الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمراد بها الخصوصُ، حتى قال بعضهم: ليس في القرآنِ عمومٌ إلا وهو مخصوص إلا قولَه تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] قالوا: والأصلُ في الاستعمال الحقيقةُ، وإنما أشرت إلى طرف من حجة أهل هذا القول لعدم اشتهاره، وهو قول ضعيف، ولكن لا يتم دليل السيد حتى يُبين أنَّه باطل قطعاً، ولا يكفيه أنَّه ضعيف على مقتضى الأدلة الظنية، وفي العموم أقوالٌ كثيرة قريب من الأقوال المذكورة في الأمر، فيلزم السيدَ نصبُ الدليلِ القاطع على بطلانها، وإلا لم يمنع خصمه من المنازعة، ويحرم عليه المخالفة.
الإشكالُ السادسَ عشر: أنَّ لهذه الآية معارضاتٍ كثيرة
يأتي بيانُها إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني، ولا يتم الاحتجاجُ بها حتى يُبيِّن (1) السيد رجحانَهَا على تلك المعارضات، بل مجردُ الرجحان لا يكفي في المسائل القطعيات.
الإشكال السابع عشر: أن لهذه الآيةِ مخصصاً
كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني، فلا يصح الاستدلالُ بها مع وجود المُخصِّصِ، فهذه واجبات كثيرة أخلَّ بها السيدُ، أوجبها عليه التعنتُ بدعواه: أن المسألة قطعية، وأن الخلاف فيها حرام.
قال: ومِن ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، ومن الركون إليهم: قبول قولهم، بدليل قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74 - 75] وذلك أن ثقيفاً أرادُوا أن
(1) في (ج): يتبين.
يُصالحوه على ألا يُعْشَروا ولا يُحْشَرُوا، القصة (1). فهمَّ بأن يُساعِدَهم إلى قبول قولهم، فنزلت، وفيها مِن الوعيدِ ما ترى، هذا وقد قلَّلَ الركونَ حيث قال:{شَيْئًا قَلِيلًا} .
أقول يرد على استدلال السيد -أيَّدَهُ اللهُ- بهذه الآية إشكالات:
الإشكالُ الأولُ: أن معنى الآية ظني، مختلَف فيه أشد الاختلاف كما ذكره السَّيِّد في تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النُّكت اللطاف " والعجبُ منه أنَّه (2) هنالك حكى الأقوالَ من غير تقبيحٍ لشيءٍ منها، بل حكى عن القاضي والحاكم شيخي الاعتزالِ تصحيحَ غيرِ ما ذكره هنا، وكذلك عن الرازي، ولم يعترِضْ تصحيحَهم، ولا يَحِلُّ له حكايةُ البواطِلِ في تفسيرِ كلام الله مِن غير إِنكار، وقد قال في تفسيره ما لفظه: وقيل: لا تَرْضَوْا بأعمالهم، عن أبي العالية. وقيل: لا تُدَاهِنُوا، عن السدي.
وقيل: لا تلحقوا بالمشرَكين، عن قتادة.
قلت: وهو من رؤوس المعتزلة القدماء.
قال السيدُ: وقيل: الركونُ المنهي عنه الدخولُ معهم في ظلمهم، أو معاونتهم، أو الرضى بفعلهم، أو موالاتهم، وأما إذا دَخَلَ عليهم، أو خالطهم لدفع شرهم، أو أحسن معاشرتهم، وَرَفَق بهم في القول ليقبلوا منه ما يأمُرُهمْ به من طاعة الله، فذلك غيرُ منهي عنه، عن القاضي. قال الحاكم: وهو الصحيح، لأن الله تعالى أمر بإلَانَةِ القولِ للكافر في قوله:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] فأولى الظالم.
(1) سيذكره المؤلف في الصفحة 213، وسنخرجه هناك، ومعنى قوله " أن لا يعشروا " أي: لا يؤخذ عشر أموالهم، وقوله " ولا يحشروا " معناه الحشر في الجهاد والنفير له.
(2)
في (ب): أن.
وقال الواحدي: الركونُ السُّكُونُ إلى الشيء، والميلُ إليه بالمحبة، قال ابنُ عباس: لا تميلوا، يريدُ في المحبة، ولين الكلام والمودة. وقال عكرمة: هو أن يطيعهم أو يودَّهم.
وقال الرازي (1): الركونُ المنهي عنه عند المحققين: الرِّضى بما عليه الظلمةُ من الظلم، وتحسينُه لهم أو لغيرهم، وأما مداخلتهم، لدفع ضرر، أو اجتلاب منفعة عاجلة، فغيرُ داخل في الركون. انتهي تفسير السيد للركون بعدَ حكايته كلام الزمخشري وما ينَاسبه.
فظهر من ذلك أن معنى الآية ظني، وذلك منافٍ لقول السيد: إن المنع من قبول المتأولين قاطع، ويدل على أن ذلك ظني مع ما ذكره السَّيِّد -أيده الله-: أن الركونَ هو الميل في أصل اللغة، ومنه: أركنت الإناءَ: إذا أصغيتَه، وأركن الرَّحْلَ: أماله، قاله الزمخشري (2)، وكذا قال (3) في قوله تعالى:{لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} أي: تميل.
