الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر: تورُّق المتورِّق (إعادة التورُّق)
، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف التورق وحكمه
.
تعريف التورق
التورق لغة مصدر تورَّق، وهو تفعُّلٌ من الورق، وفي "مقايس اللغة":(الواو والراء والقاف أصلان يدل أحدهما على خير ومال، وأصله ورق الشجر، والآخر على لون من الألوان)(1) وذكر في "القاموس المحيط" أن الوَرْق مثلَّثةً والوَرِق والوَرَق: الدراهم المضروبة، ويطلق الورّاق على الكثير الدراهم، ويقال: أورق: كثُر ماله ودراهمه (2).
هذه أقرب المعاني اللغوية للمعنى الاصطلاحي، وجاء في أثر عن إياس بن معاوية رحمه الله ذكر التورق، كما سيأتي، علاوةً على أنه لا يشترط في استعمال اللفظ في المعنى الاصطلاحي الحادث أن يسبقه استعمالٌ في اللسان لذلك المعنى، ولا تأثير لذلك في الحكم؛ لأن هذاه المعاملة معروفة ومنصوص على حكمها بأسماء مختلفة، والعبرة بالحقائق لا بالألفاظ، وقد أجاز بعض العلماء إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق (3).
والتورق اصطلاحًا أن يشتري محتاجُ النقدِ سلعةً بثمنٍ مؤجَّل فيبيعها على آخر بثمن حالّ، وهذه المعاملة ذكرها بعض الأئمة والفقهاء، نصًّا أو ضمنًا، ووردت تسميتها بالتورق لدى الحنابلة (4)، وسماها بعض الشافعية بالزَّرْنَقة (5)، وبالعينة الجائزة (6)، وذكرها بعض الحنفية (7) والمالكية (8) في صور العينة، وفرقوا بينهما في الحكم، والعينة أن يشتري من شخصٍ سلعةً بنقد ويبيعها عليه بثمن مؤجل أو حالّ لم يقبض (9)، ولها صور فروع.
(1) مادة ورق 6/ 101.
(2)
مادة ورق ص 928.
(3)
الإعلام 10/ 199، وينظر: الصاحبي ص 6،57، روضة الناظر 2/ 5، 7.
(4)
مجموع الفتاوى 29/ 302، تهذيب السنن 5/ 108، الفروع 6/ 316، الإنصاف 11/ 195 - 196، كشاف القناع 7/ 383، الروض المربع 6/ 88.
(5)
النهاية، مادة زرنق ص 397، لسان العرب، مادة زرنق 12/ 6، والمرجع التالي.
(6)
الزاهر ص 143، مع ملاحظة أن العينة جائزة عند الشافعية.
(7)
المبسوط 11/ 229.
(8)
مواهب الجليل 6/ 294.
(9)
هذا تعريف العينة في جميع المذاهب، عند من حرمها -وهم الجمهور- ومن أباحها، ينظر -مثلا-: المبسوط 19/ 93، المدونة 4/ 432، مواهب الجليل 6/ 293، العزيز شرح الوجيز 4/ 135 - 137، تكملة المجموع للسبكي 11/ 151، الروض المربع 6/ 81، لكن المالكية يوسِّعون تعريف العينة ويقسمونها إلى جائزة ومحظورة ومكروهة، ينظر -مثلا-: البيان والتحصيل 7/ 86، الذخيرة 5/ 16.
حكم التورق
التورق بهذه الصورة يسمى أيضًا التورق الحقيقي أو العادي أو الفقهي، تمييزًا لها عن التورق المصرفي -المشهور بالتورق المنظَّم-، ويأتي بيانه -بإذن الله-، وقد اختلف العلماء في التورق الحقيقي على ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز التورق مع الكراهة، وهو قول الحنفية (1) والمالكية (2) ورواية عن
(1) المبسوط 11/ 229 ولم يذكر كراهةً، ونص على العينة المحرمة وأنها البيع على البائع الأول -كما سبق- في 19/ 93، حاشية ابن عابدين 7/ 655، ونص في "العناية"(5/ 424) على كراهة العينة -وليس التورق-، وفي "فتح القدير"(5/ 424) على صورة العينة الثلاثية.
