الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعدوم أولى من حمله على الأكثرِ دونَ الموجود الكثير على هذا الأصلِ؟ لا سيما وليس العموم بصريحٍ فكان يجبُ على السَّيِّد -أيَّده الله- أن يُبطل هذا القول.
الإشكال الرابع: أنها جاءت أدلةٌ على أن المتأوِّل في الكبيرة التي ليست بكفرٍ يُسمَّى مسلماً
بنصِّ النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما يُسَمَّى مُوَحِّداً (1)، ومِن أهل الملة، ومِن أهل القبلة، والمسلم مقبول.
أمَّا المقدمة الأولى -وهو أنَّه يُسمَّى مسلماً وإن كان عاصياً باغياً- فكقولِ النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن: " إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ وسيُصْلِح اللهُ به بَيْن طائفتيْنِ عظيمتين من المُسلمين "(2)، وهذا حديثٌ صحيح مشهورٌ متلقىً بالقبول روته الزيديةُ، وعلماءُ الحديث، وكلُّ من تكلَّم في فضائل الحسنِ بنِ علي عليهما السلام غالباً.
وقال الحافظ ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب "(3) في مناقب الحسن عليه السلام: رواه اثنا عشر صحابياً.
(1) في (ج)"موجوداً" وهو خطأ.
(2)
أخرجه أحمد في " المسند " 5/ 37 و44 و47 و49 و51، وفي فضائل الصحابة (1354) و (1400) والبخاري (2704) و (3629) و (3746) و (7109) والترمذي (3773) وأبو داود (4662) والنسائي 3/ 107، وعبد الرزاق 11/ 452، والطبراني 3/ 21 - 24، والببهقي 6/ 165، والطيالسي (874).
ورواه ابن راهويه في " مسنده " عن الحسن مرسلاً كما في " المطالب العالية " 4/ 73 والبزار في " مسنده " عن جابر كما في " المجمع " 9/ 178.
قاله البغوي في " شرح السنة " 14/ 136 - 137: وفي هذا الحديث دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم كلهم مسلمين مع كون إحدى الطائفتين مصيبة والأخرى مخطئة. وهكذا سبيل كل متأول فيما يتعاطاه من رأي أو مذهب إذا كان له فيما يتأوله شبهة وإن كان مخطئاً في ذلك، وعن هذا اتفقوا على قبول شهادة أهل البغي، ونفوذ قضاء قاضيهم.
(3)
1/ 369، ولفظه: رواه جماعة من الصحابة.
وليس يدخل فيه من عَلِمْنَا بالقرائنِ أنَّه معاندٌ مجترىءٌ غير متأوِّل منهم، ولا مَنْ صحَّ في الحديث أنَّه منافق أو نحو ذلك، لأن حكم الواحدِ المخصوص لا يتعدَّى إلى الجماعة، ولا يلزمُ مِن خروج الخصوصِ بطلان العموم. وفي " صحيح مسلم " عن عمَرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه أن جبريلَ عليه السلام سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال:" شهادةُ أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمَّداً رسولُ الله، وإقَام الصَلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وحجُّ البَيْتِ، وصَوْمُ رمضان "(1).
وفي الحديثِ من هذا القبيل ما يطولُ ذكرُه، والمتأولون ممن ليس بكافر قائمون بهذه الأركان، وقد سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب معاوية مسلمين في حديث الحسن عليه السلام (2)، وهو خاصٌّ لا يُعَارَضُ بالعمومات، وكذلك ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصحابَ معاوية بُغَاة كما جاء في حديث عمار:" تقْتُلكَ يَا عَمَّارُ الفِئَة البَاغِيَةُ "(3) خرجه
(1) هو في صحيح مسلم برقم (8) وأخرجه الترمذي (2738) وأبو داود (4695) والنسائي 8/ 97، وأحمد 1/ 27 و51 و52 و53، والبغوي (2). وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري (5) و (4777) ومسلم (9) و (10) وأبي داود (4608) والنسائي 8/ 101.
