الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكذب عليه، ووضع الأحاديث الباطلة عمداً في مثَالِبِه، بل فيه عن علي عليه السلام أنَّه قال: ألا إنَّ أَكْذَبَ الناسِ، أو أكذَب الأحياء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة، فهذا ما يقطعُ العَارِفُ ببطلانه عن علي عليه السلام، وأرجو ألا تَصِحَّ حِكايتُه وتقريرُه عن ابنِ أبي الحديد.
و
الجوابُ عما نسب إلى أبي هريرة وأمثاله من أفاضل السلف المتواتر فضلُهم، وعلو مراتبهم مِن وجوه
.
الوجه الأول: أن تعمُّدَ الكذبِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثالبِ عليٍّ عليه السلام ما لا يَفْعَلُهُ عاقل لا كافِرٌ ولا منافق، ولذلك لم يَصْدُرْ ذلك مِن أعداء علي عليه السلام، فإنَّ حب النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ وتعظيمَه وتكريمَه، وتشهيرَ مناقبه، والدوامَ على إظهار فضائله كان معلوماً بالضرورة خصوصاًً لأهل ذلك العصر، فالمعارِضُ لذلك لا يريدُ على حمل السامعين على خساسته ونُقصانِ عقله، وسقوطِ منزلته، ولا فرق بينَ أن يقدح في فضلِ علي، وحُبِّ النبي صلى الله عليه وسلم له، وبين أن يَقْدحَ في نسب علي، وأنه ليس مِن بني هاشم، وأنه لم يسْبِقْ إلى الإِسلام، وأنه نَصَبَ الحربَ والعداوةَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامِ الفتح، وأسلم قهراً كما أسلم أبو سفيان حين أسلم، وأنه لم يشهد بدراً ولا أُحُداً، ولا أبلى في المشاهد. فهل ترى يَصِحُّ في عقل عاقل، أن أحداً في ذلك العصر يستطيعُ أن يكذب مثلَ هذه الأشياء على أمير المؤمنين ولو كان أكفرَ الكافرين، وأبغضَ البُغضاء، والمنافقين. ومن جَوَّزَ وقوعَ مثل هِذا في ذلك العصر من أعداء علي عليه السلام، لم يَزِدْ على أن يبين للعقلاء أنه ناقصُ العقلِ، عديمُ المعرفة، بهيمي الفِطنة، حِمَارِيُّ القلب. فإذا تقرَّرَ هذا، فلا فرق بينَ هذه الأشياء، وبينَ رواية مثالب فاحشة في أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك العصرِ للمهاجرين والأنصار أهلِ العقول الراجحة، والبصائرِ النافذة، والأفهامِ الثاقبة، ولذلك
اعترف أبو سفيان أنَّه لم يتمكَّن من الكَذِبِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقل (1)، وعَرَفَ بعقله مع كفره وعداوته أن الكذب لا يمضي له.
ولو قدرنا صدورَ مثل هذا من قليل عقل، لوقع منهم من التنكيلِ به، والذَّمِّ له، وضربِ الأمثال بكذبه، والمناداة عليه في المحافِلِ والمجامعِ ما يُوجِبُ تَواتُرَ ذلك عنهم فيه، ولَمَا كفي أمير المؤمنين أن يقول ذلك مرةً ولا ثنتين ولا ثلاثاً حتى يتواتَر.
وفي أخبار عمر رضي الله عنه أنَّه قال: كيف وجدتموني؟ قالوا: وجدناك مستقيماً، ولو زُغْتَ، لقوَّمناكَ، فقال: الحمد لله الذي جعلني في قومٍ إذا زُغْت، قوَّموني، وَدَعْ عنك الكثير الطَّيِّبَ مِن أخبارهم في ذلك، فقد قال الله تعالى في مُحْكَمِ كتابه الكريمِ في خِطابهم ووصفهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فكيف يُمكِنُ ظهورُ كذاب على الله ورسوله مستور بينَهم، ثم لا يَهْتِكونَ سَتْرَه،
(1) وذلك حين أرسل إليه هرقل في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، ققال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقرَّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل، فإن كذبني، فكذبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثِرُوا علي كذباً، لكذبتُ عنه
…
وانظر تتمة الخبر في " صحيح البخاري "(6) في بدء الوحي.
وقوله: أن يأثروا، أي: ينقلوا علي الكذب .... قال الحافط ابن حجر: وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق أو بالعرف، وفي قوله:" يأثروا " دون قوله " يكذبوا " دليل على أنَّه كان واثقاً منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياء، وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا، فيصير عند سامعي ذلك كذاباً، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك، ولفظه: فوالله لو قد كذبت، ما ردوا علي، ولكني كنت امرءاً سيداً أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني، ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه.