الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويُشهِرُونَ فضائحَهَ حتى يتواترَ ذلك، والعادات جاريةٌ مستمرة بمثل هذا في كل زمان، ولو جوَّزنا أن أحداً يُظْهِرُ في زمانهم مثلَ هذه الأكاذيب على الله، وعلى رسوله ولا يتواتر عنهم مقابلتُه بما يستحقه مِن التنكيل والتكذيب، لجوزنا أنَّه قد كان مِن غير أبي هريرة مثلُ ذلك من المستورين المقبولين، ولم يُقَابلْ ذلك بشيء منهم ألبتة حتى خَفِيَ حالُهم على أهل الإسلام وإنما يُمْكِنُ وضعُ المثالب فيه، وفي أمثاله بعدَ تطاولِ الزمان، وتدريبِ مَنْ لم يعرف مناقبه قطُّ على بُغضه ونسبه، ولذلك حَكَمَ نُقَّادُ علم هذا الشأن أن تعمُّدَ الوضعِ ما ظَهَرَ وَكَثُرَ إلَاّ في أيام بني العباس، وذلك حين كَثُرَ الجَهْلُ، وأمكن الغرورُ، ثم أفادني مولانا الإمامُ المنصور بالله عليه السلام فائدةً جليلة، وهو أنَّه عليه السلام وقف على معارضةٍ لما نقله الإسكافي (1) -إن صحَّ عنه ما تقدمَ- عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنَّه أثنى على أبي هُريرة بالصدْقِ في الحديث، ودفعَ عنه أو نحو ذلك، وَقَفَ عليه مولانا عليه السلام في بعضِ كُتُبِ الرِّجال والتواريخ، وإليه المنتهى سلامُ الله عليه في سَعَةِ الاطلاع، والورعِ في الرواية، والتثبت في النقل، فالحمد لله رب العالمين.
الوجه الثاني: أنَّهُ قد تواتر عن أبي هُريرة أنَّه كان أرفعَ حالاً من هذه المنزله
الخسيسةِ التي لا أَسْقَطَ منها، فإِنَّه لو كان لوطيّاً، أو مجمعاً للفساد وأهلِه، لكان خيراً له من مرتبة الزندقة في الإسلام، فإن تلك معصيةٌ لا تتعدى إلى غير صاحبها، والحامِلُ عليها شِدَّةُ الشهوة، والشَّبَقُ، والخِسَّةُ، وهذه
(1) هو محمد بن عبد الله الإسكافي البغدادي أبو جعفر أحد متكلمي المعتزلة، وإليه تنسب الطائفة الإسكافية، أصله من سمرقند، أخذ الكلام عن أبي جعفر بن حرب، وله مناظرات مع الكرابيسي وغيره. قال ابن النديم: كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة، ونبل الهمة والنزاهة بلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد، وكان المعتصم يعظمه جداً. توفي سنة 240 هـ " لسان الميزان " 5/ 221.
معصيةٌ، الحاملُ عليها بغضُ الله ورسولهِ وأميرِ المؤمنين، ومضرتُها دائمة للإسلام والمسلمين، ولا يمْكِنُ صدورُ مثل هذا من مؤمن ألبتة، ولذلك صح " أن بُغْضَ أميرِ المؤمنين نِفاق "(1). فكما أنَّه لا يُصَدَّق من زعم أن أبا هُريرةَ كان لوطياً مشهوراً في محافلِ الصحابة بذلك، ولم يقتلوه، ولم ينفوه، فكذلك لا يصِحُّ أن يكون معروفاً عندهم بتعمد الكذب على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في مثالب سيدِ المسلمين في عصره، ولا يقتلوه أو ينفوه، ولا يكذبوه ويُنَكِّلوا به، وقد ذهب الجُوينيُّ (2) وغيره إلى أن تعمُّدَ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفْرٌ وَرِدَّةٌ، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32] مع قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وقولهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ولذلك نزه أهلُ البيتِ الخوارِجَ النواصِبَ مِن تعمُّد الكذب، وقَبِلُوا حديثهم وهُمْ كِلاب النَّار (3).
فإن قلت: لم يكن مشهوراً بالكذب وتعمُّدهِ على عصرهم، وإنما بَانَ هذا بَعْدَ مُدَّةٍ.
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم (78) من حديث علي رضي الله عنه قال: " والذي فَلَقَ الحبة، وبرأ النسمة إنَّه لعهدُ النبيِّ الأميِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق ".