(2)
في "الموطأ" 2/ 130 جواز شراء العبد بالأعبد إلى أجل معلوم، وجواز بيعه نقدًا لغير البائع، وهذه صورة التورق، ولفظه:(قال مالك: والأمر عندنا أنه لا بأس بأن يبتاع العبد التاجر الفصيح بالأعبد من الحبشة، أو من جنس من الأجناس، ليسوا مثله في الفصاحة، ولا في التجارة والنفاذ والمعرفة، لا بأس بهذا، أن يشتري منه العبد بالعبدين، أو بالأعبد إلى أجل معلوم، إذا اختلف، فبان اختلافه، فإن أشبه بعض ذلك بعضًا، حتى يتقارب، فلا تأخذن منه اثنين بواحد، إلى أجل، وإن اختلفت أجناسهم. ولا بأس بأن تبيع ما اشتريت من ذلك، قبل أن تستوفيه، إذا انتقدت ثمنه من غير صاحبه الذي اشتريته منه) وكذلك 2/ 185 - 186، أما الكراهة فقد قال ابن تيمية:(والكراهة قول عمر بن عبد العزيز، ومالك فيما أظن) الظن في النسبة لمالك فقط، وقال في موضع آخر:(فكرهه عمر بن عبد العزيز وطائفة من أهل المدينة من المالكية وغيرهم) مجموع الفتاوى 29/ 30، 302، وهو قول ابن مزين منهم، في "مواهب الجليل" 6/ 294:(وذكر ابن مزين: لو كان مشتري السلعة يريد بيعها ساعتئذ فلا خير فيه، ولا ينظر إلى البائع كان من أهل العينة أم لا، قال: فيلحق هذا الوجه بهذه الصورة على قوله بالمكروه ا. هـ، فيكون على ما ذكره عياض هذا الوجه مختلفا فيه، والمشهور أنه جائز، وقول ابن مزين إنه مكروه، ولم يحك ابن رشد في جوازه خلافا)، وبعض الباحثين نسب للمالكية القول بالمنع وليس كراهة التنزيه أخذًا من نصٍّ في "البيان والتحصيل" 7/ 85 - 86، 102، 212، و"عقد الجواهر الثمينة" 2/ 453، و"الذخيرة" 5/ 18 في رجل عَيّن رجلًا فباعه طعامًا بثمن إلى أجل، على أن ينتقد من ثمنه دينارًا أنه لا خير في ذلك إن كان البائع من أهل العينة، وكذلك رجل باع طعامًا أو زيتًا أو غير ذلك، وهو ممن يعين، فباعه متاعًا بثمن إلى أجل، فباعه الذي اشتراه، ثم جاءه بعد ذلك، فقال: إني قد وضعت فيما بعت وضيعةً كثيرةً، فخفف عني من الثمن الذي بعتني به، فوضع له من ذلك، ومن نصٍّ في مختصر خليل:(وكره خذ بمائة ما بثمانين)، وكل هذه النصوص ليست في محل البحث، فالمعاملة الأولى مشروط فيها أن ينقده شيئًا من الثمن، وفي التورق الثمن مؤجل أو منجم، والمعنى الذي لأجله كرهه مَن كرهه نص عليه في "البيان والتحصيل" 7/ 212:(إنما كرهه كأنه قال له: بع من هذا الطعام بدينار فأعطني، وما بقي من الطعام فهو لك بما بقي من الثمن إلى أجل) وفي 7/ 102: (وذلك غرر، إذ لا يدري ما يبقى له من الطعام إذا باع منه بدينار) وهذا المعنى غير موجود في التورق، وفي المعاملة الثانية مراوضة على ثمن اتفقا عليه وحيلة على الربا كما في "البيان والتحصيل" 7/ 85، وهذا قدر زائد على صورة التورق، وهي محل الكراهة عندهم بتصريحهم؛ لذا اختص المنع بأهل التهم والريبة من أهل العينة، بل قال أبو إسحاق التونسي المالكي:(وكأنه إنما عقد معه على أنه ما صح لك فيها ربحتُ عليك فيه الدرهم درهمًا أو نصفًا، فصار أصل المبيع الأول لا يعلم ما ثمنه إلا بعد بيعه، وهذا لمن يشتري ليبيع، ويجوز هذا لمن أراد أن يأكل أو ينتفع). تكملة المجموع للسبكي 11/ 159، وهذا المعنى غير موجود في التورق، وأما النص الثالث فهو مبتور، وتمامه:(وكره خذ بمائة ما بثمانين -أو اشتره- ويومئ لتربيحه) فليست الكراهة في بيع شيء بأكثر من ثمنه سواء حالا أو مؤجلا، وإنما في الصورة كلها وهي من صور العينة التي نص عليها ابن رشد، وتتابعوا على نقلها منه، وينظر "مواهب الجليل" 6/ 294، وما في "المدونة" 4/ 593 - التي هي أصل عامة المتون والشروح للمالكية وعنها تفرعت-: (قلت: أرأيتَ من اشترى سلعةً بدينٍ إلى أجلٍ أيجوز له أن يبيع مرابحةً نقدًا؟ قال: قال مالك: لا يصلح له أن يبيعها مرابحة إلا أن يُبيِّن
…
قلت: فإن كانت القيمة أكثر مما باعها به؟ قال: فليس له إلا ذلك يُعجِّل له ولا يؤخر) فهذه مرابحة وليست تورقًا محضًا.
وينظر في نسبة المنع للمالكية: موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة ص 914، قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 333 - 334.
الإمام أحمد (1).
