الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانوا من أهل العربية، وصنفوا على قانون لسانِ العريب، وقد علمنا أن من قرأ في الفقه، عَلِمَ مُرادَ الأئمة في التحليل والتحريم، والصلاة والبيوع وسائر علم الفروع، وإن لم يكن يَعْرِفُ العربيةَ إلَاّ النادر القليل بما يتعلق بالدقيق مِن علم العربية مثل بعضِ مسائل الطلاق، وذكر المصادر، وتعليقِ الشرط على الشرط ونحو ذلك، وهذه النوادرُ مَنْ بَحَثَ عنها، وتعلمها من علماء العربية، وفهَّموه إيَّاها فَهِمَها، وإن لم يعلم بقيَّةَ عِلْمِ العربية، إن كان من أهل الذكاء، وإن لم يكن من أهل الذكاء، فلن ينفعه، وإن قرأ العربية بأسرها.
وكذلك الكلامُ فيما يتعلق بالتحليل والتحريم من الكتاب والسنة أكثرُه جليٌّ إلَاّ النادِرَ، ولأجل ذلك النادر اشْتُرِطَ تَعَلُّمُ العربيةِ على المجتهد في العلم على الإطلاق دونَ المجتهد في بعض المسائل، ويؤيد ما ذكرتُه لك أن العامَيَّ إذا استفتى العالمَ، وأفتاه العالمُ بكلام مُعْرَبٍ غيرِ ملحونٍ، جاز لِلعَامِّي أن يعمل بما فهِمَ مِن كلام العالم، وإن لم يعلم العربيةَ، وكذا في مسألتنا.
الحجة الثانية: على أنَّه لا يقتضي الافتراقُ في العربية تعسيرَ الاجتهاد
على الإطلاق أنا نظرنا إلى الأحاديثِ التي عَمِلَتْ بها الصحابةُ في الأحكام، فعلمنا معنى أكثرهَا مِن غير عربية، ونظرنا إلى ما فَهِمْنَا منها: هل يُخالِفُ ما فهموه؟ فلم نجده يُخالِفُه، ألا ترى أنا نفهم من قول المغيرةِ، ومحمدِ بنِ مسلمة أن الرسول عليه السلام فرض للجَدَّةِ السدس (1) مثل ما فَهِمَ أبو بكر من هذا حينَ أخبراه به، وأمثال هذا ما لا يُحصى كثرة.
فإذا عرفتَ هذا فنقول: المجتهد إما أن يكونَ مجتهداً على الإطلاق، فهذا يجبُ أن يعرِفَ العربيةَ، وإما أن يكون مجتهداً في مسألة معيَّنة، فتلك
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 294.
المسألةُ تختلِفُ، فإن كانت تلك المسألة واضحةً جليةً لا تحتاج إلى عربية، جاز له ذلك، وإن كان مما يتعلق بالعربية، لم يجز.
فإنْ قلتَ: إنَّه يُمكن أن يخطىءَ مَن فعل ذلك، فيتوهم أن الكلامَ جليٌّ المعنى، وليس كذلك.
قلتُ: هذا من أهل التمييز والدِّرية في العلم نادر، والاحتراز من الخطأ النادر لا يجبُ، والتبحُّر في العلم لا يَعْصِمُ منه، وقد خطؤوا الزمخشريَ رضي الله عنه في بعض المسائل النحوية كما تقدَّم في جواب الأصل الرابع، وفي بعضِ المسائل اللغوية مما ذكره في " الكشاف " كما ذكروه في تخطئته قي تفسير (1) قوله:{بَاخعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] مع أنَّه في هذين الفنين ممن لا يشَقُّ له غبارٌ، ولا يُقاس به الأئمة الكبار، ولم يزل علماءُ العربية يُخطِّىءُ بعضُهم بعضاً، بل قد يَغْلَطُ العربي في عربيته، وفي " الكشاف "(2) وفي سائر الصحاح أن عدي بن حاتم الصحابي، وهو عربيٌّ محض غَلِطَ في معنى قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فظن أنَّه على ظاهره (3).
وقد اختلف الصحابةُ في الأخوين هل يسميان إخوة (4)، وفي غير ذلك
(1) 2/ 473.
(2)
1/ 339.
(3)
وهو ما رواه البخاري (1916) و (4509) و (4510) ومسلم (1090) وأحمد والحميدي (916) والترمذي (4050) و (4051) و (4052) وأبو داود (2332) والنسائي 4/ 148، والطبراني في " الكبير " 17/ 172 - 179، عن عدي بن حاتم، قال، لما نزلت:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله! إني أجعلُ تحت وسادتي عقالين، عقالاً أبيض، وعقالاً أسود. أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ وسادتك لعريض: إنما هو سوادُ الليل وبياض النهار " واللفظ لمسلم.
(4)
جاء في سورة النساء الآية: {فإن كان له إخوة} أي: فإن كان للميت إخوة مع الأبوين، =
مِن معاني كتاب الله تعالى.
فإن قلتَ: فكم القدرُ الواجبُ مِن العربية، وهل هو متعسِّرٌ أو متعذِّر؟.
قلتُ: ذلك لا يتقدَّرُ بمقدار، ولا يستمِرُّ الحالُ فيه لاختلاف الفِطَنِ، وتفاوتِ الأفهامِ، وفي الناس مَنْ يكفيه القليلُ، وفيهم مَنْ لا يكفيه الكثيرُ، ولا بُدَّ مِن القراءة في الفنِّ حتى يتمكن من معرفة مسائل الفن جَلِيِّها ودقيقِها غالباً، وإنما قلت: يتمكن لما قدمنا ذكرَه من أنه لا يجبُ حفظُ سائر الفنون غيباً وكذلك حفظُ العربية، وإنما الواجبُ أن يقرأ فيها حتى تكونَ له ملَكةٌ ثابتةٌ يَصْلُحُ معها لمطالعةِ الكُتُبِ البسيطةِ، وفهم عبارات النحاة، والخوض مع المحققين في لطائف المعارف عند الحاجة إلى ذلك، وقد تقدَّم الدليلُ على عدمِ وجوبِ الحفظ على المجتهد، وأن الواجبَ أن يكون متهيئاً للمعرفة، متمكناً منها، لا حاصلاً عليها في الحالِ، ولا حاجةَ إلى إعادةِ ذلك.
وإنما قلت: غالباً لما يعرِفُهُ النقادُ من أن التحقيق لا يَعْصِمُ المحقق من التعثُّرِ في بعض الدقائق، والتحيُّرِ في بعض المضايق، وأما سهولةُ ذلك وصعوبتُه، فتختلِفُ على حسب اختلاف الهِمَمِ والأفهام كما ذلك مُجربٌ معلوم.
= فإنهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردونها إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة، حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان، أحدهما: يحجبانها عن الثلث قاله عمر وعثمان وعلي وزيد والجمهور، والثاني: لا يحجبها إلا ثلاثة، قاله ابن عباس واحتج بقوله:" إخوة " والإخوة اسم جمع، واختلفوا في أقل الجمع، فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول أصح، وإنما حجب العلماء الأم بأخوين للدليل اتفقوا عليه، وقد يسمى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة. وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما يريدون: رحلي رحالهما. " زاد المسير " 3/ 27 - 28، وانظر " مجاز القرآن 1/ 118 و" جامع البيان " 8/ 40 - 44، و" تفسير ابن كثير " 2/ 198 - 199، و" تفسير المنار " 4/ 416 - 417.