الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاضينَ بتقبيحه على من آمنَ بالله وملائكتِهِ ورُسُلِهِ، وأقام أركانَ الإسلام الخمسة، واجتنب الكبائرَ المتواترة، وإنما عرضت له شُبْهةٌ في خبرٍ واحدٍ من أخبارِ الله، تعارضت عليه فيه العمومات والخصوصاتُ مع تقويه عند اعتقاده أنَّ الله صادق (1)، ولا يُخلِفُ الوعدَ ولا الوعيدَ.
الوجه الثاني: اعْلَمْ أن الحاملَ على المحافظة على الخيرات
والمجانبة للمكروهات، ليس مجردَ اعتقاد أنَّ الله يُعَاقِبُ على الذنب ولذلك لم يكن العدلُ مَن اعتقد أن الله لا يغفِرُ كبيرةً إلا بالتوبة، ولا قال أحدٌ مِن أهل (2) الإسلام: إنَّ هذه حقيقةُ العدل في الشرع، وإنما الحامل على العدالة شرفٌ في النفوس، وحياءٌ في القلوب عن مبارزة المنعم بجميع النعم بالمعاصي، ولهذا فإِنَّ أكثر الخلق محافظةً على الخير، ومجانبة للشر أكثرُهم حياءً من الله وتعظيماً وإجلالاً له، وأما مجرد الاعتقاد، فهو واحد لا يزيد، ولا يَنْقصُ ولهذا تجد الوعيدية مختلفين مع أن اعتقادَهم واحد، ولكن تفاضلها في شرف النفوس، وأنَفِهَا من دناءة المعاصي ومذلَّةِ الفواحش، واختلفوا في شِدَّةِ الحياءِ من ملك الملوك، وربِّ الأرباب، وتباينت مراتبهم في التعظيم والإجلال لِمَنْ بيده الخيرُ وهو على كُلِّ شيء قدير، ولهذا فإن أقربَ الخلق إلى الله أخوفهم منه، ولهذا اشتَّد خوفُ الأنبياء والأوصياء، وكانوا أرغَبَ الخلقِ إلى الطاعات، وقد كان كثيرٌ من الصَّالحين لا يرضى أن يَعْبُدَ الله خوفاً مِن العذاب ولا رغبةً في الثواب، وإنما يَعْبُدُهُ إجلالاً، ويُطيعه تعظيماً (3)، وكذلك قالت
(1) في (ب)، زيادة: ولا يكذب.
(2)
في (ب)، زيادة: فِرَق.
(3)
يرى فريق من أهل العلم أن ما عليه هؤلاء ليس هو الجادة، وإنما هو من الشطحات والرعونات التي تقع للسالكين، ويحتجون بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ودعائهم =
المعتزلة: لا تَصِحُّ العبادةُ بقصد دفعِ العقاب، وطلبِ الثواب، فكيف يقال: من لم يخف، قال الزورَ، وارتكب الفجورَ؟! هذا كلامُ مَنْ لم يتأمل، فقد علمنا بالضرورة أن في المرجئة عُبَّاداً خاشعين، ورُهباناً خائفين مشفقين حزناً، باكين صائمين قائمين، وكثيرٌ منا إذا نظرتَ أخَسُّ منهم في الأحوال لا في العقيدة وللهِ الحمد، وذلك لأن مَنْ صبر على مشاقِّ الطاعات، وتركِ الشهوات من غير خوف العذاب، فهو شريفُ النفس، حُرُّ الطبيعة، عزيزُ الهِمَّةِ، عظيمُ المروءة، كثيرُ الأنفة مِن دناءة المعاصي، شديد الحياء من الله تعالى، ومن لا يقومُ إلى الطاعة حتى
= وسؤالهم، والثناء عليهم بخوفهم من النار ورجائهم للجنة، فقد قال تعالى في حق خواص عباده {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} وقال عن أنبيائه ورسله {وزكريا إذ نادى ربه .... إلى أن قال {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} أي: رغباً فيما عندنا، ورهباً من عذابنا، والضمير في قوله {إنهم} عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين، وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم، وجعل منها استعاذتهم به من النار، فقال تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وأخبر عنهم أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار، فقال تعالى:{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فجعلوا أعظم وسائلهم إليه وسيلة الإيمان، وأن ينجيهم من النار.
وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فسأل الله الجنة، واستعاذ به من النار وهو الخزي يوم البعث.
وفي السنة الصحيحة نصوص كثيرة فيها الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها، والاستعاذة من النار، والخوف منها.
وقالوا: كيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض عليه، ويقول:" من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية " و" من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة " و" من كسا مسلماً على عري كساه الله من حلل الجنة " و" عائد المريض في خرفة الجنة " والحديث مملوء من ذلك، أفتراه يحرض المؤمنين على مطب معلول ناقص، ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه ....
يَخَافَ الخلودَ في النار، ولو كان إلى مجرد الحياءِ من الله تعالى، وإلإِجلالِ له، والقيامِ بحقه لم يرفع إلى ذلك رأساً، ولا هَمَّ به أبداً، فهذه طبيعة شرارِ العبيد، وخِساس الهِمَمِ، ولهذا قيل: والعبد لا يَرْدَعُهُ إلا العَصَا، وإن كثيراً من الصالحين المتوسطين -دَعْ عنكَ الأكابر- لو يعلمُ أنَّ الله قد غَفرَ له كُلَّ ذنب، ولكنه يكره المعصيه منه، ولا يرضاها له، ولا يأذَنُ له بها لمْ يَفْعَلْهُ لو أرِيقَ دمُه، وفارق روحَه، وقد روي في الحديث " نِعْمَ العَبْدُ صهيْبٌ لَوْ لَمْ يخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ "(1) بل هذه حالُ كثير من المحبين للمخلوقين فيما بينَهم، وفي ذلك يقول شاعرُهم:
أهَابُكِ إجْلَالاً ومَا بِكِ قُدْرَةٌ
…
عَلَيَّ وَلكِنْ مِلءُ عيْنٍ حَبِيبُهَا (2)
فهذا معلوم فيما بينَ المتحابين من المخلوقين والذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله.
(1) قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 449: اشتهر في كلام الأصوليين، وأصحاب المعاني، وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي إنَّه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمع جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا (الحافظ ابن حجر) أنه ظفر به في " مشكل الحديث " لأبي محمد بن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسناداً، وقال: أراد أن صهيباً إنما يطيع الله حباً، لا مخافة عقابه.
وقال السيوطي -فيما نقله عنه القاري في " الموضوعات الكبرى "- في " شرح نظم التلخيص ": كثر سؤال الناس عن حديث " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " ونسبه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه ابن مالك في "شرح الكافية" وغيره إلى عمر رضي الله عنه، قال الشيخ بهاء الدين السبكي: لم أر هذا الكلام في شيء من كتب الحديث لا مرفوعاًً ولا موقوفاً لا عن عمر رضي الله عنه ولا عن غيره مع شدة التفحيص عنه.
(2)
وبعض المفسرين ينشدونه عند قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} لتوجيه قراءة من قرأ برفع الهاء من لفظ الجلالة، ونصب الهمزة من العلماء، ونسبوها إلى أبي حنيفة، وتكلفوا توجيهها، وهي قراءة موضوعة لا تصح نسبتها إليه، افتعلها وغيرها الخزاعي، ونسبها إلى أبي حنيفة. وراج صنيعه ذلك على أكثر المفسرين. بين ذلك ابن الجزري في " النشر " 1/ 16، فراجعه.
