الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمن تكلم بها لاهجاً بالمراء متعنتاً، وما أحْسَنَ قولَ أبي محمد علي بن أحمد الفارسيِّ (1):
وخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الهُدَى
…
وَشَرُّ الأُمُورِ المُحْدَثَاتُ البَدَائِعُ
النظرُ الثَّامِنُ: أن نقولَ: المجتهدُ: هو المتمكِّنُ مِن معرفة الأحكام الشرعية
بالبحث، والنَّظَرِ، ولم يقل أحد: إنه يجب أن يكونَ المجتهدُ عالماًً بأحكامِ الحوادثِ بحيثُ إذا سُئل عن المسألة، أجابَ السائِلَ في الوقت على الفور مِن غير نظرٍ، ولا طَلَبٍ، وهذا مشهور في كتب الأصول.
ولما ذَكَرَ ابنُ الحاجب (2) في " مختصر منتهي السُّول ": أن الفقيه: هو العالمُ بالأحكام. أورد على هذا الحدِّ إشكالاً، وهو أنَّه لا يَطَّرِدُ لثبوت: لا أدري. وأجاب عنه: بأن المرادَ تَهَيُّؤُه لِلعلم بالجميع.
والسَّيِّد -أيَّده الله- يَعْرِفُ هذا، ويُقرئهُ كُلَّ عامٍ في غالب الأحوال، وأنا مِمن قرأه عليه، فقرَّرَه ولم يُنْكِرْه. فإذا ثَبَتَ ذلك، فالعالمُ في حال سرقةِ كتبه باقٍ على أهلية الاجتهاد، لأنَّه متمكن منه بعدَ سرقتها بالبحث في كُتُبِ العلماء ومراجعتهم وسؤالهم عما لا يَعْرِفُه، كما سأل عليٌّ عليه السلام وأبو بكر وعمَرُ رضي الله عنهما والعالم في حال غَيْبَةِ كتبه عنه مِثْلُه في حال جهله بالمسألة، فإن السَّيِّد إنما استعظم أن يكونَ العالمُ جاهلاً بالمسألة في بعض الأحوال، وهذا أَمْر لازم لا بُدَّ للمجتهد
(1) المشهور بابن حزم الأندلسي الظاهري الفقيه الأديب المتكلم المتوفى سنة 456 هـ صاحب " المحلى "، و" الفِصَلِ "، و" طوق الحمامة "، وغيرها من المؤلفات. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/رقم الترجمة (99).
(2)
عثمان بن عمر المتوفى سنة 646 هـ، وانظر المسألة في كتابه 1/ 29 مع شرح النص وحواشيه.
منه. ولهذا نصَّ العلماءُ على أنَّه إذا أفتى في المسألة مرةً، ثم سُئِلَ عنها مرة ثانية، فلا يخلو إمَّا أن يكونَ ذاكراً لطريقة الاجتهاد، جاز له أن يُفتي بفتواه الأولى أو ناسياً لها، لم يجز له أن يُفتي حتَّى يُجدِّد النظر، فدلَّ على أنهم يُجيزون أن تَرِدَ المسألة عليه، وهو لا يدري ما حكمُها هذا في المسألة التي قد نظر فيها وأفتى، فكيف بالمسألة التي لم يَسْمَعْ بها قطُّ.
وهذا مشهورٌ عندَ أهلِ العلم، وقد سُئِلَ ابنُ مسعودٍ عن مسألة، فما زال يَنْظُرُ فيها شهراً، ثم أجاب بعدَ شهرٍ كامل.
وقد يموتُ العالِمُ وهو متوقِّفٌ في المسألة، فقد بيَّض السيدُ الإِمام أبو طالب عليه السلام بعضَ المسائل في " شرح التحرير "، وكثيرٌ من العلماء المصَّنفين يموتُ وهو مبيِّضٌ في تصنيفه لمسائل. فقد رأيتُُ السَّيِّد أبا طالب يتوقَّفُ في غيرِ مسألة في كتاب " المجزي " ويمضي على التوقف المحض. وهذا بناءً على القول المنصور في الأصول: إِن التوقف في الحكم هو حكمُ المجتهد عند تعادُلِ الأمارات، وبناءً على جواز تعادل الأمارات في حقه. فلو كان التشنيعُ لمجرد العبارات مبطلاً للأحكام، لَبَطَل كثير من شرائع الإسلام، فكانَ لَا يَصِحُّ توقفُ المجتهد في الحادثة عندَ سؤاله عنها، لأنَّا في تلك الحال لا ندري كيف يُقال: هل يقولُ المجتهدُ للسائل: أمهلني أياماً قلائِل، فإن اجتهادي لَمَّا سَمِعَ بسؤالِكَ، أَبَقَ وأبى، وامتلأ غضباً، وأمعن هرباً، أو يقول: إن علمي بالحادثةِ ضاع منِّي وضلَّ، وخرج من يَدَيَّ وزلَّ، فما أدري أين ضلَّ، ولا أعْرِفُ أين نزل.
وهذا وأمثالُه إنما يليقُ ذكره في كتاب " سُلْوَانِ المُطَاعِ "(1) وكتاب
(1) اسمه الكامل " سلوان المطاع في عدوان الأتباع " تصنيف محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر الصّقلي المتوفى سنة 567 أحد الأدباء الفضلاء، صاحب التصانيف الممتعة، =
" الصَّادِح والبَاغِم "(1) وكتاب " كليلة ودِمنة " وأمثاله.
ومِن هذا القبيلِ قولُ الشَّافعية: ما أحذقَ دَلْوَ أبي حنيفة يَعْرِفُ النجس من الطاهر، قالوا ذلك تشنيعاً على أبي حنيفة، لمَّا قال أبو حنيفة: إنَّ ماءَ البِئْرِ المتنجس يَطْهُرُ بالنزح منه على حسب النجاسة في كثرتها وقلتها على ما هو مفصَّل في كتب الفروع (2).
وكذلك لما قال الشافعيُّ في القُرعة (3) في كثير من المسائل، قالت الحنفيةُ: ما أَكْيَسَ قُرْعَةَ الشافعيِّ: تَعْرِفُ المُحِقَّ من المبطل.
= وكتابه هذا ألفه لبعض القواد بصقلية سنة أربع وخمسين وخمس مئة، وقد طبع عدة طبعات في مصر وتونس، وترجم إلى الإيطالية والإنجليزية مترجم في " سير أعلام النبلاء " 20/رقم الترجمة (336).
(1)
الصادح والباغم: رجز عدد أبياته ألفا بيت نظمها الشريف أبو يعلى محمد بن محمد الهاشمي العباسي المعروف بابن الهبارية المتوفى سنة 504 هـ، وأهداه إلى الأمير أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس صاحب الحِلة، انظر " وفيات الأعيان " 2/ 490، و4/ 456.
(2)
انظر تفصيل المسألة وأدلتها في " البناية شرح الهداية " للبدر العيني 1/ 384 - 422.
(3)
قال الحافظ في " الفتح " 5/ 293: ومشروعية القرعة مما اختُلِفَ فيه، والجمهورُ على القول بها في الجملة، وأنكرها بعضُ الحنفية، وحكى ابنُ المنذر عن أبي حنيفة القولَ بها، وجعل البخاريُّ ضابطَها الأمر المُشْكِلَ، وفسرها غيرُه بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاححة فيه، فيقرع لفصل النزاع. وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطالٌ لشيء من الحق كما زعم بعضُ الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء، فعليهم أن يعدِلُوا ذلك بالقيمة، ثم يقترِعُوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقُرعة مجتمعاً مما كان له في الملك مشاعاً، فيضم في موضع بعينه، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه، لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحدٌ منهم شيئاً معيناً، فيختاره الآخر، فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية، وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقدُ الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين، والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نقل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في المنزل المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم، والدخول في ابتداء النكاح، والإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة.