الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهما أعلم، وفي رواية وهو أعلم، ورجع عن ذلك.
وفي رواية غيرِ صحيحة أخبره بذلك أسامة بن زيد، وفي رواية أخبره بذلك مخبر غيرُ مسمى، وقد تعاطى بعضُ مَنْ يُلْتَفَتُ إليه أن هذا يَدُلُّ على أنه يتعمَّدُ الكذبَ، أو يُتَّهَمُ بذلك، والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنَّه لو صح التشكيكُ في صدق مثلِ أبي هُريرة الذي هو أحدُ كبارِ الصحابة وحُفَّاظهم وعيونهم، ومن المشهورين في عصرهِم بالرِّواية والفتوى، وقد ثبت الثناءُ عليهم كتاباً وسنة وخبرةً وعموماً وخصوصاًً وظواهر ونصوصاً، وقد مرَّ طرفٌ من ذلك في أوَّلِ هذا الكتابِ فلو صحَّ التشكيكُ في صدقه، وصدقِ أمثالِه من الصدرِ الأول الذين على نقلِهِمْ وأمانتهم المُعَوَّلُ، لكان الشَّكُّ في القادحينَ فيهم، المتأخرينَ عنهم رتبةً وزماناً وأمانةً وإيماناً أولى وأحرى، وأقرب وأقوى، وحينئذ تبطُل هذه الواقعة وأمثالُها بما يقدح به عليه وعلى أمثالِه، لأن صِحةَ ذلك فرعٌ على صِدْقِ رواةٍ كثيرٍ متأخرين من الذين الكذبُ فيهم فاشٍ دونَ الصحابةِ وتابعيهم بشهادة الأحاديثِ المتلقاةِ بالقبولِ في تزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل عصره، والذين يلونهم، ثم يفشو الكَذِبُ منْ بَعْدُ، فكيف يُصَحَّحُ في القدحِ في أبي هُريرة حديثٌ يدور على رواة أوثَقُهُم دُونَ أبي هريرة في الشُّهرة بالإيمان والإِمامة والإِسلام والدِّيانة، وهذا دأبُ المبتدعةِ ينقلُونَ القدح في الأخبار ورواتها عمن لا يُوثَقُ به، ويقدحونَ في الآحاد الصِّحَاح بالآحادِ البواطِلِ، كناقش الشوكة بالشَّوكَةِ، وكيف يقومُ الظِّلُ والعُودُ أعْوَجُ؟
الوجه الثاني: أنَّه قد ثبت في هذا الحديثِ من الاختلاف والاضطراب شيءٌ كثيرٌ
جدّاً منه في الإِسناد، ومنه في المتن، فمنهم من
يقول فيه: عن عائشة، وأمِّ سلمة معاً، ومنهم من يقول: عن عائشة وحدَها، ومنهم: عن أُمِّ سلمة وحدَها، ومنهم عن عائشة وحفصة معاً، ومنهم عن حفصة وحدَها، ومنهم عن أبي بكر بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن عائشة، ومنهم عن أبي بكر، عن عائشة، ومنهم عنه، عن أمِّ سلمة، ومنهم عنه عن أبيه عن أم سلمة، ومنهم عنه عن أبيه عن جده عنها، ذكره المزي في أطرافه في تراجمهم عن عائشة، عن أم سلمة، وذكر في ترجمة عبد الملك عن أم سلمة (1) أن فيه اختلافاً كثيراً على عراك. وأكثر ذلك أو كلُّه مبين في " سنن النسائي الكبرى " لا في الصغرى المسماة " بالمجتبى " فهذا اختلافهم واضطرابُهم في الإسناد.
وأما في المتنِ، فمنهم مَنْ ذكر قِصَّةَ أبي هُريرة، ومنهم من لم يذكرها.
ومنهم من جعل سببَ القِصَّة بلوغَ فتوى أبي هريرة إلى مروانَ، وحينئذ أرسل مروانُ عبدَ الرحمان إلى عائشة.
ومنهم من جعل السببَ بلوغَ الفتوى إلى عبد الرحمان، وأنه حينئذ سأل عائشة وأم سلمة من غير علم مِن مروان، ثم أخبر مروان.
ومنهم من قال: إنهم لقُوا أبا هريرة عند بابِ المسجد، فأخبروه بقولِ عائشةَ وأمِّ سلمةَ مِن غير قصدٍ.
ومنهم من قال: إنَّهم قصدوه لِيخبروه، وساروا بأمرِ مروانَ إلى
(1)" تحفة الأشراف في معرفة الأطراف " 13/ 23، وانظر أيضاً 11/ 430 حديث (16171) و474 حديث (16299) و12/ 314 حديث (17622) و340 حديث (17696).
أرضِ أبي هُريرة إلى العقيق.
ومنهم من قال: إن عبدَ الرحمان كره ما أمر به مروان مِن إخبار أبي هريرة بذلك وكَرِهَ قصدَه لِذلك، ولم يمتثل أمرَ مروان في ذلك، وقال: ثم قُدِّرَ لنا أن نجتمع بِذِي الحُلَيْفَةِ، وكانت لأبي هريرة هناك أرضٌ، فأخبره عبد الرحمان بذلك.
ومنهم من قال عن أبي هُريرة: أنَّه قال: هما أعلمُ، يعني: عائشةَ وأمَّ سلمة، ورجع إلى قولهما.
ومنهم من قال عنه: إنَّه قال: هو أعلم، يعني: الفضل، وبقي على قوله، ونحو هذا من الاختلاف الشديد.
ومن جملة ما وقع في هذا الحديث من اختلافِ رواته اختلافُهُم في من أسند أبو هريرة الحديثَ الذي احتج به في فتواه إليه، فأما من يعرف الرجالَ والجرحَ والتعديل، ومقادير المختلفين في الحفظ، ويميزُ الروايةَ الشاذَّةَ مِن المشهورة، فإنه يُمْكِنُهُم تصحيحُ البعض من ذلك، وطرحُ البعض، والوقفُ في البعض، والحكمُ بالاضطراب في المستوى دونَ غيره.
وأما جَهَلُةُ هذا الشأن، فإنه يلْزَمُهُمُ الحُكْمُ ببُطلانه، وكذلك العارفُ الذي صحَّ عنه فيه شرطُ الاضطراب، وهو استواءُ المختلفين أو تقاربُهم في الحفظ والعدالة، وإليه أشار النسائي حيث لم يُخرجه في " المجتبى " وقد ذكر ابن الأثير في ترجمة النسائي من مقدمات " جامع الأصول " أنَّه اقتصر في " المجتبى " على الصحيح من " سننه الكبرى "(1)، وما ترك منها إلا
(1) هذا وهم فاحش وقع لابن الأثير، تابعه المؤلف عليه دون تمحيص، ورتب عليه نتائج غير صحيحة، وقد بينت بطلان هذا الوهم فيما علقته على " تهذيب الكمال " 1/ 328، فراجعه.