القول الثاني: جوازه بلا كراهة، وهو قول إياس بن معاوية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) وأبي يوسف (5) وبه صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع للرابطة (6) وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7)، وغيرهم (8).
القول الثالث: تحريمه، وهو قول عمر بن عبد العزيز (9)، ورواية عن أحمد (10)، وقول ابن تيميّة (11) وظاهر قول ابن قيم الجوزية (12) وبعض المعاصرين (13).
(1) الفروع 6/ 316، الإنصاف 11/ 195 - 196.
(2)
رواه ابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية، مَن كره العينة (10/ 526)(ح 20525)، ولفظه:(أنه كان يرى التورق. يعني العينة) وفسره ابن القيم وغيره بالمعنى الاصطلاحي للتورق. تهذيب السنن 5/ 108، وقد ينازع في ذلك.
(3)
الأم 3/ 78 - 79، والشافعية يبيحون العينة فالتورق من باب أولى -بالإضافة للنص على التورق في الأم-، ينظر -مثلا: نهاية المطلب 5/ 311، تكملة المجموع للسبكي 11/ 148 - 157.
(4)
الفروع 6/ 316، الإنصاف 11/ 195 - 196، كشاف القناع 7/ 383، الروض المربع 6/ 88.
(5)
حاشية ابن عابدين 7/ 655.
(6)
في دورته الخامسة عشر، بتاريخ 11/ 7/1419، فقه النوازل للجيزاني 3/ 252.
(7)
فتاوى اللجنة الدائمة 13/ 161، فتوى رقم 16402، 19297.
(8)
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 7/ 61، إرشاد أولي البصائر والألباب لابن سعدي ص 99، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز 19/ 93، 245، في فقه المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة لنزيه حماد ص 175 - 176، بحوث في الاقتصاد الإسلامي للقره داغي ص 13، بيع التقسيط وأحكامه ص 72 - 73، وقيده آخرون بالحاجة: المعايير الشرعية، المعيار الشرعي للتورق، البند 5/ 1، ص 493، الشرح الممتع 8/ 220.
(9)
رواه ابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية، مَن كره العينة (10/ 527)(ح 20528)، ولفظه:(جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد: أن انْهَ مَن قِبَلك عن العينة، فإنها أخت الربا) وفسره ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بالمعنى الاصطلاحي للتورق. مجموع الفتاوى 29/ 30، 303، 500، تهذيب السنن 5/ 108.
(10)
الفروع 6/ 316، الإنصاف 11/ 195 - 196.
(11)
مجموع الفتاوى 29/ 302، 303، 431، 434، 496، ومراده بالكراهة في بعض هذه المواطن التحريمية، كما تفسره المواطن الأخرى، وكما في الأخبار العلمية ص 190، وفي "إعلام الموقعين" 5/ 86:(وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر، فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حُرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه).
(12)
إعلام الموقعين 5/ 86، 130.
(13)
موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة ص 897 - 949، قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 340 - 341.
الأدلة:
دليل القول الأول: يدل على الجواز أدلة القول الثاني، أما الكراهة فدليله ما في التورق من الإعراض عن مبرة القرض (1)؛ لأن التورق يقضي حاجة المقترض ويحقق ربحًا بالبيع الآجل للمقرض، فيعدلان عن القرض إليه.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن التورق فيه بيع بالأجل أو بالتقسيط، وذلك جائز؛ لقوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} البقرة: (282) وفيه بيع حالٌّ على طرف ثالث، غير البائع الأول، وذلك جائز؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} البقرة: (275)، وليس بين العقدين ارتباط يمنع الجواز أو الصحة.
المناقشة:
1.
التورق معاملة تجمع عقدين، وحكم الجمع يخالف حكم التفريق، ولفظ البيع في الآية لا يتناول صورة التورق (2).
الجواب: أن الأصل جواز اجتماع عقدين أو اشتراط أحدهما في الآخر، إلا أن يكون الجمع بينهما محل نهي، كما في العينة، أو أن يكون أحدُ العقدين معاوضةً والآخر تبرعًا مع اشتراط أحدهما في الآخر، كالقرض بشرط الهبة، أو يكون العقدان متعارضان، كاجتماع البيع والإجارة في زمن واحد على طرف واحد، أو يكون اشتراط أحدهما في الآخر وسيلةً إلى محرم، كبيع الوفاء، فهو وسيلة إلى ربا الديون، وليس شيءٌ من ذلك موجودًا في التورق، والحاصل أن اجتماع العقدين لا يقتضي المنع لذاته، والمنع من اشتراط أحد العقدين في الآخر قول مرجوح (3).
2.
أن آية البقرة ردٌّ على شبهة المشركين القائلين: إن زيادة الثمن مقابل الأجل في البيع كزيادة الدين مقابل الزيادة في الأجل في الربا، والجواب أن منفعة التبادل الموجودة في البيع تجبر هذه الزيادة، فإذا لم تكن السلعة مقصودة للمشتري إلا لمجرد التحايل على التمويل انتفت منفعة التبادل (4).
(1) الهداية 5/ 424، الدر المختار 7/ 655.
(2)
قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 365 - 366.
(3)
ينظر الموافقات 3/ 477 - 483.
(4)
قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 367.
الجواب: أولا: الزيادة في الربا لازمة للبائع على المشتري، وفي التورق محتملة، وليست للبائع الأول.
ثانيا: القول بالموجب، سلمنا أن الفرق منفعة التبادل، ولكنها موجودة في محل الخلاف، فإن البيع في التورق ليس صوريًا، بل مشروط في البيعين جميعًا جميع شروط البيع وزيادة، مثل اشتراط ألا يكون المشتري الثاني هو البائع الأول أو وكيله أو كل من يعتبر البيع له في حكم إعادة للسلعة للأول، وقصد المشتري للسلعة كقصد التاجر والمضارب لها، كلهم يقصد منها قصدًا جائزًا، وهو ثمنها.
الدليل الثاني: أحاديث النهي عن بيع السلع حتى تُقبض (1)، فدلت بمفهوم الغاية على جواز بيعها إذا تم القبض، فمثلا في حديث حكيم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها وما يحرم عليَّ؟ قال:«فإذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه» فالشراء في هذا الحديث وغيره مطلق، يشمل الحالَّ الثمنِ والمؤجَّلَهُ، كما لم يعلق النهي بكون البيع الأول مؤجلا والثاني معجلا، مع أن المقام يستدعي بيان ذلك لو كان منهيًا عنه، مع عدم ورود النهي عنه في نص آخر، حتى لا يظن ظان أن حكيمًا رضي الله عنه كان عالمًا بالحكم.
الدليل الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا» (2).
وجه الدلالة: أن المحظور في واقعة الحديث بيع التمر بالتمر متفاضلا، وذلك عين الربا، والمخرج الصحيح من ذلك هو ما دلَّ إليه النبي صلى الله عليه وسلم، والمحظور في مسألتنا بيع السلعة على البائع الأول بأقل من الثمن الأول، وتلك العينة، التي هي من الربا، أما التورق السليم فليس البيع فيها على البائع الأول ولا من يقوم مقامه، وكأني بمن يحرم التورق -لو لم يرد هذا الحديث- يقولون من ابتاع الجمع بالدراهم واشترى بالدراهم جنيبًا محتال على الربا، والبيع صوري، والدراهم التي توسطت غير مقصودة لصاحب التمر، ونحو ذلك، وهذا ما قالوه في التورق، وكأنَّ هذا الحديث تعبدي غير معقول المعنى فلا يتعدى محله!
المناقشة (3):
(1) سبقت ص 41 - 43.
(2)
سبق تخريجه ص 28.
(3)
قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 370 - 375.
1.
أن هذا الحديث يُستدل به على جميع صور العينة: الثنائية والثلاثية والتورق، وجمهور مجيزي التورق لا يوافقون على الباقي، فما كان جوابًا لهم كان جوابًا لمانعي التورق.
الجواب: الذي أخرج العينة الثنائية من هذا الحديث ورود النهي عنها، والذي أخرج العينة الثلاثية أنها حيلة على الثنائية، وليس في التورق نصٌّ ولا معنى يقتضي إلحاقه بالعينة، ففي العينة ترجع السلعة للبائع ويكون أعطى نقودًا ليأخذ أكثر منها مؤجلة، وهذا ربا النسيئة والفضل، فأين هذا في التورق؟
2.
أن الحديث فيه بيع وشراء بثمن حاضر، فكيف يقاس عليه ما هو في الذمة غير مقبوض؟ وفيه بيع بمال حاضر، ومن يبيع بمال حاضر مستغن، أما من يشتري بدين فمحتاج، فكيف يقاس مستغن على محتاج؟ وفي الحديث الأمر بالبيع ثم بالشراء، وفي التورق بالعكس، فكيف يقاس عليه؟
الجواب: أما وجه القياس فقد تقدم، وأما ما ذُكر فكلها أوصاف طردية، لم يعتبرها الشارع، ولا علق عليها حكمًا ما، فأين في الشريعة تحريم البيع بالدين؟ وأين في الشريعة التفريق بين المستغني والمحتاج في البيع والشراء بمثل هذا المنطق؟ وما هو المعنى المؤثر في تقديم البيع على الشراء أو تأخيره؟
3.
أن المقصود في الحديث التخلص من التمر الرديء والحصول على الجيد، وهذا مقصود جائز، والمحذور مبادلة تمر بتمر مع التفاضل؛ لما يخشى من إفضائه إلى تأخير أحد البدلين، وهذا يحصل من تَكرار المبادلة لا من المبادلة بعينها، والمقصود في التورق شغل الذمة بلا مقابل، وهو المقصود المحذور في ربا النسيئة.
