الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلماء موجودةٌ بِحَمْدِ اللهِ، من ادَّعى أنهم نصُوا على أكثرَ من هذا، فليُوقِفْنَا عليه، وأما ما يُطوِّلُونَ بذكره من معرفةِ الناسخِ والمنسوخ، والعمومِ والخصوصِ، ونحو ذلك، فذلك كُلُّه داخلٌ فيما ذكرتُه مِن قراءة تلك الكتب.
الوجه الثالث: إذا ادَّعى جماعةٌ من أصحابِ الشافعي جهلَ الأمَّة
والعِترة، فقد ادَّعى العلمَ غيرُهم من أئمة العِترة وعلماء الأمة، فتعارضَ كلامُهم، فنظرنا في الترجيح، فوجدنا تصديقَ أئمةِ العِترة، وعلماء الأمة أرجحَ لوجهين:
الأول: أن هؤلاء الأئمة ادَّعوا العلمَ، وقولُ العدل المرضي: إنه مجتهدٌ مقبول إجماعاً، وهو أحدُ الطرق إلى معرفة اجتهادِ العالم. وأما دعوى بعضِ الناسِ لجهل العلماء مع إنكارِ العلماء لذلك، فلا يُقْبَلُ إِجماعاً، لأنَّه ليس لنا أن نُصدِّق من ادعى على مسلم ما يُدخِل عليه النقص مِن غير بينة ولا حجة، وذلك المسلم منكرٌ لتلك الدعوى، سواء كان المدعي عدلاً أو مجروحاً، معروفاً أو مجهولاً، وهذا إجماع.
الثاني: أن بعضَ أصحاب الشافعي نَفَوْا الاجتهاد، وأئمة العِترة وعلماء الأمة أثْبَتُوه، والمثبت أولى من النافي، وهذا واضح على أن في أصحابِ الشافعي رحمهم الله من ردَّ على هؤلاء المتشددين مثل الإمام يحيى بن أبي الخير العمْراني (1)، فإنَّه حكى ما قالُوا، وردَّ ذلك بسهولة العلم بعدَ تدوينه في الكتب.
الوجه الرابع: الدليلُ قائم على غَلَطِ منْ قال بذلك ووهمه
، والسيدُ أيده الله لا يزالُ يُقرىء أنَّه لا يجوز خُلُوُّ الزمان مِن مجتهد يَصْلُح للإمامة،
(1) شيخ الشافعية في اليمن صاحب البيان وغيره من المصنفات، المتوفى سنة 558 هـ، مترجم في " طبقات الشافعية " للسبكي 7/ 336 - 338.
فكيف يُصدِّقُ بعضَ أصحاب الشافعي، وهُو لا يزالُ يُقرِىء (1) ما يقتضي بطلانَ قولهم عنده، أيدَه اللهُ.
الوجه الخامس: قد ثَبَث أنَّ الأمةَ معصومةٌ، وأن إجماعَها حُجَّةٌ إلى يومِ القيامة، وأن المعتبر في الإجماع هُمُ العلماء، وهذه دعوى لجهلِ الأمة تَقْتَضي عدمَ العِصمة، وبطلانَ كونِ الإجماع حجة، وذلك لأنَّه لو لم يكن فيهم مجتهدٌ، وَحَدَثَتْ حادثة ليس فيها ما يَصِحُّ رجوعُهم إليه مِن دون الاجتهاد، فإما أن يُجْمِعُوا أو يختلِفُوا، وعلى كلا الطريقين يلزمُ إما اجتماعُهم على الضلالة، أو خَبْطُهم عند الاختلاف في الجهالة، وذلك لأنَّ كلامهم إما أن يكون بالجُزاف (2) والتَّبخيت، وهذا لا يجوز، أو بالاستدلال وهو لا يجوز أيضاًً بعدَ فرضِ جهلهم - صانهم اللهُ عن ذلك.
الوجه السادس: أنا نعلمُ أنَّ المدعي لجهل الأمةِ والأئمةِ متهوِّرٌ مجازِف، وذلك لأنَّه لا سبيلَ له إلى المعرفةِ بجهل الأمة والأئمة مع كثرة العلماءِ والمتعلمينَ في جميع الأوساطِ والأطرافِ من المملكة الإسلامية في الشام ومصر والغرب، والعراقَيْنِ، واليمن، والجزيرة. ومنتهي الأمرِ أنَّه طلب فلم يَجِدْ، فعَدَمُ الوِجدانِ لا يَدُلُّ على عدمِ الوجود، والعجبُ من الرَّازِي أنَّه ادَّعى ذلك مع أنَّه لا يزال يستدِلُّ بهذا الدليل.
والعجبُ منه أيضاًً أنَّه قال: العلم بإجماع المتأخرين محالٌ مع فُشُوِّ
(1) في (ب): يقوي.
(2)
الكلام الجزاف: الكلام الذي يقال بلا علم ولا روية ولا تثبت، والتبخيت من البخت، وهو الحظ، وقد تكلمت به العرب، قال الأزهري: لا أدري أعربي هو أم لا، ورجل بخيت: ذو جد، قال ابن دريد: ولا أحسبها فصيحة، والمبخوت: المجدود. وفي " اللسان ": وقد تكلمت به العرب، ومثله في " شفاء العليل " وقال صاحب " المصباح ": البخت: الحظ وزناً ومعنى، وهو أعجمي معرَّب.
الإسلام، وتباعُدِ أقطاره، وكثرة أمصاره، وتفرقِ العلماء في أنجاده وأغوارِه، وادَّعى أن العلمَ بأعيانهم محالٌ، ومعرفة أقوالهم فرعٌ على معرفة أعيانهم، وفرعُ المحالِ محال، فنقول له: وكذلك معرفةُ أعيانِ الأمة أكثرُ إحالةً من معرفة أعيان علمائهم، والحكم عليهم بالجهل فرعٌ على معرفة أعيانهم، وفرعُ المحال محالٌ.
الوجه السابع: أن في الحديثِ الصحيحِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الكِبْر، فقال:" هو بَطرُ الحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاس "(1) والقولُ بتجهيل أكثر الناسِ، وتكذيبهم في دعواهم للاجتهاد مِن غَمْصِ الناس، فثبت أنَّه حرام، وما ثبت أنَّه حرامٌ، بَطَلَ أن يكونَ حجة.
الوجه الثامن: أن هؤلاء الذين ادعوا أن لا مجتهدَ قد أقرُّوا على أنفسهم بالجهلِ، فلا طريق لهم إلى نفيِ وجود العلماء، لأنَّه لا يَعْرِفُ العلماءَ إلَاّ مَنْ هو منهم، وكذلك لا يَعْرِفُ الفضل لأهل الفضل إلَاّ ذوو الفضلِ، والمرءُ عدوُّ ما جَهِله، فربما أنهم لجهلهم بالعلم والعلماء اعتقدوا في أهل العلم أنهم من أهل الجهل، وآفةُ التِّبْرِ ضعْفُ منتقدِه، وما أحسنَ، قولَ شيخ المعرة:
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 385، و427 ومسلم (91) والترمذي (1999) وأبو داود (4091)، والحاكم 4/ 182، والطبراني في " الكبير "(10533) وابن خزيمة في " التوحيد " ص 247، وابن سعد 7/ 475 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ " قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس "، وبطر الحق: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله، وغمط الناس: الاستهانة بهم، واستحقارهم.
وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود (4092)، والحاكم 4/ 181 - 182.
وعن عقبة بن عامر عند أحمد 4/ 151.
وعن الله بن عمرو عند أحمد 2/ 169 و225، والبخاري في " الأدب المفرد "(548) وعن أبي ريحانة عند أحمد 4/ 133 - 134، وابن سعد 7/ 425.
والنجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصَارُ رُؤْيَتَهُ
…
والذنْبُ لِلطَّرْفِ لا لِلنَّجْم في الصِّغَرِ (1)
وليسَ هذا الاعتقادُ بضائرٍ لعلماء الأُمَّة، فالدُّرُّ دُرٌّ برغم من جهِلَه.
وبتمامِ هذا الوجه، تمَّ الكلام على المسألة الأولى، وهي الكلامُ على سُهُولَةِ ترقِّي مرتبة الاجتهاد.
