الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيره، وإن دليلَه لا يخفي على أحدٍ من العُقلاء. وسيأتي كلامُ أبي طالب عليه السلام الذي أورده في دعوى الإجماع.
فإن قلْتَ: كيف تروي الإجماعَ مِن طريق أبي طالب، وهو متوقف في صحته؟
قلتُ: إنَّما قصدتُ التمسك برواية الإجماعِ عن الفقهاءِ من طريقه عليه السلام، فإنَّه قد روى عن الفقهاء بأسرهم أنَّهم رَوَوا الإجماعَ، وهو عليه السلام ثقة، والفقهاءُ ثقات أيضاًً.
الطريق الخامسة: طريقُ القاضي زيد
(1) رحمه الله تعالى، وذلك ما رواه الأمير الحسين بن محمد (2) رحمه الله في كتاب " التقرير " فإنَّه قال فيه ما لفظُه: وفي " الوافي ": لا بأسَ بشهادة أهلِ الأهواءِ إذا كان لا يرى أن يَشْهَدَ لموافقه بتصديقه وقبول يمينه تجريحاً.
قال القاضي زيدٌ رحمه الله: وذلك لأنَّ الإجماعَ قد حَصَلَ على قبول خبرهم، فجاز أن تُقْبَلَ شهادتُهم، هذا كلامُ القاضي زيد رحمه الله وهو نظيرُ كلامِ المنصور بالله عليه السلام في " المهذَّب " في تخصيص دعوى الإِجماع بقبول الأخبارِ دونَ الشهادة، وقياس الشهادة عليها، وكثيرٌ مِن العلماء ادَّعى الإجماعَ على قبول الشهادة والأخبار معاً، كما هو بَيِّنٌ فيما نقلناه عنهم، وكلامُ القاضي زيد يَعُمُّ الكفارَ والفُسَّاقَ، فكيف وإنَّما
(1) انظر فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء ص 264 - 265.
(2)
هو الأمير الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى، من نسل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسن، فقيه من علماء الزيدية من بيت الإمامة، له تآليف كثيرة أشهرها:" شفاء الأوام في التمييز بين الحلال والحرام "، و" الأجوبة العقيانية على الأسئلة السفيانية "، تُوفِّي سنة (662) هـ. انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية ": 85 - 89، و" الأعلام " للزركلي 2/ 255 - 256.
كلامُنا في هذه المسألة في الفساق فقط.
الطريق السادسة: طريقُ الفقيه العلامة عبد الله بن زيد، فإنه قال:
-وقد ذكر (1) فاسقَ التأويل وكافره- والمختارُ: أنه يُقبل خَبَرُهُما متى كانا عَدلَيْن في مذهبهما، وهو قولُ طائفة من العلماء، قال: والذي يَدُلُّ على صحة قولنا أن الصحابة أجمعت على ذلك، وإجماعُهم حجة. إلى قوله ما لفظه: يُبيِّنُ ذلك وُيوضحه أن من عرف الأخبارَ، وبحث عن السِّيَرِ والآثار، عَلِمَ أنهم أجمعوا على ذلك، ولهذا، فإنهم كانوا يقبلون الأخبارَ بينهم في حال الفتنة وبعدَها، ولا يُمَيِّزونَ بينَ ما وقع قبل الفتنة وبعدَها، وبذلك جرت عادة التابعين، فإنَّهم كانوا ينقلون الأخبارَ عن الصحابة من غير تمييز لما رُوِيَ قبل الفتنة وبعدَها. تم بلفظه من " الدرر المنظومة ".
الطريق السابعة: طريق الشيخ أبي (2) الحسين محمد بن علي البصري، فإنَّه قال في كتاب " المعتمد "(3) بعد ذكر حجة من رَد خبر المتأولين ونقضِه لكلامهم، وجوابه عليهم إلى أن قال: وعند جُلِّ الفقهاء أن الفسقَ في الاعتقادات لا يمنع مِن قبول الحديثِ، لأن مَنْ تقدم قد قَبِلَ (4) بعضُهم حديثَ بعضٍ بعد الفُرْقَة، وقَبِلَ التابعون روايةَ الفريقين من السلف، ولأنَّ الظن يقوى بصدقِ مَنْ هذه سبيلُه إذا كان متحرجاً إلى قوله:
وأما الكفر بتأويل، فذكر قاضي القضاة -أيَّده الله- أنَّه يمنع مِن قبول الحديث قال: لاتفاق الأمة على المنع مِن قبول خبر الكافر، قال:
(1) في (ب): وقد ذكرنا.
(2)
في (ب): أبو.
(3)
2/ 134 - 135.
(4)
تصحف في (ب) إلى: " قيل ".
والفقهاءُ إنَّما قَبلُوا أخبارَ من هو كافر عندنا، لأنهم لم يعتقدوا فيه أنَّه كافر.
