الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبوات"، وَبَيَّنَ أنَّه نَقَل كِتابَه عن السلفِ رحمهم الله تعالى، فدلَّ على اعتبار مثل ذلك حيث يُحتاج إليه، وتَقعُ التهمةُ بالإِجماعِ، ذكره حيثُ ذكر ما رُوي مِن أشعار الجن في الكلام على أنَّه لا يجوزُ أن يكونَ القرآن مِنْ كلامِ الجن.
الوجه الخامس: أن أبا هريرة قد روى مناقِبَ علي عليه السلام في الصحاح، ومِنْ أشهرهَا روايته لحديث خيبر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لِعلي عليه السلام:" إنَّه يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَه، ويُحِبُّه الله وَرَسُولُهُ "(1) فثبت ذلك عنه في صحيح مسلم، فكيف لم ينفعْهُ ذلك مع صِحته عنه، وَيضُرّه ما رُويَ عنه من غير طريق صحيحة مِن نقيضِ ذلك.
الوجه السادس: أن جميعَ الأكاذيب المروَيَّة أسندها الكذَّابُونَ إلى الصحابة
، والمُحَدِّثُون عَرَفُوا الكَذَّابين، وحملُوا أكاذيبهم عليهم، والحَمْقَى (2) من أهل الكلام نَزَّهُوا أولئك الذين جَهلُوا أحوالَهم، وحملُوا أكاذيبهم على المعروفين بالإيمان والإسلام، والصُّحبة، والعدالةِ، والنبالة، وعكسوا ما يجبُ، ألا ترى أن صاحبَ هذا الكلام الذي في " شرح النهج " قَدَحَ في أبي هريرة بروايته لخطبة علي عليه السلام بنتَ أبي جهْل وطوَّل في ذلك، ثم نقل عن السيد المرتضى أن الراوي لذلك عن أبي هريرة هو الكرابيسي، وأن الحمل في ذلك عليه. ثم إنَّه تأوَّل ذلك على تقديرِ صحته بتأويل حسنٍ لا يبقى معه قَدْحٌ في رواته، ومع ذلك لم يَذُبَّ عن أبي هُريرة، وتركه مقدوحاً فيه بذلك، وجهل أيضاًً أن ذلك غير مروي عن أبي هريرة في الصَّحاح، ولا أشار إليه الترمذي كعادته،
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم (2405)، وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص عند مسلم (2404) والترمذي (3724)، وعن سلمة بن الأكوع عند البخاري (2975) و (3702) و (4209) ومسلم (4407)، وعن سهل بن سعد عند البخاري (2942) و (3009) و (3701) و (4210) ومسلم (2406).
(2)
في (ب): الحُمقاء.
ولا رواه عنه أحمد في " مسنده " مع جمعه لحديثه، بل روي في الصحاح مِن غير طريق أبي هريرة، وأنهم إنما رَوَوْه من طريق علي بن الحسين سَيِّدِ العابدين عن المسْورِ بن مَخْرَمَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) فما أبعدَ ابنَ أبي الحديد عن مثل هذا، دل قد روى حديث الخِطبة على فاطمةَ عليها السلام الحاكمُ في " المستدرك "(2) على تشيعه، وصحح مجيئَه مِنْ طُرُقٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم بصحتها، منها عن سُويد بن غَفَلَةَ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السِّياقة (3).
ومنها عن عبد الله بن الزبير وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الترمذي (4) أيضاًً.
ومنها عن أبي حنظلةَ رجلٍ من أهل مكة.
وإنما ذكر هذه الطرق لتصحيح هذه الفضيلة لفاطمة عليها السلام، ولذلك ذكر ذلك في مناقبها مع أنَّه لا شيء في ذلك على أمير المؤمنين عليه السلام كما ذكره في حديث سُوَيْدِ بنِ غفَلَةَ، فإنه ذكر فيه أن عليّاً استشار النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال له:" أعَنْ حَسَبِهَا تسألُني؟ " قال: قد أعلمُ حسبَها، ولكن أتأمُرُني بها، فقال:" لا، فاطمةُ بَضْعةٌ مني، ولا أَحْسِبُ إلَّا أنَّهَا تَحْزَنُ أَو تَجْزَعُ " فقال علي: لا آتي شيئاً تَكْرَهُهُ. فأيُّ مقالٍ عليه في أن سأل، ثم فعَلَ ما يُحبُّهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يَأْذَنَ له في الاستغفارِ لأمِّهِ، فلم يَأذَنْ له (5) فأطاعه، فهذا مثلُ ذلك.
