الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَرَّقْنَا بين المتأوِّل (1) والمتعمِّدِ في ارتكاب المعاصي، فدار القبولُ مع التأويل ثبوتاً وعدماً، ودار الردُّ مع التصريح ثبوتاً وعدماً، وهذا يُفيد ظَنَّ العِلية، وهو أحد طرق العلل، وإن لم يُفد ذلك دائماً، فمن اعتمد ذلك، لم يستحق النكيرَ، ولا التأثيمَ.
فإن قلتَ: إن مرتكب الكبيرة تأويلاً (2) قد خرج من ولاية الله قطعاً بخلاف صاحب المعصية الملتبسة.
قلت: ليس العلةُ الخروجَ من ولاية الله قطعاً بدليل أنَّ من ارتكب المعاصي تعمداً، لم يُقبل وإن لم تكن كبائرَ مع أنا لم نعلم أنَّه قد خرج مِن ولاية الله قطعاً ولا ظناً، فدل على أن المعتبر التأويل الذي يبقى معه ظَنُّ الصدق.
الحجة الخامسة عشرة: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ودخول السؤالِ عن الأدلة في هذه الآية على سبيلِ طلب (3) الاجتهاد أقربُ من دخول السؤال عن المذاهب على سبيلِ التقليد، لقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، وقد تَقدَّمَ ذكر ذلك عند الاحتجاج على تعديل حملةِ العلم (4).
فإن قُلْتَ: فقد تقدَّم أن الصحيحَ أنها في سؤال المشركين لأهل الكتاب عن الرُّسُلِ أكانوا بشراً أم لا.
قلت: ذلك صحيح أنَّه معناها الذي سِيقَتْ له، ونَزَلَتْ فيه،
(1) سقطت الواو من (ب).
(2)
في (ب): متأولاً.
(3)
في (ب): الطلب طلب.
(4)
انظر ص 315 من الجزء الأول.
ولكن قد يُؤخذ من الآية حكمٌ لم يَرِدْ فيها على سبيل الاستنباطِ، وقد يكونُ ذلك من مفهومِ الموافقة (1)، وهو قطعي وظني، فالأوَّلُ مثل تحريم الضَّربِ مِن تحريم التأفيف، والثاني مثلُ وجوبِ الكفارة في قتل العمدِ من وجوبها في قتل الخطأ على قولِ الشافعي، وهذا مِن ذاك، فإن المفهومَ أن المشركين، إنَّما أُمِرُوا بسؤالِ أهل الكتاب لجهل المشركين وعلم أهل الكتاب في تلك الحادثة، فكذا (2) كُلُّ حادثة يُوجد فيها عالم وجاهلٌ مِنَ المسلمين، فإنَّه يكون المفهومُ مِن الآية أن المشروعَ للجاهل مِن المسلمين أن يسأل العَالِمَ من أهلِ الإسلام، وهذا أولى من ذاك (3)، أقصى ما في الباب أنَّه قياس على المنطوق، فالكُلُّ منهما حُجَّةٌ.
إذا ثبت هذا، فالآية عامة في العلماءِ المتنزهين عن البدع على سبيلِ التأويل، وليس يلزمُنا في هذه الحجة وأمثالها مثلُ ما ألزمنا السيدَ في
(1) ويسمى أيضاً دلالة النص، وفحوى الخطاب: وهو ثبوت حكم المنطوق للمسكوت بفهم مناط الحكم لغةً، وهو قسمان، فتارة يكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق، كقوله تعالى:{ولا تَقُلْ لهما أُفٍّ} فإنه يفهم تحريم الضرب مثلاً بالأولى، لأن مناط النهي عن التأفيف هو الإيذاء، وهذا مفهوم لغةً، فكان منهيّاً عنه، ومن جزئياته الضرب ونحوه، فيكون منهيّاً عنه أيضاً، بل أولى، وتارة يكون المسكوت مساوياً في الحكم للمنطوق، لأننا نعلم قطعاً أن كثيراً ما يفهم الحكم في المسكوت مع عدم الأولوية لفهم المناط لغةً، وذلك كإثبات الكفارة -بالأكل عمداً في صوم رمضان كالجماع الذي ورد فيه إيجاب الكفارة بحديث الأعرابي- عند الحنفية، وكإيجاب الشافعي الكفارة في القتل العمد، واليمين الغموس بنص الخطأ في القتل، وبنص غير الغموس في اليمين، وإيجاب حد الزنا في اللواطة في غير الزوجة والأمة عند الأئمة الثلاثة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن بنص وجوبه في الزنى. انطر " جمع الجوامع " مع شرحه وحاشيته 1/ 306 - 307، و" الابتهاج في شرح المنهاج " 1/ 366 - 369، و" روضة الناظر " ص 138 - 139، و" نهاية السول " 2/ 197 - 200، و" المستصفي " 2/ 190 - 191.
(2)
في (ب): فكذلك.
(3)
في (ب): ذلك.