقًا وجمعًا بين الأدلة.
المطلب الثاني: حكم إعارة المعار
.
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على جواز إعارة المستعير للعارية إذا أذن له المعير (2)، وعلى عدم جواز إعارة المستعير للعارية إذا منعه المعير من ذلك (3)، واختلفوا في إعارة المستعير للعارية في حال الإطلاق على أقوال:
القول الأول: إذا أعاره وأطلق جاز للمستعير أن يعير غيره سواء كان المعار مما يختلف باختلاف المستعمِل أو لا، وإذا قيد الإعارة بأن ينتفع المستعير بنفسه فله أن يعير إذا كان لا يختلف باختلاف المستعمل، وهو قول الحنفية (4).
بيان هذا القول: إذا كان المعار يختلف باختلاف المستعمِل كإعارة السيارة أو الدابة ليركبها وقال للمستعير: لا يركبها غيرك فليس له أن يعير، وفي غير هذه الحالة له أن يعير.
القول الثاني: يجوز إعارة المعار، وهو قول المالكية (5).
(1) 2/ 340.
(2)
مغني المحتاج 2/ 341، نهاية المحتاج 5/ 88، المغني 7/ 348، الإنصاف 15/ 97 وقال:(محل الخلاف إذا لم يأذن المعير له، فأما إن أذن له فإنه يجوز قولًا واحدًا، وهو واضح) يحتمل قولًا واحدًا في المذهب، أما الحنفية والمالكية فالأصل عندهم جواز إعارة المعار كما سيأتي -إن شاء الله-.
(3)
درر الحكام 2/ 367 وجعلها من فروع قاعدة (لا اعتبار للدلالة في مقابلة التصريح)، مواهب الجليل 7/ 297، الفواكه الدواني 2/ 263، أما الشافعية والحنابلة فالأصل عندهم المنع من إعارة المعار كما سيأتي -إن شاء الله-.
(4)
بدائع الصنائع 6/ 340، نتائج الأفكار 7/ 106 - 107، مجمع البحرين ص 485، مجمع الضمانات 1/ 164، وقارن بالروض المربع (تحقيق المشايخ) 7/ 179، والتقييد ليس مثل التصريح بالمنع.
(5)
مواهب الجليل 7/ 297 - 298، الفواكه الدواني 2/ 263، حاشية الدسوقي 3/ 433، بلغة السالك 2/ 205، والمالكية يوافقون الجمهور فيما إذا منع المعير من الإعارة، وليس كما في تحقيق المشايخ للروض المربع:(الجواز مطلقًا).
القول الثالث: لا يجوز إعارة المعار، وهو قول الشافعية (1) والحنابلة (2) والكرخي من الحنفية (3).
القول الرابع: للمستعير أن يعير إذا وَقَّت له المعير وقتًا وإلا فلا، وهو قولٌ للحنابلة (4).
الأدلة:
دليل الجواز مع وجود الإذن: عموم الإجماع الذي نقله ابن المنذر: (وأجمعوا كذلك لا اختلاف بينهم أن له أن يستعمل الشيء المستعار في ما أذن له أن يستعمله فيه)(5).
ودليل المنع مع وجود المنع من المعير: عموم أدلة حرمة مال غيره.
وأدلة محل النزاع هي:
دليل القول الأول: إذا صدرت الإعارة مطلقة مَلَكَ المستعير ولاية الإعارة بغير تفصيل، لما سيأتي من أدلة القول الثاني، فإذا صدرت مقيَّدة بأن ينتفع بها المستعير بنفسه فلا يملك المستعير ولاية الإعارة إلا في ما لا يختلف باختلاف المستعمل؛ رفعًا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره (6).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون المدينةَ من مكة وليس بأيديهم -يعني شيئًا- وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة، وكانت أمه أم أنس أم سليم
…
فكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقًا فأعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد (7).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار العذاق وأعارها لأم أيمن رضي الله عنها، واستعارةُ ثمر النخيل تسمى عريّة، وهي في معناها، لذا قال في "الفتح":(وفي الحديث مشروعية هبة المنفعة دون الرقبة)(8).
(1) الوسيط 3/ 367، نهاية المطلب 7/ 144، المهذب 15/ 447، حاشيتا قليوبي وعميرة 3/ 18.
(2)
المغني 7/ 347، الإنصاف 15/ 95، الروض المربع 7/ 179 - 180، كشاف القناع 9/ 218.
(3)
المبسوط 11/ 143، تحفة الفقهاء 3/ 283.
(4)
الإنصاف 15/ 97، تقرير القواعد 2/ 291.
(5)
الأوسط 11/ 353.
(6)
نتائج الأفكار 7/ 107، العناية على الهداية 7/ 107.
(7)
رواه البخاري، كتاب الهبة، باب فضل المنيحة (3/ 165)(ح 2630)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير (5/ 162)(ح 4603).
(8)
9/ 211.
المناقشة: أن ذلك كان بإذن المعير، وهي أم أنس رضي الله عنها قطعًا بدلالة الحال.
الجواب: لو ثبت عندنا نص ينافي هذا الحكم لساغ لنا أن نحمل الحديث على هذا المحمل، لكن ما ذكره المانعون من حججٍ إنما هي عمومات لا تقاوم هذا الفعل المختص بمحل النزاع والدالِّ على الجواز دون ذكر للإذن أو النهي من المعير.
الرد: أن القرائن معتبرة في المعاملات، وهنا قامت قرينة إذن بالإعارة، فالصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يخيِّرون النبي صلى الله عليه وسلم في أموالهم ابتداءً فكيف يترددون في الإذن بإعارته المعار؟ وعليه فمتى قامت قرينة تدل على خلاف الأصل الذي دلت عليه النصوص السابقة عُمِل بها، كمن أعدَّ مالًا للإعارة وعُلِم من حاله الإذن لكل أحد، ولو جاءه المستعير الثاني ابتداءً لأعاره.
الدليل الثاني: أن العارية تمليك للمنفعة فيجوز أن يعيرها قياسًا على إجارة المستأجر.
المناقشة:
1.
الإجارة مِلكٌ للمنفعة من كل وجه، أما العارية فملك للاستيفاء على وجه ما أُذن له، فأشبه مَن أبيح له أكل الطعام (1).
2.
عدم التسليم بأن العارية تمليك منافع بل هي إباحة.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: (58)، والعارية أمانة، وفي إعارتها تفريط ومنافاة لأدائها لأهلها؛ لأنه أداها لغير أهلها.
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (2)، والمال يشمل الأعيان والمنافع، ولم تطب نفس المالك هنا بإعارة ماله.
الدليل الثالث: أن الناس يتفاوتون في الاستعمال، والمعير لم يرض باستعمال غير المستعير للعارية، كما أنهم يتفاوتون في الذمم.
الدليل الرابع: أنه يجوز -بإجماع- أن يعير من غير أجل (3)، وعليه فيجوز أن يرجع في أي وقت، فدلَّ على أن المستعير لا يملك أن يعير؛ لأنه سيفوت على المعير أخذ حقه متى شاء.
الدليل الخامس: قياس العكس على الإجارة، فالإجارة تمليك للمنفعة اشترط فيها الأجل فجاز للمستأجر أن يؤجر، والعارية لم يشترط فيها الأجل، فليست تمليكًا للمنفعة، وعليه فليس للمستعير أن يعير.
(1) المغني 7/ 347 - 348.
(2)
سبق تخريجه ص 176.
(3)
بدائع الصنائع 6/ 339.
المناقشة: أن بيان الأجل في الإجارة للتحرُّز من الجهالة المفضية إلى المنازعة، ولا يَرِدُ ذلك في العارية؛ لأنها عقد جائز غير لازم (1).
الجواب: أن قياس العكس يقتضي التنافي في العلة، وليس الاشتراك فيها، وما ذُكر من التفريق بينهما يلزم منه اختلاف حكم الإجارة عن العارية، وهو المطلوب إثباته.
الدليل السادس: أن العارية إباحة منافع، وليست تمليكًا، فلم يجز أن يبيحها غيره قياسًا على إباحة الطعام، والحنفية يوافقون في حكم الأصل (2).
المناقشة: أن في هذا الدليل مصادرةً بالمطلوب، فإن منشأ الخلاف في حقيقة العارية، والحنفية والمالكية يرون العارية تمليك منافع.
الدليل السابع: أن في إعارتها تعريضًا لها للتلف أو النقص.
الدليل الثامن: أن المعير لم ينقطع حقه في العارية، فلو جاز للمستعير أن يعير لتضرر المعير بذلك، ولا ضرر ولا ضرار.
الدليل التاسع: قياسًا على منع المستعير من الإجارة، والحنفية يوافقون على حكم الأصل.
دليل القول الرابع: يمكن أن يستدل له بالجمع بين الدليل الرابع للقول الثالث وأدلة الجواز؛ فإذا وقت المعير وقتًا فجاز له أن يعير سواء قلنا: مَلَك المنفعة فيها أو أبيحت له، وإذا لم يوقّت فللمعير أن يرجع متى شاء فليس له أن يعير.
منشأ الخلاف:
يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى حقيقة العارية، وفيها قولان:
القول الأول: أنها تمليك للمنافع، وهو مذهب الحنفية (3) والمالكية (4).
القول الثاني: أنها إباحة للمنافع (5)، وهو مذهب الشافعية (6) والحنابلة (7) والكرخي من الحنفية (8) وابن حزم (9).
(1) بدائع الصنائع 6/ 339.
(2)
ينظر: المغني 7/ 347، تكملة المجموع 15/ 449.
(3)
خلاصة الدلائل 1/ 562، اللباب 3/ 498.
(4)
مواهب الجليل 7/ 297، الفواكه الدواني 2/ 263.
(5)
وفي معناها: أن العارية هبة منافع. الإنصاف 15/ 65.
(6)
مغني المحتاج 2/ 340، كفاية الأخيار ص 334.
(7)
الشرح الكبير 15/ 63، الروض المربع 7/ 166.
(8)
المبسوط 11/ 143، تحفة الفقهاء 3/ 283.
(9)
المحلى 9/ 168.
فمن قال إنها إباحة منافع منع المستعير من الإعارة بلا إذن أو كان ذلك لازم قوله، ومن قال إنها تمليك أجاز الإعارة للمستعير.
وإن كان يَرِد عليه التفريق بين تمليك المنفعة وتمليك الانتفاع (1).
الأدلة:
دليل القول الأول: أن المعير سلّط المستعير على تحصيل المنافع وصرفها إلى نفسه على وجه زالت يده عنها، والتسليط على هذا الوجه يكون تمليكًا لا إباحة كما في الأعيان (2).
المناقشة: اليد الحكمية للمعير باقية على العارية بدليل ملك استرجاعها وتعلق حقه بالعين؛ لأنه إنما أعطى المنفعة.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أنها تبرعٌ لم يتصل به القبض فلا يملك به الإعارة كالهبة.
الدليل الثاني: أن المستعير لو ملك بالإعارة ذلك لملك الاعتياض عنها كالمشتري والموهوب (3).
الترجيح
الراجح أن العارية إباحة، وأن المستعير ليس له أن يعير إذا أطلق له المعير الإعارة.
سبب الترجيح:
1.
الأدلة المذكورة.
2.
البقاء على الأصل، وهو حرمة مال غيره واحترامه، وحفظه من التصرف غير المأذون فيه.
3.
أن في ذلك تحقيقًا لمصلحة الشارع في سد باب الخصومات، وحفاظًا على مبدأ الإحسان والبذل؛ لأن جواز إعارة المعار يجعل أرباب العواري يمتنعون عن العارية خشية ضياعها أو تلفها أو نقصها ونحو ذلك.
تنبيه:
إذا أعار المعير فتلفت العارية عند المستعير الثاني فاختلف العلماء في ضمان العارية (4).
(1) الفروق للقرافي، الفرق الثلاثون 1/ 323، حاشية الدسوقي 3/ 433، بدائع الفوائد 1/ 4 - 5، تقرير القواعد، قاعدة 86 (2/ 283)، المدخل الفقهي العام 1/ 373.
(2)
بدائع الصنائع 6/ 339.
(3)
تكملة المجموع (الاستقصاء للماراني) 15/ 449.
(4)
مجمع الضمانات 1/ 164، الأوسط 11/ 365، المغني 7/ 347.