(2)
وقد تقدم في الصفحة 169.
(3)
أخرجه من حديث أبي سعيد البخاري (477) و (2812) ومسلم (2915) وأحمد 3/ 5 و91، وابن سعد 3/ 1/180 ومن حديث عمرو بن العاص أخرجه أحمد 4/ 197، وقال الهيثمي في " المجمع " 9/ 297: رواه الطبراني مطولاً ومختصراً، ورجال المختصر رجال الصحيح، غير زياد مولى عمرو، وقد وثقه ابن حبان، ومن حديث أم سلمة أخرجه أحمد 6/ 289 و300 و311 و315 ومسلم (2916).
وعن عمار أخرجه أبو يعلى والطبراني والبزار كما قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 259 وانظر طرقه الكثيرة عند ابن سعد في " طبقاته " 3/ 1/180 وفي " مجمع الزوائد " 7/ 242 وما بعدها و9/ 295 - 297، وفي " نظم المتناثر في الحديث المتواتر " ص 126 حيث ذكره عن واحد وثلاثين صحابياً، وانظر " فتح الباري " 1/ 543.
أهل الصحاح والسنن والمسانيد والتواريخ وجميع أهل البيت وأهل الحديث والشيعة، وحكم علماء الحديث بتواتره، منهم الذهبي ذكره في " النبلاء "(1) في ترجمة عمار رضي الله عنه، وهو مذهبُ أئمة الفقهاء، ومذهبُ أهلِ الحديث كما نقله عنهم العلامة القُرطبي في أواخر كتابه " التذكرة في التعريف بأحوالِ الآخرة "(2) كما سيأتي بيان ذلك مبسوطاًً في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. فلا يخلو، إما أن يُثبت أن أصحابه يسَمَّوْنَ فسقةً في ذلك الزمان بنصٍ صحيح مثل ما ثبت أنهم يُسمَّوْنَ مسلمينَ وبغاةً، أو لا، إن لم يثبت ذلك لم تَنَاوَلْهمُ الآية الكريمة، وإن ثبت ذلك، فقد تناولهم اسمُ الفسق الذي يرد أهله، واسم الإسلام الذي يقبل أهله، فتعارضَ دليلُ قبولهم، ودليلُ ردِّهم، ولم يكونوا كالذين يُسمَّوْنَ فساقاً فقط، ولا يُسمون مسلمين ألبتة. فلا تدُلُّ الآيةُ الكريمة على مقصودِ السَّيِّد حتى يرتفِعَ هذا الاحتمالُ، فإنَّه إما راجحٌ، أو مساوٍ، أو مرجوحٌ محتمل، يوضِّحُ ذلك إن التفسيرَ للآية بذلك هو المشهور في كتب أهل البيت عليهم السلام كما ذكره صاحب (3)" شفاء الأوام " وادَّعى الإجماع عليه، فإنه قال في كتاب الوصايا من " شفاء الأوام " ما لفظه: وقولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة} [الحجرات: 6] تدل على المنع من الإيصاء إلى الفاسق، وقولنا: إن الوصية لا تجوزُ إلى الفاسق نريدُ الفاسق المجاهر، فأما الفاسقُ
(1) 1/ 421 ونص كلامه فيه: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر.
(2)
ص 546.
(3)
هو الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، المتوفى سنة 662 هـ، مترجم في " تاريخ اليمن " للواسعي 32، وانظر" الأعلام " 2/ 255 - 256 ومن كتابه هذا عدة نسخ في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء انظر " الفهرس " ص 85 - 89.
مِن جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءته في النكاح كما تقدَّم، ونقبلُ خبره الذي نجعلُهُ أصلاً في الأحكام الشرعية لإِجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول أخبارِ البُغاة على أمير المؤمنين عليه السلام، وإجماعُهم حجة. انتهي كلامُه عليه السلام.
فإن قلتَ: الدليلُ على أنهم لا يُسَمَّوْنَ مسلمين إجماع أهل البيت عليهم السلام.