(1) أخرجه البخاري (3110) و (3714) و (3729) و (3767) و (5230) و (5278) ومسلم (2449) وأبو داود (2069) والترمذي (3867).
(2)
3/ 158 و159.
(3)
علق عليه الإمام الذهبي بقوله: مرسل قوي.
(4)
برقم (3869) وقال: حديث حسن صحيح.
(5)
أخرجه من حديث أبي هريرة مسلمُ (976)، وأبو داود (3234) والنسائي 4/ 90 =
ويدل على بُطلانِ ذلك الكلام على ابنِ أبي الحديد أن صاحبَه روى عن أبي حنيفةَ جَرْح جَمَاعةٍ مِن الصحابة كأبي هريرة، ونحن نرى أبا حنيفة يحتجُّ بأحاديثهم (1) كما هو معروف في " مسنده " وكُتُبِ فقهه، وفِقه أصحابه.
ؤكذلك حديثُ أبي هُريرة متلقى بالقبولِ بينَ فِرَقِ الأمَّةِ.
أما الفقهاء وأهلُ الحديث، فمعلومٌ ذلك عنهم ضرورةً، وكذلك التابعون، فإنَّ الرواةَ عنه منهم بلغوا ثماني مئة، ولم تُنْكَرْ عليهم الرِّوايةُ عنه مع هذه الشُّهْرَةِ العظيمةِ.
وأما المعتزلة، فهم راجعون إلى الفقهاء، فإنهم شافعية وحنفية، والمنقولُ عنهم عدالة الصَّحابة إِلَّا مَنْ حاربَ عليّاً عليه السلام، ومن حارب متأولاً، قَبِلُوه، وإن فسَّقوه أيضاًً، أو أكثرهم كما مضى، وكما يأتي في مسألة المتأولين مِن دعوى كثير منهم الإجماعَ على ذلك، وأبو هريرة لم يكن مِن محاربي علي عليه السلام بالإجماع.
وأما الشيعة فهؤلاءِ مُحدِّثوهم يَرْوونَ حديثَ أبي هُريرة كالحاكم في " المستدرك "، والنسائي في " السنن "، وكُلّ مَنْ روى الحديثَ منهم حتى محمد ابن منصور المرادي (2) في كتابه " علوم آل محمد" خرَّج حديثَه، واحتج به فيه،
= ولفظه في مسلم: " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ".
(1)
وفي " مسنده " عدد غير قليل من الأحاديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، منها حديث " من أكل ناسياً، فليتم صومه " فقد ترك القياس، وأخذ به.
(2)
هو أبو جعفر محمد بن منصور المرادي الكوفي الزيدي المتوفّى سنة 290 هـ، صاحب التآليف الكثيرة في التفسير والفقه والتاريخ. تراجم الرجال 36، و" الفهرست " لابن النديم ص 244.
بل روى محمدُ بنُ عبد الله بن الحسن (1)، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثَ " إذا سَجَدَ أحَدكمْ، فَلا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الجَمَلُ "(2) واحتج به، وذهب إلى مقتضاه، وتابعه على ذلك كثيرٌ من أهل البيت وشيعتهم، وخرَّجه عنه أهل الحديث في كتبهم، ولم يُنْكِرْ ذلك عليه أحد مِن أهل بيته مع تَقَدُّم عصره، ولا مَنْ بَعْدَه مِن أهله وشيعته، ولا اعتذروا له عن ذلك، ولا لغيرهِ مِمَّنْ روى عنه على أنَّه لا يعلم أنَّه تفرَّد بشيءٍ منكر، وصحَّ عنه، وقد ادَّعى الإجماعَ على عمل الأمة بروايته لِحديث النَّهي عن الجمعِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها، والمرأةِ وخالتها، وأنَّ الأمَّة ما اعتمدت إلَاّ عليه مع أنَّه تخصيصٌ لقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] وذكر الحُفَّاظُ العارفون أنه لم يَصِحَّ شيءٌ مِن الأحاديث المرويةِ في ذلك عَنْ عليٍّ عليه السلام، وابن عباسٍ وغيرِهما، ممن ذكر ذلك البيهقي، وحكاه عن الشافعي حتى اعترضُوا ما خرَّجَهْ البُخاري (3) في ذلك عن عاصمٍ الأحولِ، عنِ الشَّعبِيِّ، عن جابر
(1) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن حسن بن علي الهاشمي المدني الملقب بالنفس الزكية، وثقه النسائي وغيره من رجال " التهذيب ".
(2)
وتمامه " وليضع يديه قبل ركبتيه " أخرجه أحمد 2/ 381، وأبو داود (840) والدارمي 1/ 303، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/ 254، وفي المشكل 1/ 65 - 66 والبخاري في " تاريخه " 1/ 139، والنسائي 2/ 207، والدارقطني 1/ 344 - 345، والبيهقي 2/ 99 - 100 كلهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .... وهذا سند صحيح، وقد صححه غير واحد من الأئمة، وانظر " زاد المعاد " وتعليقنا عليه 1/ 222 - 230 نشر مؤسسة الرسالة.
(3)
رقم (5108) في النكاح: باب لا تنكح المرأة على عمتها، حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عاصم، عن الشعبي سمع جابراً رضي الله عنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال داود، وابن عون عن الشعبي، عن أبي هريرة.
قال الحافظ: أما رواية داود -وهو ابن أبي هند- فوصلها أبو داود (2065) والترمذي (1126)، والدارمي 2/ 136 من طريقه، قال: حدثنا عامر هو الشعبي، أنبأنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهي أن تنكح المرأة على عمتها أو المرأة على خالتها، أو العمة على بنت =
وقالوا: إِنَّ ذلك وَهْمٌ مِن عاصم، لأن ابنَ عونٍ، وداودَ بنَ أبي هِنْدٍ رويا هذا الحديثَ عن الشَّعبِيِّ، عن أبي هُريرة وحدَه.
وعلى الجملة، فروايةُ التابعين لِحديثه، واحتجاجُهم به مِنْ غيرِ نكيرٍ معلومٌ لأهلِ العلمِ بالأخبار بالضرورة، والتَّابِعُونَ مِنْ خيرِ القرونِ بالنُّصوص النبوية، والأخبارِ بصلاحِهم المتواترة الضرورية، واللهُ يُوفِّقنا للصواب، ويُزيل عنا الشَّكَّ والارتياب.
وكذلك تجدُ المعتزلة حنفيةً وشافعيةً، وأبو حنيفة والشافعي يحتجَّان
= أخيها، أو الخالة على بنت أختها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى " لفظ الدارمي والترمذي نحوه، ولفظ أبي داود " لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها " وأخرجه مسلم (1408) (39) من وجه آخر عن داود بن أبي هند، فقال: عن محمد بن سيرين " عن أبي هريرة، فكأن لداود فيه شيخين، وهو محفوظ لابن سيرين، عن أبي هريرة من غير هذا الوجه.
وأما رواية ابن عون -وهو عبد الله- فوصلها النسائي في " الكبرى " من طريق خالد بن الحارث عنه بلفظ " لا تزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها " ووقع لنا في فوائد أبي محمد بن أبي شريح من وجه آخر عن ابن عون بلفظ " نهى أن تنكح المرأة على ابنة أخيها أو ابنة أختها ".