ولا شك أن الميلَ إنما يصح إطلاقُه على الحقيقة في الأجسام، فثبت أن هذا الركون مجازٌ، والمجازُ يحتاج إلى علاقة ظاهرة، ألا ترى أنهم قالُوا: يقال للشجاع: أسد لظهور العلاقة، وهي قوة القلب، ولا يقال للأبخر: أسد لخفاء العلاقة، وهي ما فيه من البَخَرِ، فأكثر السامعين لا يفهم معنى الكلام لخفاء معنى (4) هذه العلاقة، ولم يبين السَّيِّد المشبِّه وهو المقصود في الآية، فأما الميلُ الحقيقي الذي هو كميل الإِناء، فليس بمحرَّم، ولا
(1)" مفاتيح الغيب "(18/ 72).
(2)
" الكشاف "(2/ 296).
(3)
" الكشاف "(2/ 460).
(4)
لفظ " معنى " ساقط من (ب) و (ج) و (ش).
مقصود قطعاً، إذ كان المجاهدُ حين يهوي إلى الكافر ليطعنه، أو يضرِبَه، أو يقتله قد مال إليه كميل الإناء أو أشد، ولكن لمضرته، وإنما المحرم الميلُ المجازي، ولا بدَّ من مخالفته للميل الحقيقي، كما أن الأسد المجازي يُخالِفُ الأسدَ الحقيقي.
وقد قال العلامة أبو حيَّان الأندلسي إمامُ اللغة والعربية والتفسير (1):
إِن معناها: ولا تطمئِنُّوا (2)، فجعل المجازَ المشبه بالميلِ الحقيقي هو الطمأنينة، ولا يمنعُ منه قولُه:{شَيْئًا قَلِيلًا} لأن الطمأنينة يُوصَف قليلُها بالقلة، وكثيرُها بالكثرة، لأن القِلة والكثرةَ أمران عُرفيان إضافيان، وليسا ذَاتِييْنِ حقيقيين، يُوضِّحه أنَّه يصِحُّ أن تقول: ولا تطمئنوا إليهم شيئاً قليلاً، كما يَصِحُّ أن تقول: ولا تطمئنوا إليهم كثيراً.
والتحقيق: أن الرمخشري ذكر أصلَ الركونِ في الوضع اللغوي مبالغةً في البحث والزجر، وأبا حيان ذكر المعنى العُرفي المستعمل السابق إلى الأفهام فيما نقلت إليه هذه اللفظة، ولا شَكَّ في تقدم الحقيقة العرفية على اللغوية كما ذكروه في الدابة والقارورة ولا يَشُكُّ منصفٌ أن (3) الركونَ اللغوي الذي ذكره الزمخشري غيرُ مراد، وأن حقيقتَه في ميل جسومنا إلى جسومهم، وأن كلام أبي حيان معروف، وأن الركونَ إلى القوم صار في العُرف بمعنى السكون إليهم، والطمأنينة بهم، وفي ترك هذا المعنى وسائر أقوال المفسرين مِن الصحابة والتابعين، والاقتصار على أصل الوضع تضييعٌ للتفسير، ومجانبةٌ للتحقيق، فتأمل ذلك. والله أعلم.
(1) لفظ " والتفسير " ساقط من (ب).
(2)
لم يذكره في تفسيره 5/ 269، ولعله في " الغريب ".
(3)
في (ب): في أن.
إذا عرفتَ هذا، فإنا نقول: إن قبولَنا لكلام المتدين المتأوِّل الذي يغلِبُ على الظن صدقُه فيما لم يظهر لنا أن بينه وبينَ الركون الحقيقي علاقةً ظاهرةً قطعية تمنع الاختلافَ كما ادَّعى السيد، وبيانُ عدم ظهور العلاقة أنا لم نركن إليه في الحقيقة، وإنما ركنا إلى أمرين:
أحدهما: الدليل الدال على وجوب قبول روايته وسيأتي بيانُه مفصلاً في الفصل الثاني، إِن شاء الله تعالى.
وثانيهما: الظنُّ الراجحُ المجرب أن صِدقه دائم، أو أكثري الذي قضت العقولُ بوجوب العمل به في دفعِ المضار وحسنِ العمل به في جلب المنافع، وإنما المتأول قرينةٌ للظن، والمركون إليه هو الظنٌّ لا القرينةُ بدليل أن الظنَّ متى زال لم يستند إلى القرينة ولا يُعمل بها، ألا ترى أن من رأى السحابَ الثقال التي هِيَ قرينةُ المطرِ، فاستبشر، وأصلح سواقي زرعه لم يكن في المجاز راكناً إلى السحاب، وإنما يَكونُ في المجاز راكناً إلى ظنه الراجح، وكذلك لو أخبرك المتأوِّلُ أن في هذا الطعام سمّاً وظننتَ صدقه، قَبُحَ منك الإِقدام على أكله، لأن فيه مضرةً مظنونة، ودفعُ المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، فلو أنَّك ذهبتَ تأكلُه لئلا تركنَ إلى خبر المتأوِّل، لم يختلف العقلاء في قبحِ اختيارِك، وكذلك إذا أخبرك أنه سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا حرامٌ يستحق فاعلُه العقابَ، فإنَّك إذا ظننتَ صدقه، قَبُحَ منك الإِقدام على ما تَظُنُّ أن الإِقدام عليه محرَّم موجبٌ لغضب الله، وشديدِ عقابه، نعوذ بالله من ذلك، ولم يكن إقدامُك على ما تظنُّ أنَّه يُدخلك النار والحرام والعمل بالمعقول فراراً من الركون إلى مَنْ أخبرك، وقد رجع المسلمون إلى أطباء الفلاسفة والنصارى في جميع أقطارِ الإسلام من غير نكير، ولم يكن ذلك ركوناً إليهم، وذلك لأنهم ظنوا صِدْقَهم في فنهم،