فالجوابُ أنَّ أهلَ البيت عليهم السلام لم يتكلموا في هذه المسألة، وإنما أجمعوا في صورتين لم نُخالفهم في واحدة منهما (1):
إحداهُما: أجمعوا أن حُكْمَ الفاسق في الآخرة غيرُ حكمِ المسلمين القائمين بالواجبات، المجتنبين للمحرمات، ونحن لا نُخالفهم في هذه الصورة (2).
الصورةُ الثانية: أجمعوا أنَّه لا يُسمى مؤمناً ولا مسلماً ولا كافراً في هذه الأعصار الأخيرة، لأنها قد صارت هذه الأسماء في هذا العرف الأخير تُفيد معانيَ مختلفةً يترتَّبُ عليها أحكام شرعية، وللعرف تأثير في تحريم إطلاقِ الألفاظ، ألا ترى أنَّه قد ورَد في الحديث تسميةُ كثير من المعاصي بالكفر (3)، ولا يجوز أن يُسَمَّى فاعِلُها اليوم كافراً. وتلخيصُ هذا الوجه أن
(1) في (ج) و (ش): منها.
(2)
سقطت من (ب) و (ش).
(3)
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " وقوله: " إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " وقوله: " بين الرجل والكفر ترك الصلاة " وقوله: "من حلف بغير الله فقد كفر" وقوله: " من أتى كاهناً فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد " وقوله: " اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت " وهي صحيحة مخرجة في تعليقنا على شرح الطحاوية ص 295 - 296.
المسلم والمؤمن لم يكن معلوماً أنَّه يفهم من إطلاق أهل العلم لهما في ذلك الزمان، أنهما يُفيدان عدمَ فسق التأويل، ولا ثبوتَه، وأما اليومَ، فقد صار العارفُ لا يُطْلِقُ هذه اللفظة على فاسقِ التأويل، فلو قال العارف اليوم في فاسق التأويل: إنَّه مسلم كان تزكيةً له من فسق التأويل، ولو قال ذلك قائلٌ في الصدر الأول، جاز أن لا يكون تزكيةً من فِسْقِ التأويل.
ويدُلُّ على هذه التفرقة بين الأزمان في جواز إطلاق الأسماء وعدمه أن أهل البيت عليهم السلام لا يُجيزون أن يُسمَّى الكافِرُ فاسقاً في الزمان الأخير، لأن تسميته بذلك تُفيد أنَّه ليس بكافر وقد ثبت بالنصوص المتقدمة أنه كان يُسمى فاسقاً في الزمان الأول، وهذا دليل واضح.
فإن قلت: كيف يجوز أن يُسمى مسلماً في ذلك الزمان وهو اسمُ مدح، والفاسقُ لا يستحق المدحَ؟
قلتُ: كما يجوزُ أن يسمى مُوحِّداً ومصلياً وحاجّاً، وذلك لأن هذه أسماء فاعلين، وكُل من فعل فعلاً حسناً أو قبيحاً، اشتق له منه اسم، وإذا فعَل الفاسِقُ ما يستحِق أن يُمدح به، مُدِحَ بما فعل، كما يُوصَفُ حاتِم بالكرم، وعنترةُ بالشجاعة ولا مانع من هذا، وإنما يمتنع مدحُه على فسقه أو مدحُه على الإطلاق، فإن قدرنا إنَّه منع من هذا مانعٌ، لم يمنع من مجرد التسمية، فقد تصِحُّ التسميةُ من غير مدح، ويكون الوجه أن المدح لا يستحق إلا مع عدم الإِحباط، وأما مع الإحباط، فلا يكون مدحاً ولكن ليس بلازم إذا حَبط الثواب أن يَبْطُلَ اشتقاق اسم الفاعل، ودليلُه تسميةُ الفاسق موحِّداً، وأما المقدمة الثانية -وهو أن المسلم مقبول- فسوف يأتي الدليلُ عليها في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى.