الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحابة (1)، وربما زادوا على ذلك، لكن بيسيرٍ، وذلك لِشُغلِهِم بالجهاد، وطلبِ القُوت، فقد كانُوا في شِدَّةٍ عظيمةٍ لا يعرِفُها إلَّا مَنْ طالع كُتُبَ معرفةِ الصحابة، ولأنه لم يشتهر في زمانهم الانقطاعُ لِطلب العلم على عادة المتأخرين.
الطريق السابعة: أن اجتهادَ أولئك الذينَ ذكرهم السَّيِّدُ يَدُلُّ على سُهولَةِ الاجتهاد
، لأن الظاهِرَ من أحوالهم أنَّهم ما اشتغلوا بالعلم مِثْلَ اشتغال المتأخرين، ولا قريباً منه، وكان الواحدُ منهم يَحْفَظُ مِنَ السُّنة ما اتفق أنَّه سَمِعَه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن غيرِ درس لِما سَمِعَهُ، ولا تعليقٍ ولا مبالغةٍ في طلب النصوص مِن سائر أصحابه، وإنما كانوا يبحثون عندَ حدوثِ الحادثة عن الأدلة، فهذا أبو بكرٍ ما درى كَمْ نَصِيبُ الجَدَّةِ من الميراث، وأدنى طلبةِ العلمِ في زماننا لا يخفي عليه أنَّ لَهَا السُّدُسَ حتى قامَ فيهم وسألهم (2) ولو أن رجلاً ممن يَدَّعي الاجتهادَ في زماننا ما عَرَفَ نصيبَ الجدة، لكثَّر عليه أهلُ التعسير للاجتهاد، وعَظَّمُوا هذا عليه.
وكذلك عُمَر ما كان يَعْرِفُ النصوصَ في دِيَةِ الأصابع، وتوريثِ المرأه من دِية زوجها (3).
(1) هو أنس بن مالك رضي الله عنه، فقد روى البخاري في " صحيحه "(5003) في فضائل القرآن عن أنس أنَّه سئل عن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد " وقول أنس هذا لا مفهومَ له، فلا يلزم أن لا يكون غيرُهم جمعه، فقد جمعه غيرُ هؤلاء من الصحابة عدد غير قليل. وانظر التفصيل في إجابة العلماء عن حديث أنس هذا، وعمن جمع القرآن من غير هؤلاء الأربعة في " فتح الباري " 9/ 51 - 53، و" فضائل القرآن " 28 - 29 لابن كثير.
(2)
تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 294.
(3)
تقدم تخريجهما في الصفحة 293 من الجزء الأول.
وكذلك ابنُ عباس قال: لا ربا إِلاُّ في النَّسيئة حتى بلغه النص، وكذلك ما عَرَفَ أن المُتْعَةَ منسوخةٌ (1).
وذكر الزمخشري (2) في تفسيرِ قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن الأب، فقال: أيُّ سماءٍ تُظِلُّني، وأيُّ أَرْضٍ تُقِلُّني إذا قلتُ في كتابِ الله ما لا أعلمُ به (3)؟
وعن عُمَرَ رضي الله عنه أنَّه قرأ هذه الآية فقال: كُلُّ هذا قد عَرفْنَا فما الأبُّ؟ ثُمَّ رَفضَ عصاً كانَتْ بِيَدِه، وقال: هذا لَعَمْرُ اللهِ التكلفُ، وما عليك يا ابن أُمِّ عُمَرَ أن لا تدري ما الأبُّ، ثم قال: اتَّبِعُوا ما تَبَيَّنَ لَكُم مِنْ هذا الكتَابِ، وَمَا لا فدَعُوهُ (4).
قال الزمخشريُّ رحمه الله: فإن قلتَ: فهذا يُشْبهُ النهيَ عن تتبعِ معاني القرآن، والبحث عن مشكلاته.
(1) بحديث الربيع بن سبرة عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " أخرجه مسلم في " صحيحه "(1406) في النكاح: باب نكاح المتعة. وكان ذلك عام الفتح وانظر " زاد المعاد " 5/ 111 - 112 طبع مؤسسة الرسالة.
(2)
في " الكشاف " 4/ 220.
(3)
أثر أبي بكر، أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 78 من طريق حفص بن غياث، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عى أبي معمر عبد الله بن سخبرة الأزدي، قال: قال أبو بكر: ....... وهذا مرسل.
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره 30/ 38 من طريق ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا حميد، عن أنس، قال: قرأ عمر بن الخطاب (عبس وتولى) فلما أتى على هذه الآية {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} . قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأبُّ؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف. وإسناده صحيح، وأخرجه عبد بن حميد فيما ذكره ابن كثير 1/ 16 من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس .... وفي آخره: فما عليك أن لا تدريه.
وقال الحافظ ابن كثير تعليقاً على الخبرين: وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل، لقوله {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا
…
}.