والذي يظهر أن الطريقين محفوظان. وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم، عن الشعبي، عن جابر أو أبي هريرة، لكن نقل البيهقي 7/ 166 عن الشافعي أن هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروي من وجوه لا يثبتها أهل العلم بالحديث، قال البيهقي: هو كما قال، قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وأبي سعيد، وعائشة وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة، وأخرج البخاري رواية عاصم، عن الشعبي، عن جابر، وبين الاختلاف علي الشعبي فيه، قال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ والصواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند.
قال الحافظ: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري، لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، والحديث محفوظ أيضاً من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر - معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له، وكفي بتخريج البخاري له موصولاً قوة. وانظر " الجوهر النقي " 7/ 166.
بأولئك المقدوحِ فيهم مع أبي هريرة، فكيف يَنْتَسِبُون إليهما، وَيَنْتَقِصُونَ مَنْ هو حُجَّةٌ لهما، وَقُدْوَةٌ عندهما.
ثم مِنْ عَدَمِ إنصاف صاحبِ ذلك الكلام المسند إلى الإسكافي، ولعله منه بريء أيضاً، فما يصلحُ إِلَّا لبعضِ أعداءِ الإسلام، فإنه ذكر القدحَ في أبي هُريرة، وغيرِه من خِيرة السَّلَفِ الصالح، وأفردَ القدحَ فيهم، ولو كان هذا من المسلمين، لأورد ما وَرد فيهم مِن جرح وتوثيق، وسمَّى مَنْ جَرحَهُمْ وَمَنْ وَثَّقهم حتى يتمكَّنَ الناظِرُ من الترجيح عند التعارض، كما هو شأنُ أهلِ كتب هذا الشأنِ من علماء الإِسلام.
وأما الزنادقةُ، فتراهم -إذا ذكروا أحداً مِن أئمة الإسلام الذين تملأ محاسِنَهم الدواوينُ، وتملّ حسناتِهم الكاتبون- لم يذكورا له إلَاّ ما لم يَصِحَّ مِن المساوىء والمثالبِ والفواحشِ المفتراة والمعايبِ، وليس العجبُ ممن يقدح في الأكابرِ مِن هؤُلاءِ الأسافلِ، ولله القائل:
وإذَا أتتْك مَذَمَّتِي مِنْ ناقِصٍ
…
فَهي الشَّهَادَةُ لي بِأنِّي فَاضِلُ (1)
وإنَّما العَجَبُ مِن بلادةِ مَنْ يَسْبِقُ إلى عقله صِدْقُ أخسِّ الناسِ وَمَنْ خيرُ أحواله أن يكون مجهولاً في ذَمِّ خيرِ الناس بنصِّ كتاب الله تعالى، وشهادةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ أَدْنَى أحوالِه أن يكونَ على من جَرَحَهُ مِن الأراذِلِ مقدماً مقبولاً.
واعلم أنا قد جرَّبْنَا في أنفسنا، وَمَنْ عاصَرَنَا مِن الأئمة والفُضلاءِ كَذِبَ الكذَّابينَ عليهم، وَحسَدَ الحاسدينَ لهم، وهذه عادة مستمرة للأنجاس في
(1) هو للمتنبي من قصيدة مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل
…
أقفرتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أواهل
والرواية فيه: " كامل " بدل " فاضل " وكذلك هي في (ش).
انظر الديوان 3/ 249 بشرح العكبري.
حسدِ خِيارِ الناس، ولذلك قيل:
إنَّ العَرَانِينَ تَلَقَاهَا مُحَسَّدَة
…
وَلَنْ تَرَى لِِلِئامِ النَّاسِ حُسَّادَا (1)
والحاسدُ يفتري على المحسودِ، فلو قُبِلَ كُلُّ قَدْحٍ مِنْ غيرِ تثبُّتٍ، لبلغ الشيطانُ وجنودُه أغراضَهم في أهلِ المراتب الرفيعةِ مِن العلماءِ، والصَّالحين، وحَمَلَةِ العلم، وَنَقَلَةِ الآثار. فكيف يجوز أن يُصَدَّق على ابنِ أبي الحديد والإِسكافي أن يُجَرِّحُوا عُيُونَ السَّلَفِ الصالح برواياتٍ لم يُصحِّحُوا منها واحدة، ولا أوضحوا لها طريقاً يعلم براءتها مِن دسيسِ الملاحدة؟!.