ثم إنَّ السَّيِّدَ أيَّده الله أردفها بالمسألة الثانية في القَدْحِ في كتب الحديثِ المشهورة.
ولما أردتُ الجوابَ عليه، تأمّلْتُ كلامَه، فإذا أكثرُه مبني على الِقدح بالتأويل، ومتركّب عليه في الإجمالِ والتفصيل. فرأيتُ تقديمَ الكلام على هذه المسألة الثالثة صالحاً، وتمهيد هذه القاعدة قبل التفريع عليها راجِحاً، وذلك، لأنَّ السَّيِّد خَلّل ذِكْرَ هذه المسألة في غُضون كلامه، وهي مسألة كبيرة لا يُمكِنُ التعرض لها في ضِمنِ غيرها، ولا بُدَّ من إفرادها، والسيدُ قد أفردها في رسالته، ولكنه أخَّرها، وما يليق تأخيرها، لأنها أساسُ المسألة الثانية، والذي يليقُ في الترتيب تقديمُ الأساسِ، والقواعدِ على ما يتفرع عليها من الفوائد، فلنذكر كلامَ السيد أيَّده الله بلفظه، ثم نتبعه الجوابَ كما قدمنا.
قال: المسألة الثالثة: في رواية كُفَّارِ التأويل وفسَّاقه وقد قدمنا أن قاضي القضاة روى الإجماعَ على ردِّ رواتهم، وتأول كلامَ الفقهاء.
أقول: الكلام في هذه المسألة يَتِمُّ -إن شاء اللهُ تعالى- في
(1) هو في " سقط الزند " ص 61 من قصيدة مطلعها
يا ساهِر البرق أيقظ راقدَ السَّمُرِ
…
لَعلَّ بالجِزع أعواناً على السَّهر
فصلين، أحدُهما: في تَتَبُّعِ كلامِ السيد، وذكر ما يَرِدُ عليه من الإشكالات، والثاني: في ذكر الأدلةِ على قَبول المتأوِّلين.
أما الفصل الأول: فاعلم أنَّه يَرِدُ على كلامه إشكالات كثيرة جداً تبلُغ مئتي إشكال، أو تزيدُ على ذلك، وسوف أُبيِّنُها مقسمة على فصولِ كلامه، فمنها على هذا الفصل المقدم عشرةُ إشكالات:
الإشكال الأول: أن السَّيِّد قال: قد قمنا أن قاضي القضاة روى الإجماعَ على ردَّ روايتهم، والسيد إنما قدَّم رواية قاضي القضاة (1) في حقِّ كُفَارِ التأويل فقط، وقد جعلها هنا في حق كفار التأويل وفُساقه، وهذا سَهْوٌ من السيد، إن شاء الله تعالى.
الإشكال الثاني: أنَّ السَّيِّد قد أثبتَ قاعدة كبيرة، وهي أن كُلَّ من كذب متأوِلاً، فهو غيرُ مقبول قياساً على الخَطابِية كما سيأتي كلامُه في ذلك، وقاضي القضاة على أصل السَّيِّد من جملة منْ كذب متأولاً لخلافه في مسائل الإمامة، فما بالُ السَّيِّد نقض ما بناه مِن تلك القاعدة، وروى عن مَنْ يعتقِدُ أنَّه من الكذابين.
الإشكال الثالث: أن السَّيِّد أيَّده الله قال في حق ابنِ الصلاح لما اعتقد أنه (2) روى الإجماع على صحة " صحيحي " البخاري ومسلم ما لفظه: وليت شعري كيف كان هذا الإجماع (3)؟ أكان بأن طافَ هذا السائلُ جميع البقاع، أم بأن جُمِعَ له علماء الأمة في صعيدٍ واحد؟.
(1) هو عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفى 405 هـ شيخ المعتزلة في عصره، وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره.
(2)
في (ب): أن.
(3)
في (ب): الاجتماع.
فنقول للسيد: ليت شعري كيف كان هذا الإجماعُ الذي رواه قاضي القضاة؟ هل بأن طافَ جميعَ البقَاع، أم بأن جُمِعَ له علماءُ الأمة في صعيدٍ واحد؟ فإنَّ السَّيِّد باعتراضه هذا على ابنِ الصلاح قد لزِمَة ألا يَصحَّ إجماع إلَاّ ممن طاف جميعَ البقاع، أو جُمِعَتْ له الأمة في صعيد واحد، وفي هذا الكلام سؤال وجواب سوف يأتيانِ -إن شاء الله- عند ذكر (1) كلام ابن الصلاح.
الإشكالُ الرابع: أن السَّيِّد روى هذا عن أبي الحسين عن قاضي القُضاةِ مع أنَّه قد روى عن أبي الحُسين أنَّه يقبلُ كفارَ التأويلِ وفساقه، فلا يأمن أن أبا الحسين روى هذا عن أحدٍ منهم عن قاضي القضاة، وقد ألزمنا السيد فيما احتمل مثل ذلك أن لا يرويه إِلَاّ بعدَ تبرئةٍ صحيحةٍ، فكان يلزمُ السيدَ أَن يُبَيِّنَ تبرئةَ أبي الحسين عن ذلك إن كان يعلمُها وإن لم يكن يعلمُها، لزمه أن لا يرويَ عنه.
الإشكال الخامس: أنَّه قال: إنَّ الرواية عن المتأوِّلين ركونٌ إليهم، وإن الله تعالى قد قال:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، ثم إنَّه روى عن أبي الحسين، وقاضي القضاة مع أنَّه قد رُوِيَ عنهما أنهما يقبلان المتأوِّلين، وذلك عنده ركونٌ إلى الظالمين، واتِّباعٌ للمُفسدين، وقد توعُّد اللهُ تعالى على ذلك بالنَّارِ، ومذهبُ الزيديةِ أن كلَّ معصيةٍ توعَّد الله عليها، فإنها كبيرة، وردُّ المتأولين عند السيد قطعي لا يعذر المخالص فيه، فيلزمُك ردُّ رواية أبي الحسين، وقاضي القضاة، وتفسيقهما على مقتضى كلامِك مع البقاءِ على مذهب الزَّيْدِيّة.
(1) لفظ " ذكر " لم ترد في (ج).
الإِشكال السادس: أنَّ المعتزلة بأنفسهم مِن جملة الَّذيْنَ ظلموا، لخلافهم لأهل البيت في الإِمامة، واعتقادهم أن أهلَ البيت اجتمعوا على الضلالة في مسألة قطعية، وغير ذلك. ولا شكَّ أنَّ ذلك عندَ أهل البيت معصيةٌ قطعاً، محتملة للكِبر يُطلق على صاحبها اسمُ العصيان والظلم، وأنت قد قلتَ: إنَّ الله قال لنبيه (1): {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وقلت: وفيها مِنَ الوعيد ما ترى، وقد قلَّلَ الركونَ بقوله:{شَيْئًا قَلِيلًا} ، هذا لفظُك، وهو حجةٌ عليكَ لأنك رويتَ عنهم، وركنت إليهم على مقتضى كلامِك.
فإن قلت: الإجماع دلَّ على قبول من لم تبلغ بدعتُه الكفْرَ، والفسْقَ، فيجبُ أن يُخَصُّوا مِن تلك العمومات؟.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّه لا طريق لك إلى معرفة الإجماعِ، لأنك قد اشترطت أن يكون راوِيه طافَ جميع البقاع، أو جُمِعَتْ له الأمةُ في صعيدٍ واحدٍ إِلَّا أن يُقصَر هذا الشرطُ على ابن الصلاح، فأنت محتاج إلى دليل على تخصيصه بذلك.
الثاني: أنَّا نُعارضُك بمثل كلامك، فنقولُ في جميع المتأولين: قد ثبت الإجماعُ على قبولِهم من طُرُقٍ لا تنحصرُ سوف نذكُرُ منها عشرَ طُرُقٍ في الفصل الثاني، إن شاءَ اللهُ تعالى. فنحن أيضاً نُخْرِجُ المتأوِّلين، ونخصُّهم من تلك العمومات، فما لك والتهويل بذكرِ العمومات المخصوصة، والظواهر الظنية؟ وهلَاّ سلكت مسالِكَ العلماء في ذكر
(1)" لنبيه " ساقطة من (ج).