الوجه الثالث: أن نقول: ما السببُ في تخصيصِك (1) للمرجئة بالذكرِ دونَ سائرِ أهلِ البدع؟ فإن كنتَ إنَّما ذكرتَهم لأجلِ بدعتهم، فقد شاركهم فيها كثيرٌ من الخوارج، وسائرُ فِرَقِ الضلال، وإن كنتَ إنما ذكرتَهم، لأنهم يُجَوِّزُونَ أن أهلَ المعاصي من أهل الإسلام يدخلون الجنة، بل يقطعونَ على ذلك في من مات على الإسلام، فلا شكَّ أن قولهم بدعة، ولكن السَّيِّد قَصَدَ أنها بدعة صارفةٌ عن الطاعة، وداعيةٌ إلى المعصية بحيث لا يظن في من اعتقدها أنَّه يأتي بواجبٍ، ولا يَرتَدِعُ عن قبيح، وقد غَلِطَ السيدُ في ذلك فإن جميعَ الفرق قد شاركت المرجئةَ في ما هو مثلُ قولهم في تقليل الداعي إلى الطاعة، وتهوينِ الصارفِ عن المعصية، وذلك أن الوعيدِيَّ يقطعُ أن الله تعالى يَقْبَلُ التوبة، فيرتكب المعاصي ثقة بالتوبة، كما أنَّ المرجىء يعتقد أنَّه يَغْفِرُها، فلا فرق بينَهما في الداعي والصارف، وإن كان المرجىء مبتدعاً، وذلك لأن كُلَّ واحد منهما يعتقد أن الله يغفرُ الذنبَ، ويجوز أنَّه مِن أهل النار والخلود فيها، وإنما اختلفا في كيفية المغفرة وسببها، فالوعيدي يقول: إن الله يغفِرُ بالتوبة على سبيل الوجوب عليه، والمرجىء يقول: إن الله يغفِرُها بالإِسلامِ على سبيل التفضُّلِ منه، وإنما قلنا: إن كُلَّ واحد منهما يجوز أنه من أهل النار، فلأن المرجىء يجوز أن يموت على غير الإِسلام، كما أن الوعيدِيَّ يجوز أن يموتَ على غير التوبة، بل على غيرِ الإسلام، بل هو أشدُّ من المرجىء في ذلك، لأنه يعتقدُ أنَّه يَجِبُ على الله قبول التوبة، والمرجىء لا يعتقِد وجوبَ العفو، لأن الوعيدي قد يعتقِدُ أنَّه يجب على الله تَبْقِيَةُ العاصي بعدَ المعصية حتى يتمكَّنَ مِن التوبة وهو قولُ أبي علي، وأبي القاسم، لأنَّه قد كلَّفه بالتوبة،
(1) في (ب): تخصيصه.
والتكليفُ لا يَحْسُن إلا مَع التمكين، والشيخ أبو القاسم يقول: إن الأصلحَ واجبٌ على الله، فإذا صارَ العبدُ مؤمناً، وعَلِمَ اللهُ أنَّه يعودُ إلى الكفرِ أو الفسق، لم يَجُزْ أن يُبْقِيَهُ، فهؤلاء أشدُّ أماناً من المرجئة، فإنه يلزم من قول أبي القاسم أن مَنْ مضى له وقت يَعْلَم أنَّه قد أتى فيه بجميع ما كلَّفه اللهُ تعالى، عَلِمَ أنَّه من أهلِ الجنة، فإنه يَقْبُحُ مِن الله تعالى أن يُميتَه على حالٍ يستحق عليها العقوبةَ، وهذا أعظمُ مِن مذهب المرجئة، لأنَّه يُؤَدِّي إلى الأمانِ من العذاب على جهةِ القطع، والمرجئةُ لا يُثبتون ذلك لتجويزهم أن يموتوا كفاراً فيُعَذَّبُونَ بذنب الكُفْرِ الذي لا يُغفر لقوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} [الروم: 10] على أحدِ التفسيرين والاحتمالين، والثاني: أن السُّوأى هي النارُ وكأنَّه المشهورُ، وخرج الحاكم في تفسير (سورة الحشر) عن علي عليه السلام: أن عابداً تزيَّنَتْ له امرأة فَوَقَعَ عليها، فَحَمَلتْ، فجاءه الشيطانُ فقال: اقتُلْهَا قبل أن تفضحَك، فقتلها ثم افتضح فأخذوه، فجاءه الشيطان فقال: اسْجُدْ لي سجدةً واحِدَةً وأُنجيك فَسَجَدَ له، فنزل في ذلك قوله:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} الآية، قال الحاكم: صحيح الإسناد (1)، والمرجئة تقول: المعاصي بريدُ الكفر، وليس في مذهبهم أمانٌ