(2)
هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين، شيخ الشافعية في عصره المتوفى سنة 438 هـ، قال الإمام الذهبي في " السير " 17/ 618 وهو صاحب وجه في المذهب، وكان يرى تكفير من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي " طبقات السبكي " 5/ 93: وصار الشيخ أبو محمد إلى أن من كذب متعمداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر وأريق دمه. ذكره ابنه في "كتاب الحرية" عنه، وأنه كان لا يخلي الدرس من ذكره إذا انتهي إلى ذلك. وانظر "فتح الباري" 1/ 199 - 203 الطبعة السلفية.
(3)
حديث صحيح، أخرجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى أحمدُ 4/ 355 و382، وابن ماجه (173)، وأخرجه من حديث أبي أمامة أحمدُ 5/ 253 و256، وابن ماجة (176) والترمذي (3000) وحسنه. والحاكم 2/ 149، وصححه، ووافقه الذهبي. وانظر " مصباح الزجاجة " ورقة 13.
قلتُ: هذا مِنْ خيالاتِ قليلي العُقول، فإنَّ تعمدَ كذبِ الكاذبين إنما يظْهَرُ في أعصارهم لما يَصْحَبُهُ مِنْ معرفة مَنْ جاورهم وخالطهم وسامرَهم مِن قرائنِ أحوالهم، ومخايل كذبهم وتلوّنهم وحكاياتِهم، ومناقضاتِهم، ونسيانهم لما قالوه، كما قالت العرب:
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خلِيْقَةٍ
…
وإن خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ (1)
بل كما قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وكما شاهدنا هذا في معرفتنا لِلكاذبين المعاصرين لنا، فأما لو استتر حالُه حتى مات، ومات المعاصرون له، فإنها تنسَدُّ أبوابُ المعرفة لحاله على المستأخرين عن مُعاصريه إِلَاّ بِعلمِ الغيب، فمن أين جاء ذلك للإسكافي لو صحَّ عنه، وحاشاه منه بَعْدَ تفاني القُرون، وأبو هريرة محتجٌّ بحديثه بينَ الصحابة والتابعين، وفُقهاءِ الإسلام، وأهلِ العلم التام بتواريخِ الرجال، وأخبارِ الناس، وَمَنْ قَبِلَ مثلَ هذا في أبي هريرة ممن لا يُعْرَفُ مع ثبوتِ إيمان أبي هُريرة، وعدالتِه على عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُؤْمَنُ عليه، ولا يُسْتَبْعَد منه أن يُصدق من ذوي المثالب في علي عليه السلام أو في مَنْ هو دُونَه بيسيرٍ من أهل الفضلِ الشهيرِ، والمحلِّ الكبير. وقد ذكرتُ فيما تقدم أن أهل ذلك العصرِ كانوا خيرَ أهلِ الأعصار، وأن أشرارهم أصدقُ الأشرار حتى إنَّه ثبت عن اليهودي ابنِ صياد اللَّعين المُدَّعي للنبوة في عصره عليه السلام لما سألَه النبي صلى الله عليه وسلم وهو خصمُه ما يأتيه قال: يأتيني صادِقٌ وكاذب (2)، فاعترف بكذب بعضِ ما يأتيه بُعداً من
(1) هو البيت الثامن والخمسون لزهير بن أبي سلمى من جاهليته السائرة " شرح القصائد العشر " ص 198 للتبريزي.
(2)
انظر خبر ابن صياد مطولاً من حديث ابن عمر في البخاري (1354) و (3055) و (6173) و (6618) ومسلم (2924) و (2930) وأبي داود (4329) والترمذي (2249)، وانظر " جامع الأصول " 10/ 364 - 369 الطبعة الشامية.
الكذب فيما يدعيه، ووثق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدليله (1) يومَ هاجر، وكان كافراً، وبذمَةِ سُراقة (2) حين دعا له مع كفره، وشِدَّةِ عداوته، وكذا أَمِنَ كفارَ قريشٍ في عُمرة القضاءِ، ووضع جل السلاح.