الجواب: إذا كان المقصود من التورق هو شغل الذمة بلا مقابل فالمقصود ببيع الجمع وشراء الجنيب مبادلة تمر بتمر، وليس الأمر كذلك، ثم إن المحذور هو عين المبادلة المشتملة على التفاضل، وليس المحذور هو تأخير أحد البدلين فقط، وقياس التورق على ربا النسيئة خطأ؛ لأن النسيئة التأخر بين بدلين وجد فيهما العلة الربوية، وفي التورق السليم البدلان لا يتحدان في العلة الربوية، كمن يشتري سيارة بنقود، فالتأخير هنا من البيع الآجل، ورحم الله ابن قيم الجوزية حين قال: (ولأرباب المقالات أغراضٌ في سوء التعبير عن مقالات خصومهم، وتخيُّرهم لها أقبح الألفاظ، وحسنِ التعبير عن مقالات أصحابهم، وتخيُّرهم لها أحسن الألفاظ، وأتباعُهم محبوسون في قيود تلك العبارات، ليس معهم في الحقيقة سواها، بل ليس مع المتبوعين غيرها، وصاحبُ البصيرة لا تهوله تلك العبارات الهائلة، بل يجرِّد المعنى عنها، ولا يكسوه عبارةً منها، ثم يحمله على محل الدليل السالم عن
المعارض، فحينئذٍ يتبين له الحق من الباطل، والحالي من العاطل) (1).
الدليل الرابع: نُقل الاتفاق على جوازه، جاء في "الزاهر":(وأما الزَّرْنَقة فهو أن يشتري الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يبيعها من غير بائعها بالنقد وهذا جائز عند جميع الفقهاء)(2) وفي "المصباح المنير": (فلو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس فهي عينةٌ أيضًا، لكنها جائزة باتفاق)(3).
المناقشة: هذه مراجع لُغَوية لا يحتج بها في نقل الاتفاق الشرعي، والخلاف قديم محفوظ.
الجواب: صاحب الزاهر فقيه قيل فيه: (وكان رأسًا في اللغة والفقه، ثقة ثبتًا دينًا)(4)، (أحد أئمة الشافعية)(5)(وكان إمامًا في اللغة، بصيرًا بالفقه، عارفًا بالمذهب، عالي الإسناد)(6)،
وصاحب المصباح كذلك، قيل فيه:(وكان فاضلًا عارفًا باللغة والفقه)(7)، وإن كان العالم ثقة في ما ينقله في اللغة فهو ثقة في ما ينقله في غيره.
الدليل الخامس: أن الأصل في العقود والمعاملات الحل والصحة حتى يدل دليل على المنع، سواء كان الدليلُ نصيًّا أم قياسيًّا، وقد ذكر صاحب "القبس" سبعًا وثلاثين من البيوع المنهي عنها (8)، ويضاف لها الربا والعينة، ليس في التورق ما يشبه شيئًا منها، ولا هو حيلةٌ على شيء منها.
الدليل السادس: استصحاب الإجماع، فقد نُقل الاتفاق على جواز الشراء لأجلٍ بغرض التجارة أو الانتفاع أو القنية (9)، ومن جهة أخرى فيه إلحاق التورق بمحل الإجماع بنفي الفارق (10)، فالشراء للانتفاع بالثمن داخلٌ في ذلك.
المناقشة: عدم التسليم بحجية هذا النوع من الاستصحاب (11).
الجواب: بقي الاستدلال بنفي الفارق.
(1) مفتاح دار السعادة 2/ 1027.
(2)
للأزهري، ص 143.
(3)
للفيومي، ص 259.
(4)
سير أعلام النبلاء 16/ 316.
(5)
طبقات الفقهاء الشافعيين 1/ 288.
(6)
طبقات الشافعية الكبرى 3/ 64.
(7)
الدرر الكامنة 1/ 314.
(8)
16/ 111.
(9)
مجموع الفتاوى 29/ 30.
(10)
ينظر فيه روضة الناظر 2/ 285 - 287.
(11)
ينظر فيه روضة الناظر 1/ 481.
الدليل السابع: قياس المتورق على التاجر الذي يشتري سلعةً بالآجل ويبيع بالنقد، وكما يشتري بالجملة ويبيع بالتفرقة، ولا يوجد فارقٌ مؤثرٌ بينهما.
المناقشة: التاجر يقصد الربح والمتورق يقصد الخسارة؛ لأنه يبحث عن النقد، ومن مقاصد الشريعة حفظ المال، ومن إضاعة المال شراء سلعة بثمن مرتفع وبيعها بثمن منخفض (1).
الجواب: عدم التسليم بأن المتورق يقصد الخسارة، بل هو يقصد الربح، ولو وجد السلعة تباع بالثمن الذي اشتراها به أو أكثر نقدًا لباع، فكيف يخالف قصده لو كان يقصد الخسارة؟ ولكن من المتيقن أن أي سلعة لا تباع نقدًا بالثمن الذي تباع به إلى أجل.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سَلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (2)، والعينة لغةً وشرعًا تشمل كل معاملة يراد بها الحصول على النقد الحاضر مقابل مال في الذمة أكثر منه، وقد سمى الفقهاء التورق عينةً.
المناقشة: جمهور العلماء من أهل اللسان والفقه يفرقون بين العينة والتورق صورةً وحكمًا، وإطلاق اسم العينة على التورق من جنس إطلاق الحسد على الغبطة والمتعة على القران ونحو ذلك، بدليل أن الذين استعملوا هذا الإطلاق خصوا التورق بحكم غير حكم العينة.
الدليل الثاني: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر (3)، والمتورق مضطر للحصول على النقد، وإلا لما لجأ إلى التورق، والنهي يقتضي التحريم، فدل على تحريم التورق، وقال الخطابي: (وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو، إلا أن
(1) قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 354 - 375،355 - 376.
(2)
رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة (5/ 332)(ح 3462)، واللفظ له، وأحمد (9/ 51، 8/ 440)(ح 5007، 4825)، قال أبو نعيم:(غريب من حديث عطاء عن نافع، تفرد به حيوة عن إسحاق) لكنه متابع، وأعله ابن حجر، وصححه ابن القطان وحسنه وجود إسناده ابن تيمية وحسنه ابن القيم وقال ابن عبد الهادي:(رجال إسناده رجال الصحيح)، وله شواهد أقواها حديث نهى عن بيعتين في بيعة. حلية الأولياء 3/ 319، بيان الوهم والإيهام 5/ 294 - 296، 772، مجموع الفتاوى 29/ 30، [إعلام الموقعين 5/ 78، تهذيب السنن 5/ 104: نقل فيهما كلام شيخه ابن تيمية متابعًا له]، الداء والدواء ص 115، المحرر (ح 890)، الدراية 2/ 151، التلخيص الحبير 4/ 1775.
(3)
رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في بيع المضطر (5/ 263)(ح 3382)، واللفظ له، وأحمد (2/ 252)(ح 937)، قال الخطابي والمنذري:(في إسناده رجل مجهول) وأعله ابن حزم والبيهقي والنووي والذهبي، وقال ابن القطان:(منقطع وإسناده ضعيف). معالم السنن مع مختصر السنن 5/ 47 - 48، المحلى 9/ 22، سنن البيهقي 6/ 16 - 17، المجموع 10/ 242، بيان الوهم والإيهام 2/ 157، 3/ 64، 5/ 771، ميزان الاعتدال 2/ 296.
عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه).
المناقشة:
أولا: الحديث ضعيف، ولا يتم الاستدلال به؛ لذلك.
ثانيا: قد بيَّن الخطابي قبل كلامه السابق أن بيع المضطر له وجهان، الإكراه والإلجاء إلى البيع، وهذا بيع فاسد، والاضطرار بسبب كالدين ونحوه، وهذا ينبغي أن يعان ولا يُبَايع على هذا الوجه، فإن اضطر وباع جاز ولم يُفسخ، ولم يقل بالتحريم في هذه الصورة.
ثالثا: ليس كل متورق مضطرًا.
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا، إنما ذلك ورق بورق) قال ابن عيينة: فحدثت به ابن شبرمة، فقال:(ما أرى به بأسا)، قال عمرو بن دينار: إنما يقول ابن عباس: (لا يستقيم بنقد ثم يبيع لنفسه بدين)(1)، والبائع في التورق يبين للمتورق أن سعر السلعة كذا، وأبيعها لك نسيئة بزيادة كذا، فدل على أن مقصوده دراهم بدراهم.
المناقشة:
أولاً: معنى الأثر الصحيح: إذا وكلت شخصًا في بيعٍ، وحددت له الثمن نقدًا، وجعلت الزيادة له، فباع بها نقدًا فلا بأس، وإن زاد فالزيادة له، فإن باعه -من نفسه أو غيره بذلك الثمن أو أكثر- نسيئةً فلا خير فيه، ودليل هذا التفسير أمور:
أولها: قول عمرو بن دينار -وهو راوي هذا الأثر عن عطاء عن ابن عباس-: إنما يقول ابن عباس: (لا يستقيم بنقد ثم يبيع لنفسه بدين) فإن ذلاك الفعل مخالفة صريحة لعقد الوكالة.
ثانيها: قول عطاء-وهو راوي هذا الأثر عن ابن عباس-: في الرجل يدفع إلى الرجل الثوب فيقول: بعه بكذا وكذا، فما استفضلت فهو لك، قال:(إن كان بنقد فلا بأس، وإن كان بنسيئة فلا خير فيه)(2).
ثالثها: تبويب عبد الرزاق لهذا الأثر: (باب الرجل يقول: بع هذا بكذا، فما زاد فلك. وكيف إن باعه بدين؟).
رابعها: في "غريب الحديث": (قوله: (إذا استقمت) يعني قوَّمتَ، وهذا كلام أهل مكة يقولون: استقمت المتاع يريدون: قومته، فمعنى الحديث أن يدفع الرجل إلى الرجل الثوب
(1) مصنف عبد الرزاق، كتاب البيوع، باب الرجل يقول: بع هذا بكذا، فما زاد فلك. وكيف إن باعه بدين؟ (8/ 236)(ح 15028)، ومعنى استقمت: قومت. مجموع الفتاوى 29/ 442، 496.
(2)
رواه ابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية (10/ 582)(ح 20778).
فيقومه بثلاثين ثم يقول: بعه بها فما زدت عليها فلك. فإن باعه بأكثر من ثلاثين بالنقد فهو جائز، ويأخذ ما زاد على الثلاثين، وإن باعه بالنسيئة بأكثر مما يبيعه بالنقد فالبيع مردود لا يجوز، وقد كان هشيم يحدثه بقريب من هذا التفسير إلا أنه كان يحدثه بغير لفظ سفيان بن عيينة، قال: حدثناه هشيم قال أخبرنا عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسًا أن يدفع الرجل إلى الرجل الثوب فيقول: بعه بكذا وكذا فما زدت فهو لك) (1).
خامسها: أنه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا ونسيئة بكذا. ولكن لا يفترقا إلا عن رضا (2). أي رضا بأحد الخيارين، وفيه أنه قومها بالنقد ابتداءً فإذا اختار شراءها بثمن النسيئة يكون استقام بنقد وباع بنسيئة.
ثانيًا: إذا ثبت هذا فليس في التورق توكيل ولا مخالفة، كما أنه لا مقتضي لتحريم التقويم بالنقد والبيع بالنسيئة أصلًا، فإن كانت الكراهة في بيع النسيئة مطلقًا دخل فيه بيع الأجل بغرض الانتفاع والتجارة.
الدليل الرابع: أن التورق فيه المعنى الذي لأجله حُرم الربا مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، والشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه (3)، والمعنى شغل ذمة المدين بالزيادة بلا مقابل، وهو الظلم الذي لأجله حرم الربا.
المناقشة:
أولا: المعنى الذي لأجله حرم الربا شغل ذمة المدين بزيادة الدين الأول بلا مقابل، وهذا يتضح بما يلي:
إذا أقرض شخصٌ شخصًا ألفًا على أن يردها ألفًا ومائة بعد شهر، فهذا من ربا الفضل والنسيئة، وفيه شغل ذمة المدين بزيادة على قدر الدين بمقدار مائة، بلا مقابل، وإذا اشترى سلعة بخمسين يدفعها بعد عشرة أيام، وكلما تأخر يومًا زاد عليه خمسًا، فهذا كذلك.
ثانيًا: ليس في التورق هذا المعنى، فالشراء من بائع إلى أجل في ما لا يشترط فيه التقابض، بلا زيادة في السعر مقابل التأخير بيعٌ جائزٌ، ثم المشتري يتصرف في السلعة بما يلبي حاجته ما لم
(1) غريب الحديث لأبي عبيد 4/ 232، والنهاية ص 778، وأثر ابن عباس الثاني رواه البخاري تعليقاً مجزومًا به، كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة (3/ 92)، ووصله عبد الرزاق (ح 15020)، وابن أبي شيبة (ح 20770)، والجواز مذهب ابن سيرين وشريح والشعبي والزهري والحكم وأحد قولي عطاء والحنابلة، وذهب الحسن والنخعي لكراهته، ومنع الجمهور وجعلوا له أجرة المثل. المراجع السابقة، فتح الباري 6/ 43، المغني 7/ 261.
(2)
رواه ابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية (10/ 592)(ح 20826).
(3)
إعلام الموقعين 5/ 86.
يبعها على البائع الأول؛ لأنه ببيعها على البائع الأول بثمن أقل يكون قد وقع في المحظور من شغل الذمة بالزيادة في الدين الأول بلا مقابل.
ثالثًا: لو فُرض جدلًا أن هذا المعنى موجود في التورق، ففيه معنى آخر هو به ألصق وأشبه، وهو الشراء بالأجل بقصد القنية أو التجارة، فكذلك قصد الثمن.
الترجيح
الراجح جواز التورق، وله شروط:
الأول: توفر شروط البيع.
الثاني: أن تكون السلعة مما لا يشترط في بيعها التقابض، فلا يصح التورق في العملات ولا الذهب ولا الفضة.
الثالث: أن يكون البائع الأول مالكًا للسلعة وقابضًا لها قبضًا حقيقيًّا أو حكميًّا.
الرابع: أن يقبض المتورق السلعة من البائع الأول قبل بيعها للطرف الآخر.
