الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: الجوابُ على السَّيِّد في هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن قولَ السَّيِّد إنَّهم لا يرتدِعُونَ
عن الكذب وغيرِه من المعاصي، مباهتةٌ عظيمة وإنكارٌ للضرورة، فإن كلامنا إنما هو في مَنْ
= في الإيمان مع اتفاقهم جميعاً على أن فاقد التصديق كافر، وفاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير، فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيث ينعدم الكل بانعدامها، بل يبقى الإيمان مع انتفائها.
وإمامنا أبو حنيفة وإن لم يجعل الأعمال جزءاً، لكنه اهتم بها، وحرض عليها وجعلها أسباباً سارية في نماء الإيمان، فلم يهدرها هدر المرجئة إلا أن تعبير المحدثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جرئية الأعمال بخلاف تعبير إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى: فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال، رمي الحنفية بالإرجاء، وهذا كما ترى جور علينا فالله المستعان.
ولو كان الاشتراك -مع المرجئة- بوجه من الوجوه التعبيرية كافياً لنسبة الإِرجاء إلينا، لزم نسبة الاعتزال إليهم -أي إلى المحدثين- فإنهم -أي المعتزلة- قائلون بجزئية الأعمال أيضاً كالمحدثين، ولكن حاشاهم من الاعتزال وعفا الله عمن تعصب، ونسب إلينا الإرجاء، فإن الدين كله نُصح، لا مراماة ومنابزة بالألقاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويطلق الإرجاء أيضاً على من توقف عن تصويب إحدى الطائفتين من الصحابة الذين تقاتلوا بعد عثمان رضي الله عنه، وعلى من لا يقول بزيادة الإيمان ونقصانه.
والمذموم من ذلك كله هو قول من يقول: لا تضر مع الإيمان معصية.
وعليه فلا يسوغ لأحد أن يتسرع في اتهام كل من أطلق عليه الإرجاء، بل لا بد من الفحص عن حاله، فإن كان لإرجائه أمر الصحابة الذين تقاتلوا والتوقف في تصويب إحدى الطائفئين؛ أو لقوله بعدم دخول الأعمال في حقيقة الإيمان أو أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهو من أهل السنة والجماعة، ولا يعد ذلك طعناً في حقه، أما من أطلق عليه الإرجاء لقوله بعدم إضرار المعاصي فهو الذي يتهم في دينه، ويسقط الاحتجاج بخبره، ولا يعتد بقوله.
قال الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال " 4/ 99: أما مسعر بن كدام فحجة إمام، ولا عبرة بقول السليماني: كان من المرجئة مسعر وحماد بن أبي سليمان، والنعمان، وعمرو بن مرة، وعبد العزيز بن أبي رواد، وأبو معاوية، وعمرو بن ذر
…
وسرد جماعة.
قلت - (القائل الذهبي): الإرجاء مذهب لعده من جلة العلماء، لا ينبغي التحامل على قائله. وانظر " الرفع والتكميل " ص 216 - 252 للعلامة اللكنوي، فقد أجاد في بحث الإرجاء غاية الإجادة، ولم يدع فيه قولاً لمستزيد.
عُرِفَ منهم بالعبادة العظيمة، والمحافظةِ الشديدة على ما يعتقِدُ أنَّه واجب، والمعلومُ بالضرورةِ لِكل فرقة من فرق الإِسلام أن في المرجئة عُبَّاداً وزهاداً يقومون الليل، ويحيونه بالتلاوة، وينتحِبُونَ بالبكاء العظيم من خوف العذاب الأليم، ويحافظون من النوافل على ما هُوَ أشَقُّ من المفروضات بأضعاف مضاعفة، ويتركون المعاصي والمحرمات. فقولُ السيد: إنهم يرتكبون الكذبَ وسائرَ المعاصي غيرُ صحيح بالضرورة، لأنهم إما أن يُدَّعى إن ارتكابَهم للمعاصي مشاهَدٌ بالأبصار، فذلك مُبَاهَتَةٌ، وأما أن يُدَّعى أن فعلَ الطاعة، واجتنابَ المعصية غيرُ مقدور لهم لبطلان الداعي، وانتفاء الصارف، فذلك غيرُ صحيح، ولا سيما عندك لو قَدَّرْنَا بطلانَ الداعي، وانتفاء الصارف، لكنه غيرُ باطل كما سيأتي، وإما أنْ نُقِرَّ أن فعلَ الطاعة، واجتنابَ المعصية مقدور لهم، ممكن وقوعُهُ منهم في العقل والشرع، فما معنى قطعه بأنَّهم فعلُوا أحد الجائزين؟ وهلَاّ قال: إنهم يفعلونَ الطاعة، ويترُكون المعصيةَ، لأن ذلك مقدور لهم، ولهم إليه أعظمُ الدواعي من المنافسة في مراتب الآخرةِ والتعرض لنفحات رحمة (1) من يعتقدون أنَّه أرحمُ الراحمينَ، وأكرمُ الأكرمين، والمالك لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ، وقد قررَ السَّيدُ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يخْبِرَ بخبر يجوزُ أنه كذب، فكيف أخبر عن جميع المرجئة بارتكابِ الكذب وغيرِه من المعاصي بمجرد الجُزَافِ من غير دليل يَدُلُّ على ذلك لا مِن العقل، ولا مِن السمع؟ وليس يجوزُ مثلُ هذا الكلامِ في الفسَّاقِ المصرِّحين إلا في ما شُوهِدَ من معاصيهم، فليس لك أن تقولَ في قاطِع الصلاةِ: إنَّه يَشْرَبُ الخمرَ، ولا في شاربِ الخمر: إنَّهُ يزني، ولا في الزاني: إنَّه يُربي، ولا
(1) لفظ " رحمة " ساقط من (ب).
في السَّارق: إنَّه يقتل النفس، فكيف قلتَ في من أُرجىء، ولم يُعرف منه إلا هذه المعصية: إنَّه يفعل غيرَها من المعاصي التي يعتقد تحريمَها، وهلا قلتَ: إن قوله هذا يضعف الظن لصدقه، ويضعف الظن لاجتنابه للمعاصي كما تقول العلماءُ.
فإن قلتَ: إنك إنما عَنَيْتَ بهذا فساقَ التصريح منهم.
قلت: ليس كلامُنا في فساق التصريح على أنَّه لا يجوز الرجمُ بالغيب على فُسَّاق التصريح، ولا كفار التصريح، والعجبُ أن السيد -أيَّده الله- قال في البراهمة مع إنكارهم للنبوات، وما جاءت به الشرائع من عذاب النار في حقِّ الفُساقِ والكفار: إِنهم يتحرَّزُونَ عن الكذب أشدَّ التحرز، فيتنزَّهُونَ عنه أشَدَّ التنزه مع إنكارهم لعذابِ النار بالمرَّة، بل مع تكذيبهم لجميع الرسل والأنبياء، وإنكارهم لجميعِ ما جاؤوا به مما يُخالِفُ العقول من إيلام الحيوان في الدنيا والآخرة، فكيف أخبر عنهم بأنَّهم في غاية التحرز من الكذب.
وأما المرجئة، معَ تصديقهم للأنبياء عليهم السلام، وخوفِهم من الموت على الكفر الذي لا يُغفر، وإثباتِهم للعذاب الأخروي، فقطع السيدُ بأنَّهم يكذبون، ويرتكبون سائرَ المعاصي، ولم يُمكنه العدولُ عن هذه العبارة إلى ما هو أقربُ منها إلى الصدق، وإلى ما يكفيه في (1) جرحهم، بل تعدى الطور في الغلو، و (2) جاوز الحد في التعدي حتى فضَّل البراهمَة المصرِّحين بتكذيب اللهِ ورسُلِه، القاطعين ببطلانِ العذاب،
(1) في (ب): من.
(2)
في (ب): أو.