قلتُ: لم يذهبْ إلى ذلكَ، ولكنَّ القومَ كان أكثرُ هِمَمِهِم (1) عاكفة على العملِ، وكان التشاغلُ بشيءٍ من العلم لا يُعمَلُ به تكلفاً (2) عندهم، لأنَّ الآية مسوقةٌ في الامتنان على الإنسان بمطعمِهِ، واستدعاءِ شكره، وقد عُلِمَ مِن فحوى الآية أن " الأبَّ " بعضُ ما أنبتَه الله للإنسانِ متاعاً له ولأنعامه، فعليكَ بما هُوَ أهَمُّ مِن النهوضِ بالشُّكرِ لله تعالى على ما يتبين لك، ولم يُشْكِلْ مما عدَّدَ مِنْ نِعَمِه، ولا تتشاغَلْ عنه بطلبِ معنى " الأبِّ " ومعرفةِ النبات الخاص الذي هو اسمٌ له، وَاكْتَفِ بالمعرفة بجملته إلى أن يتبيَّنَ لكَ في غير هذا الوقت، ثم وصَّى الناسَ بأن يُجْرُوا على هذا السَّنَنِ في ما اشتبه ذلِكَ مِن مشكلاتِ القرآن. انتهي كلام العلامة رحمه الله.
وفيه شهادة لما ذكرتُ مِن مفارقتهم لما عليه الناسُ في هذا الزمانِ من رسوم القُرَّاءِ، وَعَوَائِدِ العلماء، وعدمِ الحِرْصِ على حفظ كثيرٍ من العلم قَبْلَ مسيسِ الحاجةِ إلى معرفته، والاكتفاء بالقليل فيما يُحتاجُ إليه، وهذا معاذُ بنُ جبل اجتهد في أوَّلِ الإِسلامِ قبل أن يشتهِرَ عنه أنَّه تعرَّض لجمعِ أحاديثِ الأحكام، ومن المعلوم أن معاذاً لم يكن يَحْفَظُ في تلك المُدَّةِ من أحاديث الأحكام مثلَ ما في كتابٍ من هذه الكُتُبِ التي يَشْتَمِلُ الواحدُ منها على أزيدَ من عشرة آلاف حديثٍ، فقد عاش معاذُ بعدَ أن أَذِنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد والقضاء زماناً في حياة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبعدَ وفاتِه وهو في خلال ذلك يَحْكُمُ ويُفتي ويروي، فقد كان أفقهَ الصحابة بالنصِّ النبوي (3)، ومع ذلك فلم تزد مروياتُه على مئة وسبعة وخمسين حديثاًً (4).
(1) المثبت من (ش) وباقي الأصول: همهم.
(2)
في (1) و (ب) و (ج) و (ش): تكلف.
(3)
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ " أخرجه أحمد 3/ 184 و281، والترمذي (3793) وابن ماجة (154) من حديث أنس بن مالك، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(4)
حديثه في " مسند أحمد " 5/ 227 - 248.
ولم يَكنِ اجتهادُهم في ذلِكَ العصرِ إِلا بملازمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقط، مع سماعِ جُمْلَةٍ من حديثِه ومعاينةِ كثيرٍ من أفعالِهِ، وإن لم تَطُلْ تلك الملازمة طُولاً كثيراً، ولهذا قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وهذا النفيرُ الذي نَدَب اللهُ إليه في هذه الآيةِ هو النفيرُ للجهاد (1)، فجعلَ المجاهدينَ فقهاءَ في الدِّين، وسمَّى الجهادَ تفقهاً لِمَا يَصْحَبُهُ مِن رؤيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كيف يُصلي، وبما يأمُرُ المجاهدين مِنْ أحكامِ الجهاد، ففي مدة إقامتهم معه في الغزوات سمَّاهم متفقهين، وأباحَ لهم أن يُفتوا قومَهم بما رأوا من أفعالِه عليه السلام، وبما سَمِعُوا من أقواله، ولكِنَّهم لا يكونون مُجتهدين فيما لم يَرَوْا ولم يَسْمَعُوا، وهذا اجتهادٌ خاص، وهو أحدُ الأدلة على تجزُّؤ الاجتهاد (2).
فإن قلت: لم يكونوا يُفتون قومَهم إذا رجعوا إليهم، إنما كانوا يَرْوونَ لهم.
(1) اختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين، أحدهما: أنَّه النفيرُ إلى العدو، فالمعنى: ما كان للمؤمنين أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفِرُ طائفة، وتبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يعني الفرقة القاعدين، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدَهم قرآن، أو تجدد أمر - أعلموهم به، وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنَّه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفِرُ المؤمنين طائفةٌ ليفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلفين. هذا قول الحسن. قال ابن الجوزي في " زاد المسير " 3/ 517: وهو أشبهُ بظاهر الآية، فعلى القول الأول يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه، وعلى القول الثاني يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم.
(2)
جمهور أهل العلم من أهل السنة والمعتزلة والإمامية على جواز تجزؤ الاجتهاد والمنقول عن الإمام أبي حنيفة منعه، ويكاد يكون خلافه رحمه الله لفظياً، ذلك لأن الناقلين عنه أخذوه من تعريفه للفقيه بأنه من له ملكة الاستنباط في الكل، وكونه له الملكة يعني بالفعل فيما يعلمه، وبالقوة فيما لا يعلمه.
انظر " المستصفي " 2/ 453 - 354 و" الإحكام للآمدي " 4/ 164، و" المعتمد " 2/ 929، و" مرآة الأصول " 2/ 469، و" المحصول " 2/ 3/37، و" إرشاد الفحول "235.