الوجه الثالث: أنَّه لا خلافَ أن طريقة أبي هُريرة على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مستقيمةً، وأنَّه كان يختصُّ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وُيلازِمُه ويأخُذُ عنه، ولم يكن منه في عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرةٌ، ولا حُدَّ في معصية، ولا اتُّهِمَ بنفاق، ولا كانَ مِن أهل الإفك، وكان مِن العُدول في ذلك العصر على كلِّ مذهبٍ، ومن الصحابة المثنى عليهم على كُلِّ قولٍ، وعند كُلِّ طائفةٍ. فالعجبُ ممن يقبل جرحه ممن لا يُعْرَفُ ولا يُدْرَى مَنْ هُوَ بغير إسناد ولا نظرٍ في رجال الحديث، بل يقبلُه مقطوعاً ممن لا يُدرى مَنْ هو، ولا يُساوي أدنى أدنى أدنى مرتبةٍ من مراتب أصحابِ أبي هريرة من التابعين الرُّواة عنه، المُوثِّقين له، الذين زادُوا على ثماني مئة، ولو صَحَّ طرحُ مِثْلِ هذه الفواحش والخبائث على مثل أبي هريرة من أئمة الإسلام، وأعلامِ الهُدى، لأمكن الزنادِقَةَ لَطْخُ أكثرِ العِترة والفقهاء بمثل ذلك. وليتَ شعري أيُّ فرقٍ يجده المميزُ الحازم بينَ أبي هريرة، وأبي الدرداءِ، ومُعَاذٍ، وكثيرٍ من المهاجرين، والأنصار، ثم يعلم المميز أنَّه لو كذب مثلَ ذلك على الصَّادِقِ والباقر ومالك والشافعي أو منْ دونهم من فُضلاء عصره، وأعيانِ أهل زمانه، لكان الحملُ لهم على السلامة أرجحَ، والتغليب لِنزاهتهم عما قيل
(1) في حديث الهجرة الطويل عن عائشة: واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً (والخريت: الماهر بالهداية) قد غمس حلفاً من آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه، فدفعا إليه راحلتَيهما، وَواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث
…
أخرجه البخاري في " صحيحه "(3905) في فضائل أصحاب النبي: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
(2)
خبره في الحديث السابق، فانظره، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لسراقة: اخف عنا
فيهم أوضح، فكذلك هُنالك.
الوجه الرابع: أن قواعدَ العلم المتفق عليها تقتضي أن لا يُقبل المتعارضان معاً، ولا يَصِحُّ ذلك، وقد تعارض الثناء على أبي هريرة والذَّمُّ له، أما الثناءُ عليه، فإنه قد دخل في الثناء مِنَ الله عز وجل على الصحابة، وأثنى عليه غيرُ واحد مِن السَّلَف والخلف كما تبين في ترجمته من كتب الرِّجال بالأسانيد المعروفة حتى أثنى عليه أئمةُ علمِ الرجال في الحديث مِن الشيعة كالحاكِمِ والنسائي، وابنِ عُقدة وغيرهم، وصححوا أحاديثَهم ودوَّنوها في كتبهم، وكذلك مَنِ احتجَّ بحديثِه مِن أهل البيتِ عليهم السلام والفقهاء كما يَعْرِفُ ذلك مَنْ طالع فِقْهَهُمْ، وأدِلَّتهم فيها، ويأتي قريباً التنبيهُ على ذلك بذكر طرفٍ منه يسير.
وأما المعارضُ لهذا، فجاء مقطوعاً كولدِ الزِّنى الذي لا يُعْرَفُ له أب مِن طريق غيرِ وافية بشروط الصحة عن الإسكافي، وكان بغداديّاً لا يقولُ بأخبار الثقات دَعْ عنك غيرَها، ومَقْصِدُه في كلامه القدحُ في الأخبار بالجملة، وسدُّ باب الرواية لو صح ذلك عنه، فلا بُدَّ على الإنصافِ مِنْ معرفة رواة جرح أبي هريرة والموازنة بين كل واحد منهم وبين أبي هريرة، فإن كان فيهم واحد دون أبي هريرة في فضله ونُبله لم يُصَدَّقْ على مَنْ هو خيرٌ منه، وإلا لَزِمَ فيه ترجيحُ المرجوحِ على الراجح، وهو على خلاف المعقولِ والمنقول.
فقِسِ القَدْحَ في الأكابرِ على هذا، وقد أشرتُ إلى هذه النُكتة في علوم الحديث، وأوضحتها فخذها من هنالك (1).
وقد قَدَح الإمامُ المؤيَّدُ باللهِ عليه السلام بعدمِ الإسنادِ في كتاب "إثبات
(1) انظر " توضيح الأفكار " 2/ 161 - 167.