الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك الثاني: أنَّ رواية العُلماءِ لمذاهبهما وتدوينَها في كُتُبِ الهداية، وخزائنِ الإِسلام إلى يومنا هذا يَدُلُّ على أنهم قد عرَفُوا اجتهادَهُما، لأنَّه لا يَحِلُّ لهم روايةُ مذاهبهما إلَاّ بعدَ المعرفة لعلمهما (1)، لأن إيهامَ ذلك مِن غير معرفة محرم، لما يتركَّب (2) عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها كانخرامِ الإجماعِ بخلافهما، والمختَلَفِ فيها، كجواز تقليدهما بعدَ موتهما.
المسلك الثالث: أن نقول: الإجماع منعقدٌ على اجتهادهما
، فإن خالف في ذلك مخالف، فقد انعقد الإجماعُ بعدَ موته على ذلك، وإنما قلنا به، لأن أقوالَهما متداوَلَة بين العلماء الأعلام، سائرةٌ في مملكة الإسلام من الشرق والغرب واليمن والشام من عصر التابعين مِن سنة خمسين ومئة إلى يومِ الناس هذا، لا يُنْكَرُ على مَنْ يرويها، ولا على من يعتمِدُها، فالمسلمون بينَ عامل عليها، وساكتٍ عن الإنكار على مَنْ يَعْمَلُ عليها، وهذه الطريقة هي أكبرُ ما يثبتُ به الإجماع.
المسلك الرابع: أنا قد قدمنا نصوصَ كثيرٍ من الأئمة العلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهادِ العالم هي (3) انتصابُه للفتيا، ورجوعُ المسلمين إِليه مِن غير نكيرٍ من العلماء والفُضلاء، نصَّ على ذلك المنصورُ بالله في " الصفوة " وغيره من علماء العِترة، والشيخُ أبو الحسين في " المعتمد "(4)، وغيره من الشيوخ، وهذا في سكوت سائرِ العلماء عن النَّكير على المفتي، فكيف بسكوتِ رُكْن الإسلام، وعصابةٍ الإيمان من نُبلاء
(1) في (ب): بعلمهما.
(2)
في (ب): يترتب.
(3)
في (ب): هو.
(4)
2/ 363 - 364.
التابعين، وسادات المسلمين الذين هُمْ مِن خير القرون بنصِّ سيدِ المرسلين فقد كانا رضي الله عنهما معاصِريْنِ لذلك الطراز الأولِ كما ستأتي الإشارةُ إليه إن شاء الله تعالى.
فالعجب كُلُّه من ترجيح السَّيِّدِ لِكلام الغزّالي على غيرِه من علماء العدلِ والتوحيد، بل على ما انطبق عليه إجماعُ المسلمين، ومضى عليه عملُ المؤمنين، وقد قدح السَّيِّدُ في رواية المبتدعة، وكفَّرَ الغزّالي، ونسبه إلى تعمد الكفر، وحرم الروايةَ عنه، وعن أمثالِه، فلما بلغ إلى هذا الموضع، أنساه حُبُّ التعسيرِ للاجتهاد قواعدَه المقررة، وأدلتَه المحررة، فاحتج بكلام من ليس عنده بحجةٍ على ستْرِ ما هو أظهرُ من الشمس مِن علم الحسن، وأبي حنيفة.
وأبو حنيفة هو الإمام الأعظم الذي طَبَّقَ مذهَبُهُ (1) أكثرَ العالم، وفي كلام الزَّمَخْشَرِيّ رحمه الله: وَتَّدَ اللهُ الأرضَ بالأعلامِ المُنيفة، كما وَطَّدَ الحنيفية بعلومِ أبي حنيفة. وفي كلامه رضي الله عنه: الجِلَّةُ الحنفية أزِمَّةُ (2) الملةِ الحنيفية، الجودُ والحِلم حاتمي، أَحْنَفِيّ (3)، والدين والعلم حنيفي وحَنَفِي.
(1) في (ب): علمه.
(2)
أزِمَّة: جمع زمام، وهو الخيط الذي يشد في البُرة أو في الخشاش، ثم يشد في طرفه المقود، وقد يسمى المقود زماماً، ومن المجاز: هو زمام قومه، أي: قائدهم ومقدمهم وصاحب أمرهم.
(3)
نسبه إلى الأحنف واسمه الضحاك بن قيس التميمي وهو أحد من يضرب بحلمه وسؤدُده المثل، وشهر بالأحنف لحنف رجليه، وهو العوج والميل، وكان سيد بني أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ووفد على عمر، وكان من قواد جيش علي يوم صفين، وشهد بعض فتوحات خراسان في زمن عمر، وعثمان رضي الله عنهما، ومات في إمرة مصعب بن الزبير على العراق. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 4/ 86 - 97.
وقد عقد الحاكم (1) رحمه الله فصلاً في فضل أبي حنيفة وعلمِه، وذكر أنَّه حاز ثلاثةَ أرباع العلم، وشارك الناسَ في الرُّبْعِ الآخر، فينبغي من السَّيِّد -أيده الله- مطالعة كتب الرجال، والنظر في تراجم هذين البحرين الزاخرين والإمامين الكبيريِن، فقد أودع العُلَمَاءُ في كتب الرِّجال من مناقبهما ما يشفي العليلَ، وَيرْوِي الغليلَ، بل قد صنف أئمةُ هذا العلمِ كتباً مستقِلَّة مفردة لتعريف فضائلهما، وذكرِ سَعة علومهما، وسائرِ ما فيهما (2) مثل كتاب " شقائِقِ النعمان في مناقب النُّعمان "(3) وكتاب " الزخرف القصري في مناقب الحسن البصري "(4).
ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلاً، ومن حِلْيةِ العلم عاطلاً، ما تطابقت جِبَالُ العلم من الحنفية، وشيوخِ الاعتزال كأبي عليٍّ، وأبي هاشمٍ، ومَن في طبقتهما مِن الأكابر، والقاضي أبي يوسُف، ومحمد بن الحسن الشَّيْباني، والطحاويِّ، وأبي الحسن الكَرْخيِّ، وأبي الحُسين البَصْري والعلامة الزَّمخْشَري وأمثالِهم وأضعافِهم على الاشتغال بمذهبه، والاعتزاءِ (5) إليه، وعدمِ الإنكار على منْ أفتى أو حكم به، فعلماءُ الطائفة الحنفية في الهند، والشَّامِ، ومِصْر، والعِرَاقيْنِ، واليمن، والجزيرة،
(1) هو الحاكم الجشمي شيخ الإمام الزمخشري.
(2)
في (ب): مناقبهما.
(3)
في " كشف الظنون "(1056)" شقائق النعمان في حقائق النعمان " لأبي القاسم العلامة جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 في مناقب الإمام الأعظم. وقد ألف غير واحد من أهل العلم في مناقب هذا الإمام ذكر معظمها صاحب " معجم المؤلفين " 13/ 104 - 105، وانظر " سير أعلام النبلاء " 6/ 390 - 403.
(4)
أورده الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/ 563 - 588، وذكرت فيه مصادر ترجمته.
(5)
أي: الانتساب إليه، يقال: عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزواً، وعزا واعتزى " وتعزَّى كله: انتسب.
والحرمَيْنِ منذ مئةٍ وخمسين مِن الهجرة إلى هذا التاريخِ يزيد على سِتِّ مئة سنة فيهم ألوفٌ لا ينحصِرُون، وعوالم لا يُعَدُّون (1) من أهل العلم والفتوى والورع والتقوى، فكيف نستقرِبُ أنهم تطابَقُوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرِفُ أن الباء تجر ما بعدَها، ولا يدري ما يَخْرُجُ من رأسه من حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وأما ما قُدِحَ به على الإمام أبي حنيفة مِن عدم العِلْمِ بالعربية، فلا شَكَّ أن هذا كلامُ متحاملٍ متنكِّب عن وجوهِ المحامل، وقد كان الإمامُ أبو حنيفة رحمه الله مِن أهلِ اللسان القويمة، واللغة الفَصيحة، فقد أدركَ زمانَ العرب، وعاصرَ جريراً، والفَرَزْدَق، ورأى أنسَ بن مالك خادمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين (2)، وقد تُوفِّي أنسٌ رضي الله عنه سنةَ ثلاثٍ وتسعين من الهِجرة، والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه في المهد، وإنما رآه بعدَ التمييز، يَدُلُّ عليه أن أبا حنيفة كان مِن المعمَّرِينَ، وتأخرت وفاتُه إلى خمسين ومئة، والظاهر أنه جاوزَ التسعين في العمر والله أعلم. ذكره أبو طالب عليه السلام في كتاب " الأمالي "، وهذا يقتضي أنَّه بلغ الحلْمَ، وأدرك بعدَ موتِ النبي صلى الله عليه وسلم بقدر الثمانين سنة، لأنَّه عليه السلام مات وقد مضى عشر من الهجرة، فهذا يدُلُّ على تقدم أبي حنيفة، وإدراكه زمانَ العرب، وهو أقدمُ الأئمة وأكبرهُم سنّاً، فهذا مالك على تقدُّمه توفي بعدَه بنحو ثلاثين سنة. ولا شكَّ أن تغير اللسانِ في ذلك الزمانِ كان يسيراً، وأنه لم يشتغِلْ ذلك الزمانَ بعلم الأدبِ أحدٌ من
(1) في (ج): " لا يعتدون ".
(2)
قال الذهبي في " السير " 6/ 391: ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم. وقال في آخر الترجمة: توفي شهيداً مسقياً في سنة خمسين ومئة، وله سبعون سنة.
وقول أبي طالب -الذي نقله عنه ابن الوزير-: والظاهر أنَّه جاوز التسعين في العمر - غير ظاهر.