الخامس: أن يكون المشتري من المتورق غير البائع الأول، ولا يقوم مقامه، فلا يكون وكيلًا عنه ولا موزعًا لمبيعاته ولا نحو ذلك.
السادس: ألا يشترط البائع على المتورق غرامات تأخيرية.
• إذا تقرر ذلك فمن صور التورق: التورق المصرفي، وهي تسمية حديثة وإن كانت المعاملة قديمة، وصورته أن يشتري العميل السلعة من المصرف، مع توكيله المصرفَ في بيعها.
وأشهر صوره أن تكون هذه السلعة غالبًا متعسرة النقل، كالمعادن الدَّوْلية، ويكون قبضها الحكمي بتسلُّم إيصالات المخازن المتضمنة للبيانات الكاملة عن السلعة، فيشتريها المصرف بطلب من المتورق -وهذه مرابحة للآمر بالشراء- ثم يبيعها على المتورق بالأقساط، ويوكل المتورق المصرف ببيعها له، كل هذا يتم في مجلس واحد، بعد دراسة الحالة المالية للمتورق يقوم بتوقيع هذه العقود جملةً (1).
وعامة العلماء على تحريمه، فمنهم سعيد بن المسيب (2) والحسن (3)
(1) ينظر: موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة ص 930 - 933، قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي ص 380، 420.
(2)
عن ابن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعًا إلى أجل، ثم أَمَرَتْه أن يبيعه، فباعه، قال: فسألت ابن المسيب، فقال:(أبصر أن يكون هو أنت؟) قلت: أنا هو، قال:(ذاك هو الربا، ذاك هو الربا، فلا تأخذ منه إلا رأس مالك). رواه عبد الرزاق، كتاب البيوع، باب الرجل يعين الرجل هل يشتريها منه أو يبيعها لنفسه؟ (8/ 294 - 295)(ح 15273)، وابن أبي شيبة، كتاب البيوع والأقضية (11/ 642)(ح 23561) واللفظ له.
(3)
سئل الحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق، فقال الحسن:(لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق). رواه عبد الرزاق، كتاب البيوع، باب الرجل يعين الرجل هل يشتريها منه أو يبيعها لنفسه؟ (8/ 295)(ح 15274 - 15275).
ومالك (1) وبه صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي (2) وغيرهم (3)، وذلك لعدد من الأدلة:
الدليل الأول: اشتمال التورق المصرفي على العينة من جهتين: الأولى أن المتورق يشتري السلعة من المصرف بثمن آجل ثم يبيعه على طرف له علاقة بالمصرف، وغالبًا ما يتعامل المصرف مع سمسار معين، إما في الداخل وإما في الخارج، وهذه الصورة تسمى العينة الثلاثية، (وسئل مالك: عن رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل، فإذا قبضها منه ابتاعها منه رجل حاضر، كان قاعدا معهما، فباعها منه؛ ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضع واحد، قال: لا خير في هذا، ورآه كأنه محلل فيما بينهما، وقال: إنما يريدون إجازة المكروه. قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن ابن دينار أنه قال: هذا مما يضرب عليه عندنا، وهو مما لا يختلف فيه أنه مكروه، وأرى أن يزجر عنه، وأن يؤدب من فعله، قال ابن القاسم: ورأيتها عند مالك من المكروه البين) (4)، والثانية أن السلعة إلم تكن عند المصرف ففي شرائه من السمسار ثم بيعه له عينة ثنائية أو شبه بها، وذلك محرم، وسبق دليله.
الدليل الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (5)، والمتورق يبيع السلعة دون قبضٍ لها، وغالبًا ما تكون السلع المعدَّة لهذا الغرض غير معينة ولا متميزة؛ لعلم جميع الأطراف بأن بيعها وقبضها غير مقصود لأحد منهم.
الدليل الثالث: أن في ذلك حيلةً ظاهرةً على الربا، فإن المتورق يوقع على الأوراق ويحصل في وقت يسير على المال مقابل أقساط مضاعفة تستقر في ذمته، وهذه قرينة ظاهرة على صورية العقود التي لو أُخذت على الانفراد كانت مباحةً.
الدليل الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يُضمن (6)، ولم تدخل السلعة في ضمان المتورق؛ لأنه لم يقبضها.
(1) سئل مالك عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل فإذا وجب البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. قال: (لا خير فيه ونهى عنه). المدونة 4/ 481.
(2)
في دورته السابعة عشر في 19 - 23/ 10/1424. فقه النوازل 3/ 254.
(3)
المعايير الشرعية، المعيار الشرعي للتورق، البند 4/ 6، 7، 8، 9، 5/ 2، ص 493، وفي "قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي" ص 427 - 429 نقولٌ عن الحنفية لكنها لا تدل على المطلوب، وهو تحريم هذا النوع من التورق.
(4)
البيان والتحصيل 7/ 89 - 90.
(5)
سبق تخريجه ص 41.
(6)
سبق تخريجه ص 57.