الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديثَ، وفيه: أنَّه وقع بينَ ملائكة الرحمة والعذاب نحوُ ما وقع بينَ الوعيدية وأهل الرجاء وهو يدل على نجاة الفريقين، إن شاء الله تعالى. فهذه أحدَ عشرَ وجهاً تختص المرجئة (1)، وتحقيق الدلالة على قبولهم يأتي في الفصل الثاني -إِن شاء الله تعالى- عند الكلام على قبولِ المتأوِّلين.
قال: وأما المجبرة، فعندهم أن الله تعالى يجوز أن يُعَاقِبَ المطيعَ، وأن يُثيبَ العاصي، فلا فائدةَ في الطاعة، وأيضاً فعندهم أن أفعالَهم مِن الله تعالى، فالإِثابة عليها، والعقابُ لا معنى له، فإن قالوا: هذا من جهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يَدْخُلُ المطيعُ الجنة، والعاصي النارَ إِلا منْ قال منهم بالإرجاء.
قلنا: إنَّه إنما وَعَدَ ذلك مقروناً بمشيئته لقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] وهم لا يعلمونَ من الَّذِين يشاءُ اللهُ أن يغفِرَ لهم.
أقول: الجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن السيدَ منازع في كون هذا مذهبهم
، لأنَّه نسب إليهم أنهم يعتقِدُون ذلك، والمعلومُ من مذهبهم ضرورة أنهم لا يعتقدونه، ولم يقُلْ أحدٌ من جميع النّقَلَةِ لمذهبهم أنَّ ذلك مذهبهم، وإنما ألزمهم ذلك أهلُ الكلام مجردَ الزام، واختلف العلماءُ في التكفير بالإلزام مع الإجماع منهم أنَّه لا يجوزُ أن يُقال: إن الخصمَ يعتقِدُه، لأن الجميعَ يعتقدون قبحَ الكذبِ وهذا كذب، فإِن كان السيدُ قال هذا كراهيةً للجبرية، فما أصاب السنة (2) ولا عَمِلَ بمقتضى الشريعة، قال الله تعالى:
(1) في (ب) و (ش): بالمرجئة.
(2)
في (ب): السيد.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وإن كان السَّيِّد يجد ما يشَنِّعُ بِهِ عليهم مِن سائر مَذاهِبِهم القبيحةِ التي صرَّحُوا بها واعتقدوها، وله في التشنيع بها غُنية وكفاية عن هذا الذي يستفيد المتكلم به أن يسقطَ عن العيون، وأن تَسُوء به الظُّنون، وإن كان قال ذلك متوهماً أنَّه يمضي على خصمه ولا يعرِفُه، فأدنى العوام تعرف أن ليس في أهلِ الشهادتين مَنْ يعتقِدُ أنَّ الله يُعاقِبُ على الطاعة، ويُثيبُ على المعصية، بل ليس في مِلَلِ الشرك وعُبَّادِ الأوثان مَنْ يعتقد ذلك.
الوجه الثاني: أن هذا الاستدلالَ منه أَيّده الله هو المعروفُ في علم المنطق بالمغالطة، قالوا: والمورد لها، إن قَابَلَ بها الحكيم، فهو سوفسطائي، وإن قابل بها الجدلي، فهو مُشاغبي، فهب أني رضيت لنفسي التبرؤ مِن مرتبة الحكمة البُرهانية، ونزهتُك عن المذاهب السُّوفسطائية، فما ينبغي منك أن ترضى لنَفْسِكَ بمرتبة المشاغِبِ، فأنت مِن أولاد العِترة الأطايبِ.
وإنما قلتُ: إن ذلك من قياسات المغالطة، لأن المغالطة قياسٌ متركبٌ من مقدمات شبيهة بالحق تفسدُ صورتَه بأن لا يكون على هيئةٍ منتجةٍ لاختلال شرطٍ مُعْتَبرٍ، وهذا حاصلٌ في استدلالِ السيد، وبيانُه من وجهين:
أحدُهما: قوله عندهم: أن الله يجوز أن يُعاقِبَ المطيع، ويُثيب العاصي، فهذه مقدمة باطلة تشبه الحقَّ، والحق أنَّهم لا يقولون بذلك، ولكنه يلزمُهُمُ القولُ به لو جرَوْا على قواعد مذهبهم، فإِما أن يعترِفَ السيد بهذا، فهو الظَنُّ بعلمه وعقله، أو يُصِرَّ على اللجاجة في الخصومة، ويُصمِّمَ على اللَّدَدِ في المماراة، فهاهم أولاءِ في تِهامة فليكتُبْ إليهم
كتاباً، أو يرسل إليهم، ويسألهم عن اعتقادهم، فإِن أخبرونا بالذي قال السيد، صح أني مُتَعَدٍّ عليه في كلامي، وإن أخبروا (1) بمثلِ ما قلتُ عنهم وصَحَّ أنَّه متعد في احتجاجه علي، فإِن قال السيد: إن الذي قاله مذهبُهم في الباطن، فعليه أن يدل بدليل قاطعٍ على أمرين:
أحدهما: أنَّه يعلم ما في الضمائر.
والثاني: أنَّه معصوم لا يجوزُ عليه الكذبُ، وحينئذ يجب علينا أن نُؤمِنَ بكلامه من غير منازعة، ونَرْجعَ إلى قوله من غير مراجعة، ومن أحبَّ أن يَعْرفَ صدقَ كلامي من غير سؤال لهم، فلينظر إلى كتُبِهِم الكلامية والأصولية وشروح الحديث وغيرها، وُيطالع " مناهج العابدين إلى الجنة " للغزالي، وكتاب " إحياء علوم الدين "، وكتاب رياض الصالحين " للنواوي وشرح مسلم له، وكتاب " الأذكار " له، وينظر: هل قالُوا: من أطاع الله تعالى، دخل النارَ وغَضِبَ عليه الجبار؟ ومن عصاه أدخله الجنان، ووجب له منه الرضوان؟ فالسيد أيَّده الله صادق، أو قالوا: بالعكس من ذلك، فمحمد بن إبراهيم صادق، وليُطَالِعْ مَنْ أحب معرفةَ مذهبهم في ذلك " شرح مسلم " للنواوي وينظر إلى قوله فيه: باب أن من مات مؤمناً دخل الجنة قطعاً (2)، ولينظر إلى كلام الغزالي في كتاب "المنقذ من
(1) في (ب): أخبرونا.
(2)
قال رحمه الله 1/ 217: هذا الباب فيه أحاديث كثيرة، وتنتهي إلى حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً .... ".
واعلم أن مذهب أهل السنة، وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير والمجنون، والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يُبْتَل بمعصية أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار أصلاً .... وأما من كانت له معصية كبيرة، ومات من غير توبة، فهو في =
الضلال والمفصح بالأحوال " وما الَّذي حمله على ترك الرئاسة، والهرب من الدنيا الواسعة، والجاهِ العريض الطويل مع ملوك الشام والعراقين هل الرغبةُ في ثوابِ الله، والطمعُ في الفوز برضوانه ومغفرته، أو اعتقاده أن الله يُعاقِبُه على الزُّهْدِ أعظمَ العقوبة، وأن الذي كان عليه في الدنيا أكرمَ مثوبة، وليُطَالِعْ تراجمَ الأبواب في كتاب " الأذكار " هل قال فيها: باب عقاب مَن قرأ القرآن وذكر الله، وباب ثواب من اغتاب المسلمين وظلمهم. فالسيدُ صادق أو العكس من ذلك، فخصمه صادق.
وقد قال ابن الحاجب في الكلام في الاحتجاج على أنَّ المصيبَ في العقليات واحدٌ، وأن نافي ملة الإِسلام آثِم كافر، اجتهد أو لم يجتهد.
قال ما لفظه: لنا إجماعُ المسلمين على أنَّهم من أهل النار، ولو كانوا غيرَ آثمين لما ساغ ذلك، تَمَّ بلفظه (1).
وليطالعْ كتبَ رجالهم، وتاريخ عبادهم وعلمائهم، وينظر في صبرهم على القيام، والصيام، والتلاوة، والزهادة، والصدقة بالمال المحبوب، والصبرِ على مفارقة الشهوات المحرمة، هل فعلُوا ذلك تعرضاً (2) لعقابِ اللهِ الذي يعتقدون أنَّه يَحْصُلُ بسببه، أو طمعاً في ثوابه جَلَّ
= مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه - وأدخله الجنة أوَّلاً وجعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنَّه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل.
هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، فإذا تقررت هذه القاعدة، حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة، وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع ....
(1)
" شرح مختصر المنتهى " 2/ 293.
(2)
في (ب): تعريضاً.
جلالُه الذىِ وعد به، ومن نازع في هذا، فقد نازع في أجلى من النهار، وقَرَّرَ كلامَه على شفا جُرُفٍ هَارٍ، وفي أمثال العرب مَنِ ادَّعى البَاطِلَ أنجح به (1). ومن أمارات العاقل إن لا يَدَّعِيَ ما لا يُمْكِنُ، ولا يقولَ ما لا يُصَدَّقُ.
ثم نقول للسيد: إما أن تَدَّعِيَ أنهم لا يُصلون، ولا يصومون، ولا يحجُّون، ولا يفعلون شيئاً من الطاعات، لم تستحقَّ المكالمة، أو تُقِرَّ بأنَّهم يفعلون ذلك، فَأَخْبِرْنَا: هل يفعلون ذلك لِيعذِّبهم الله في الآخرة، أو ليثيبهم؟ فإن قلت: لِيعذِّبهم في الآخرة، لم تُخاطَبْ أيضاًً، لأن الفعل لا يُوجَدُ من غير داع، فكيف يفعل لأجل الصارف عنه، وإن قال: لِيُثيبهم، فقد أبطل قولَه، وأكذبَ روايتَه، فلو كان مذهبُهم أنَّ الله يُعذِّبُ على الطاعة ما فعلوها ليِثيبهم عليها، وما كنتُ أحسب أن السيدَ أيدَهُ الله يُحوج إلى مثل هذا الكلام.
وثانيهما: أعني الوجهين الدَّالين على أن السيدَ سلك سبيلَ المغالطة في هذه الدِّلالة التي ادَّعاها قولُه: فلا فائدة في الطاعة، وذلك أن هذا الكلامَ من جملة مقدماتِ السَّيِّد الْمُنْتِجَةِ لعدم قبولهم، وليس هو النتيجةَ الحاصلَةَ مِن الدليل، بل هذا الكلامُ أحدُ أركان الدليل، ولا شكَّ أنَّه مغالطة أيضاًً، لأنَّه إمَّا أن يدعيَ أن مذهبَهم: أنَّه لا فائدةَ في الطاعة أم لا، إن لم يَدَّعِ ذلك، لم يدل على مقصوده من أنَّهم كذبة، لأنَّهم متى اعتقدوا أن الطاعةَ مفيدة، صدقوا في الحديثِ رغبةً في فائدة الطاعة، وخوفاً من عقاب المعصية، وإن كان يلزمهم أنَّه لا فائدةَ فيها، فإنَّهم لا يكذبون لأجل
(1) في " لسان العرب ": ويقال: أنجح بك الباطلُ، أي: غلبك الباطل، وكل شيء غلبك، فقد أنجح بك، وإذا غلبته، فقد أنجحت به.