(1) ووافقه الذهبي 2/ 484 - 485 مع أن حميد بن عبد الله السلولي راويه عن علي لا يعرف، ثم هو محرف في المطبوع من المستدرك والمختصر عن عبد الله بن نهيك، ففي تاريخ البخاري 5/ 213: عبد الله بن نهيك: سمع علياً رضي الله عنه في قوله {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} قاله محمد بن مقاتل، أخبرنا النضر، عن شعبة، عن أبي إسحاق سمع عبد الله
…
وكذلك هو في تفسير الطبري 28/ 32 عبد الله بن نهيك، وفي " التهذيب " لوحة 749: عبد الله بن نهيك كوفي يروي عن علي بن أبي طالب في قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} يروي عنه أبو إسحاق السبيعي. ذكره ابن حبان في الثقات على عادته في توثيق =
للتائبين لجهل الخواتِم، كيفَ المُصِرِّينَ؟ فلو كان السببُ في العِصيان هو قِلَّةَ الدواعي إلى الطاعة (1) وكثرةَ الصوارف عنها، ما كانت فِرقةٌ من فرق الإسلام إلا وهي مجروحة في العدالة، غيرُ مقبولة في الشهادة والرواية، ولكان العدْل من اعتقد أن الله لا يَقْبَلُ التوبةَ، ولا يُقِيلُ العَثْرَةَ، ولا يَغْفِرُ الخطيئة، لأن المعتقد لهذه العقيدة أبعدُ الناس عن المعاصي، ولكن ليس الأمر كذلك، فقد بيَّنا في الوجه الأول أن وجودَ الطاعة ليس بحسب الاعتقاد، إنما هو بحسب كرمِ النفوس، وشرفِ الطباع، ولهذا اختلف الكفار المصرَّحون في التلطخ بالرذائل، والصبر على المكارم والفضائل مع إنكارهم الجميع للمعاد الأخروي، فإنه كان فيهم من يتحمَّلُ من مشاقِّ مكارِمِ الأخلاق والمعروف ما يقومُ في المشقة مقامَ تَحَمُّلِ واجبات الشريعة، وكذلك كانوا يجتنبون المَذَامَّ وإن كانت شهيةً محبوبة؛ ولهذا قال حاتم:
وإنكَ إنْ أعْطَيْت بَطْنكَ سُؤله
…
وَفَرْجَكَ نالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا (2)
ولهذا كان فيهم السيدُ والمسودُ على قدر تفاضلهم في الصبر على المكاره، واحتمال مشاقِّ المكارِم، ولهذا قيل:
لَوْلَا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كلُهُمُ
…
الجُودُ يُفْقِرُ والإقْدام قَتَّالُ (3)
= المجاهيل. فالخبر مع كونه موقوفاً ضعيف. وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 199، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن راهويه، وأحمد في " الزهد "، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في " الشعب ".
(1)
إلى الطاعة: سقط من (ب).
(2)
البيت في ديوان حاتم ص 69، و" البيان والتبيين " 3/ 308، و" أمالي القالي " 2/ 318، وحماسة أبي تمام 2/ 232، و" عيون الأخبار " 1/ 343، و" شرح شواهد المغني " 5/ 238 و350 و" الهمع " 2/ 57، و" الدرر " 2/ 73، والأشموني 4/ 12.
