الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرواسي ولا يزول دينُه، ولا شَكَّ أن سنته عليه السلام مأخوذة من أفواهِ الرجال المتواتر منها والآحاد، وكذلك القرآن الكريمُ مأخوذ من أفواه الرجال، فدلَّ على أن قوله:" من أخذ دينه من أفواه الرِّجال " عموم مخصوص، والمراد به منْ أخذ دينه من أفواههم على جهة التقليدِ لهم من غير حُجة، كما نجد المخالفين في العقائد يأخذونها عن شيوخهم مِن غير حجة سمعية، ولا عقلية، ولا أثارةٍ من علم، ويكون الدليلُ على التخصيص ذكره للكتاب والسنة المأخوذينِ من أفواه الرجال، فلو لم يحمله على هذا، لكان ظاهره متناقضاً، لأنَّه قضى لمن أخذ دينه عن أفواه الرجال بالزوال، ولمن أخذ دينه عن الكتاب والسنة المأخوذين عن أفواه الرجال بعدم الزوال، فلما تناقض الظاهرُ، وجب حملُه على ما يصح.
الإشكال الخامس عشر: أن الحديث حجة لنا على السيد
، وذلك لأن قوله عليه السلام في الحديث:" إن من أخذ دينه عن التفهم لكتاب الله والتدبر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " عام للمعلوم منهما والمظنون، أما الكتابُ، فالمعلوم من معانيه والمظنون، وأما السنة، فالمعلوم من ألفاظها ومعانيها والمظنون منها، وأخبارُ المتأولين من جملة السنة المظنونة، فدخلت في هذا الحديث، ونحن نُخرج من هذا الحديث ما دَلَّ الدليلُ على خروجه، وهو حديثُ المجروحين بالتصريح دون التأويل، وبقى سواهم على الأصل، وسيأتي لهذه الحجة مزيد بيان.
قال: الثالث: أن الأصل أن لا يُقبل خبرُ الواحد، لأنَّه إقدام على ما لا يُؤمن كونُه خطأ، وأخبارٌ بما لا يُؤمن كونهُ كذباً، دل الدليل على قبول العُدول، وبقي الكافران والفاسقانِ على الأصل.
أقول: جوابُ هذا لا يخفي على من له أدنى معرفة بعلم العقليات
،
وأقل درْيَةً بالمسائل النظريات، فإن الإِقدام على ما لا يُؤمن كونُه كذباً وقبيحاً إنما يَقْبُحُ متى كان مستويَ الطرَفَيْنِ من غير رُجحان، أو كان مرجوحاً غيرَ مساوٍ ولا راجح، وهذا شيء ليس بالمختلف فيه، وإنما كلامُنا في المتأوِّل الذي صِدْقُه راجح على كذبه، ولا خلافَ بين أكثر العقلاء في حسن الراجح إن لم يكن في تركه مضرة، فإن كان في تركه مضرةٌ مظنونة، فهو واجب عقلاً، بل هو إجماعي فعلي من الموافق والمخالف كما يأتي بيانُه قريباً.
والعجبُ مِن السيد -أيَّده الله- كيف غَفَلَ عن هذا وهو عمدة المتكلمين في إيجاب النظر حيث لم تندفِعِ المضرةُ المظنونة إلا به ودفعُها واجب، وما لا يَتمُ الواجبُ إلا به يجب كوجوبه، فكيف أُنْسِيَ السيدُ مثلَ هذا الذي لا يزال يُدَرِّسُه، ويُلقنه طلبةَ العلم؟
وقد ذهب السيدُ الإمام أبو طالب عليه السلام، والإمامُ المنصور بالله عليه السلام إلى عكس ما ذهب إليه السيدُ، وذلك أن العملَ بخبر الواحد واجب عقلاً، ورواه (ص) و (ط)(1) عليهما السلام عن جمهورِ العلماء، وحكي الخلافُ فيه عن طائفةٍ من الإمامية، وطائفةٍ من البغدادية، وقومٍ من الخوارج، ثم قال: والذي يَدُلُّ على ما ذهب إليه الجمهورُ: العقل والسمعُ، وساق الأدلة وَجَوَّدهَا، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسين البصري.
قال (ص) باللهِ: والذي يَدُلُّ على صحة ما قدمنا من أن العقلاء يستحسنون بعقولهم العمل على خبر الواحد إذا غَلَبَ على ظنهم صِدْقُه في
(1)(ص): رمز للمنصور بالله، و (ط) لأبي طالب، كما ورد مصرحاً به في (ش).
جلب المنافع، ودفع المضار، ومعلومٌ أنَّ التعبد وُضِعَ لهذين الوجهين، وهما جلبُ منافع الآخرة، ودفعُ مضارِّها، ولأنا كما نعلمُ بعقولنا وجوبَ تناولِ الدواء مِن يدِ الطبيب على بعضِ الوجوه، فكذلك نعلم بعقولنا وجوبَ تناولِه من يد غلامه إذا قال: أنا أُنهيه إليكلم على يدِ هذا الغلامِ، وغَلَبَ على ظننا حصولُ أمانته وفقْدُ خيانته في أنَّه يجب علينا تناولُه في الحالين على سواء إلى آخر كلامه عليه السلام في كتاب " صفوة الاختيار ".
وأقول: إن العمل بالخبر المظنون صدقُه ما زال معمولاً به بَيْنَ العقلاء ممن وافق في هذه المسألة، ومِمن خالف، ولو كان الخبرُ بما يُظن صدقه قبيحاً في العقل لم يخبر أحد غيرَه إلا بالضروريات التي لا يُفيد الخبرُ بها، وإنما قلنا بغير ذلك، لأن المخبر بغير الضروري إن كان غيرَ عالم بما أخبر به، قَبُحَ منه الإخبار، وإن كان عالماً، قَبُحَ من صاحبه التصديق، وإن كانا عالِمَيْنِ معاً، فلا فائدة في الخبر إِلا ما لا يكاد (1) يُقْصَد من تعريف الإنسان لصاحبه أنَّه عالم، فهذه الصورة، ذَكَر علماء المعاني أنها قد تكون مقصودةً للمخبر، كقول المسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنَّكَ رسولُ الله، وهو المسمى بلازمِ فائدةِ الخبر.
وهذا القسم يلزم السَّيِّد أيضاً أن لا يكون للخبرية معنى، لأن قبولَه من المخبر به يكون حراماً في العقل، وكلامُ السَّيِّد هذا يؤدي إلى القول بأن الخبرَ والاستخبارَ قبيحانِ عقلاً لولا ورودُ الشرع بجوازهما، وهذا قول لا يتماسَكُ ضعفاً، فلم يزل العقلاءُ من المسلمين والمشركين والفلاسفة
(1) في (ب): ما يكاد.
والبراهمة، وجميعِ الأجناس من أهل الملَلِ والنِّحَلِ والمذاهب والفِرقِ مطبقين من أوَّلِ عُمْرِ الدنيا إلى آخره في (1) أقطار الأرض وجزائر العالم على حُسْنِ الخبر والاستخبار، وتطلب الإِعلام، وتعلّم العلوم من الآحاد فالمريضُ يسأل الطبيبَ عما يشفيه، ويعتمِد على ما يأمره به، وأهلُ الحروب يبعثون العيونَ، ويعملونَ على ما يقولون، ومن خاف على صاحبه بعث إليه النذير، ومن احتاج إلى حاجةٍ من صاحبه وهو غائب أرسل إليه الرسول وكتب إليه الكتاب، وكذلك سائرُ التصرفات من جميع أعمال الدنيا والآخرة مبنية على الظَنَ، وحُسْنِ العمل عليه، فالتاجر يركب البحارَ، ويتعرض للأخطار على ظن الربح والسلامة، والزَّرَّاعُ يتحمل الأعمالَ الشاقة ويكدُّ بدنه في إثارة الأرضِ، ويُخاطر بما يطرح فيها من البذرِ على ظن التمام، والبقاء إلى يوم الحصاد، والملوك يجمعون الجنودَ، ويُنفقون الأموالَ في جمعها على رجاء الفتوح بمجرد الظن من غير قطع، وعمَّالُ الآخرة يتحمَّلون مشاق العبادة والمجاهدة على ظن القبول والسلامة في مستقبل العمر من الوقوع في المعاصي المُحْبِطةِ لتلك الأعمال، وطَلَبَةُ العلم يشرعون في غَيْبِ الكتب ودرسها على ظنِّ الفائدة وبلوغ الأمل، وكذلك ما لا يُحصى من جميع أجناس أفعال العقلاء الدالة على إطبقاهم على حسن العمل بالظن، ولا شَكَّ أن خبرَ المتأوِّلين يفيد الظنَّ عند من أجازه وعند من منعه، فالقول بأنه قبيح في العقل إما تعسُّفٌ شديد، وإما نزوحٌ عن التحقيق إلى مكان بعيد.
واعلم أن العالِم من يرى الواضح واضحاً، والمشكل مشكلاً، وليس بمن يتكلَّفُ التشكيكَ في الواضحات وإيضاح المشكلات، فبان
(1) في (ب): في جميع أقطار.