قال أبو الحسين: والأولى أن يُقبل خبرُ من كفر أو فسق بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرِّجاً، لأن الظنَّ لصدقه غير زائل، وادعاؤه الإِجماعَ على نفي قبولِ خبرِ الكافر على الإطلاق لا يَصِحُّ، لأن كثيراً من أصحابِ الحديثِ يقبلون أخبار سلفنا رحمهم الله كالحسن (1) وقتادة (2) وعمرو (3) مع علمهم بمذهبهم وإكفارِهم مَنْ يقول بقولهم، وقد نصُّوا على ذلك.
(1) هو الحسن بن أبي الحسن البصري يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري المتوفَّى سنة (110) هـ. كان رحمه الله -كما وصفه ابن سعد- جامعاً، عالماًْ، رفيعاً، فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثير العلم، إلا إنَّه مع جلالته -كما يقول الذهبي- مدلس، ومراسيله عن الضعفاء ليست بذاك. وقال أبو سعيد بن الأعرابي: كان يجلس إلى الحسن طائفة من هؤلاء، فيتكلم في الخصوص حتى نسبته القدرية إلى الجبر، وتكلم في الاكتساب حتى نسبته السنةُ إلى القدر، كل ذلك لافتنانه، وتفاوت الناس عنده، وتفاوتهم في الأخذ عنه، وهو بريء من القدر، ومن كل بدعة، وقد روى له الجماعة. " سير أعلام النبلاء " 4/ 563 - 588.
(2)
هو قتادة بن دِعامة بن قتادة بن عزيز، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السَّدوسي البصري الضرير الأكمة، المتوفَّى سنة (118) هـ، كان من أوعية العلم، وممن يُضرب به المثل في قوة الحفظ، خرَّج حديثَه الجماعة. قال الإمام الذهبي: هو حجة بالإجماع إذا بيَّن السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يَعذِر أمثاله ممن تلبَّس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حَكمٌ عدل لطيف بعباده، ولا يُسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثُر صَوابُه، وعُلم تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلَلُه، ولا نُضلِّله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك. " سير أعلام النبلاء " 5/ 269 - 283.
(3)
هو عمرو بن عُبيد بن باب الزاهد، العابد، القدري، كبير المعتزلة وأوَلُهم أبو عثمان البصري، جالس الحسن البصري، وحفظ عنه، واشتهر بصحبته، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة، فقال بالقدر ودعا إليه، وقد ضعفه غير واحدٍ من الأئمة. مات سنة (144) هـ بطريق مكة. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 6/رقم الترجمة (27).
وقول أبي الحسين: " على الإِطلاق " يعني أنَّه لم يقيد ذلك الكفر المجمع على ردِّ صاحبه بالكفر المخرج عن المِلَّةِ.
الطريق الثامنة: طريقُ الشيخ العلاّمة الحاكم أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى، فإنه قال في كتابه " شرح العيون " ما لفظُه: الفاسقُ مِن جهة التأويل يُقبل خبرُه عند جماعة الفقهاء وهو قولُ أبي القاسم البلخي، وقاضي القضاة، وأبي رشيد.
وقال أبو علي وأبو هاشم: لا يُقبل، ووجهُ ذلك إجماعُ الصحابة والتابعين، لأن (1) الفتنة وقعت وهُمْ متنافرون وبعضُهم يُحدِّث عن بعض مع كونهم فِرَقاً وأحزاباً مِن غير نكير. يُوضِّحُهُ أَنَّهم مع كثرة الاختلاف والمقاتلة، وسفكِ الدماء وكانت الشهادات مقبولةً، فلم يَرُدَّ أحدٌ شهادةً لأجل مذهب مع معرفتهم بالمذاهب، وذلك إجماعٌ منهم على قبول الشهادة، كذلك الخبرُ، ويدل عليه أن علياً وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم اختلفوا وتقاتلُوا، ثم لم يَرُدَّ بعضُهم خبرَ بعض، ولم يَردُّوا خبرَ عبدِ الله بن عمرو يعني ابنَ العاص لِكونه مع معاوية، ولأنَّه مع تلك الاعتقادات مُتنَزَّهٌ عن الكذب وُيحرمه، بل ربما كَفَّرَ مَنْ كذب كالخوارج، فوجب أن يُقبل خبرهم، ولأن الخطأ بالتأويل يُزيل التهمة وتعمدَ الكذب بخلاف الفسق من جهة ارتكاب المحظورات مِن غير تأويل وهذا على ما روي عن بعضهم أنَّه سُئِلَ عن شهادة الخوارج، فقال: شهادة من يُكفر بكذبه أولى مِن شهادة من لا يرى ذلك، احتجُّوا بأن الفسقَ مِن جهة الفعلِ يُوجب رَدِّ الخبر، فَمِنْ جهة الاعتقاد أولى.
(1) في (ب): على أن.