(3)
البيت للمتنبي في ديوانه 3/ 287 من قصيدة سائرة يمدح بها أبا شجاع فاتكاً سنة =
وقالت العرب في أمثالها: تَجُوعُ الحرَّة، ولا تأْكُلُ بثَدْيَيْها (1).
وقالت هند لِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أوتزني الحُرَّةُ (2)؟ ومِنْ ثمَّ قال عليه السلام: " خَيْرُكُم في الجَاهِلِيَّةِ خَيْرُكُمْ في الإسْلَامِ "(3).
الوجه الرابع: أنَّه لم يَرِدْ في الشرع أن العدلَ من اعتقد إن الله لَا
= ثمان وأربعين وثلاث مئة، ومطلعها: -
لَا خَيْلَ عِنْدكَ تُهْدِيها وَلَا مالُ
…
فَلتُسْعِدِ النُّطْقُ إن لم تُسْعِدِ الحالُ
يقول العكبري في معنى البيت: لولا المشقة تمنع من السيادة، لساد الناس كلهم، ثم بين العلة فيها، فقال: الجود يورث الإقلال والفقر، والشجاعة توجب التلف والقتل، وذلك أن المجد والسيادة يصعبان، ولولا الصعوبة ساد الناس بأسرهم.
(1)
أي: لا تكون ظئراً وإن آذاها الجوع، وأول من قال ذلك الحارث بن سليل الأسدي. يضرب في صيانة الرجل الحر نفسه عن خسيس المكاسب.
انطر " فصل المقال " 289 - 290، و" مجمع الأمثال " 122 - 123.
(2)
قطعة من حديث أخرجه ابن جرير الطبري في " جامع الببان " 28/ 51 من طريق محمد بن سعد العوفي، عن أبيه سعد بن محمد، عن عمه الحسين بن الحسن بن عطية العوفي، عن أبيه الحسن بن عطية بن سعد، عن جده عطية بن سعد عن ابن عباس.
وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء كما يقول العلامة المحدث أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على تفسير الطبري 1/ 263 - 264، وقد تكلم على رجاله مفصلاً فراجعه.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 210، وزاد نسبته إلى ابن مردويه وأخرجه سعيد ابن منصور وابن سعد فيما ذكره السيوطي في " الدر " 6/ 209 مرسلاً عن الشعبي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء
…
وفيه حتى جاءت هند امرأة أبي سفيان، فلما قال: ولا يزنين، قالت: أوتزني الحرة؟ لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية، فكيف بالإسلام؟
(3)
أخرجه البخاري (3353) و (3374) و (3383) و (3490) و (4689)، ومسلم (2526) من حديث أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أكرمُ؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال:" فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " وفي رواية: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية حتى يقع فيه، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ".
يغْفِرُ لأهل التوحيد بسَعَةِ كرمه ورحمته مِن غير تكذيب للوعيد، ولكن لما ورد في السمع مما ظاهرُه ذلك (1) فقال بذلك على سبيلِ الإيمان بالسمع من غير جُرأة على المعاصي، فلم يَردْ نصٌّ في كتاب الله تعالى، ولا في سُنَّةِ رسول الله أن مَنْ حافظ على الواجبات، واجتنب المحرمات، وعُرِفَ بالصِّدْقِ والأمانة، فإنه إذا اعتقد أن الله يَغْفِرُ لأهل التوحيد لشبهةٍ اعتقدها في ذلك، فإنها تُرَدُّ شهادته، ولا تُقبل روايتُه.
الوجه الخامس: أن مجرَّدَ اعتقاد أن الله يتفضَّلُ بمغفرة الذنوب (2) من غير أن يجب عليه ذلك بالتوبةِ، وتكفير الصغائر ليس مما يدُلُّ على كذب من اعتقد ذلك. ولو أن عبداً من عبيد المخلوقين اعتقد في سيِّدِه أنه في غاية الكرم والحِلْمِ والمسامحة من غير وجوب عليه لم يدُلُّ ذلك على أن جميعَ مَا رَوَى عن سيده، فإنه كذب، وجميعُ ما أمره به سيده، فإنه يعصيه فيه، بل قد يكونُ هذا العبد في غاية الإجلال له والطاعة مع اعتقاده لحلمه وكرمه رغبةً منه في محبة سيده، واستجلاباً لخيراته أو (3) محبة منه لسيده، وشكراً له على نعمائه، وكذلك عَمَلُ الناس مع إخوانهم وأهل الحِلم والكرم مِن أقاربهم، فلم يكن قرابةُ الأحنفِ وعشيرته يكذِبُونَ عليه، ويَعُقُّونَ رَحِمَه لأجل حِلمه، ولو كان لأحدنا صديق في غاية الحِلم والكرم بحيث يعرف أنَّه لا يؤاخِذُنَا، لم يكذب عليه ويَعُقَّه، ويجعل ذلك عادةً مستمرة، بل قد يزيدُه حلْمُهُ وكَرَمه رغبةً في طاعته، وزيادة في محبته، وكم من مَهيبٍ يُعصى وتُحتمل عقوبته لأجل بغضه، ومساوىء
(1) في (ب): يقتضي ذلك.
(2)
في (ب): بالمغفرة للذنوب.
(3)
في (ب): و.
أخلاقه، وكم مِن حليم يُطاع، ويُمتثل أمرُه، وتفنى الأرواح والأموالُ في طاعته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل هذه الصِّفَةِ الشريفة، بل هو الذي بَلَغَ أعلى مراتبها، واختصَّ بأقصى مناقبها، وهي صفتُه في التوراة والفرقان، قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] إلى غير ذلك.
وفي تفسير السَّيِّد في قوله تعالى حكايةً عن المنافقين في عيبهم له بأنَّهُ " أُذُن " قال السيد: أي: يُصدِّقُ كلَّ مَا سمِع، وَيقْبَل قَوْلَ كُل أحد وقال في قوله تعالى:{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] أي: نعم هو أُذُنٌ، ولكن نِعْمَ الأذنُ، إلى قوله في تفسير كونه خيرَ أذن أنَّهُ يُصدق بالله وًيقْبَلُ من المؤمنين المخلصين إلى قوله:{وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُم} [التوبة: 61] أي: أظهر الإيمان منكم أيُّها المنافقون يقبل إيمَانَكُمُ الظاهرَ، ولا يكشِف أسرارَكم، فهو أذن كما قلتم، لكنه أذُنُ خيرٍ لا أُذُنُ شرٍّ. فسلم لهم أنَّه أذن، لكنه فسَّره بما هو مدح. انتهى. فلم يكن حِلْمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحُسْنُ خلقِهِ، وجزاؤه السيئةَ بالحسنة، حاملاً لخير أهله وأصحابه على الكذب عليه، والعقوقِ له، والتساهلِ في طاعته. وكذلك كلُّ حليم مع أصحابه وقرابته وجيرانِه، فمن أينَ للسَّيِّد أنَّ المرجئَة لما اعتقدوا أنَّ اللهَ يغفِرُ لأهل الإسلام كرماً واسعاً، وحلماً عظيماً، ورحمة لهم، واستغناءً عنهم، فقد استهانوا بجلال الله، وانهمكوا في معاصي الله، وصار دأبهم الكذبَ على الله ورسوله؟! ولقد رأيتُ مِن الصالحين مَنْ يزدادُ عملاً ونشاطاً على الرجاء، ويزدادُ نفوراً على الخوف، وهذا معروف عند أهل الذوق وأنشدوا في ذلك:
لَهَا بوجْهِكَ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
…
وَمِنْ أيَاديكَ في أعقابِهَا حَادِي
لَهَا أحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا
…
عَنِ المَنَامِ وتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