وقد ذكر شيخُ الإِسلام ابنُ تيمية (2) أنَّ الذي وضع هذه الأشياءَ يهوديٌّ أظهرَ الإسلامَ وافتراها، بل صَحَّ عن ابنِ مسعود: أنَّ الشَّيطانَ يتصوَّرُ في صورة الآدَمِيِّ فيحدّثُ بالأكاذيب. رواه مسلم (3). وله شاهد أو شواهد مرفوعة
(1) البيت غير منسوب في " أساس البلاغة " ص 126، وجاء في " عيون الأخبار " لابن قتيبة 2/ 9: قيل لسفيان بن معاوية: ما أسرع حسد الناس إلى قومك! فقاله إن العرانين
…
وعرانين القوم: وجوههم وساداتهم وأشرافهم، مأخوذ من عرنين الأنف: وهو ما تحت مجتمع الحاجبين، وهو أول الأنف حيث يكون فيه الشمم.
(2)
هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني المتوفى سنة 728 هـ، وصفه تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي المتوفى سنة 744 في " مختصر طبقات علماء الحديث " الورقة 274 فقال: شيخنا الإمام الرباني إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سند الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين ..... نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إليها. وقد ترجمه غير واحد من الأعلام، وأثنوا عليه، ووصفوه بشيخ الإسلام، جمع ذلك كله ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه " الرد الوافر" وهو مطبوع فليرجع إليه.
(3)
في مقدمة " صحيحه " 1/ 12 رواه من طريق أبي سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، قال: قال عبد الله: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث.
في " مجمع الزوائد " للهيثمي (1) ومن ها هنا أوجَبَ أهلُ الحديثِ الإِسنادَ، لأن في العدول مَنْ يَقْبلُ المجاهيلَ، فيقبلُ الكذَّابَ، أو الشيطانَ لِظنه أنه مجهول، والمجهولُ عنده مقبول، فصار قبول المرسل يُؤدِّي إلى مِثْلِ هذا مِن حيث لا يَشْعُرُ مَنْ قَبِلَهُ، لأنَّه يقبل مراسيلَ الثقاتِ، وفي الثقات من يَقْبَل المجاهيلَ كالحنفيةِ فَتُقْبَلُ مراسيلُهم، وهم يقبلُون المجاهيلَ، وجميعَ المجاريحِ، والشياطينُ قد يكونون مِن جملة المجاهيل بالنسبة إلى بعض الأشخاصِ والأحوالِ، فاللهُ المستعانُ.
وينبغي مِن كُلِّ مسلمٍ صحيحِ الإِسلام أن يعتبر عن سماع هذه الأكاذيبِ بأمورٍ.
أحدها: أن يَنْظُرَ: هل هو يجترىء على تَعَمُّدِ الكذبِ على اللهِ ورسوله، ثم يظن فيمن غاب عنه مثل ما يجد من نفسه.
وثانيها: أن يَنْظُرَ لو يُفترى عليه مثل ذلك، وهو منه بريء كيف يكونُ ذلك العدوانُ عنده، فيحذر مِن مثلِه.
وثالثها: ينظر كيفَ قال تعالى في شأن أهل الإِفك (2) حين قالوا، وفي مُصدقيهم حين صدَّقوه مع أنَّهم قالوا ذلك، وهم يظنُّون صِدقَهم، وحذقَهم، وَفطَانَتَهم فيما اختصُّوا بفهمه دونَ البلداء، والرميُ بالزنى أهونُ
(1) علي بن سليمان بن عمر بن صالح أبو الحسن الهيثمي القاهري الشافعي الحافظ المتوفى سنة 807 هـ. وكتابه " مجمع الزوائد " مطبوع في عشرة أجزاء، جمع فيه الأحاديث التي لم ترد في الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) من مسند أحمد، ومسند أبي يعلى الموصلي برواية ابن حمدان المختصرة، ومسند البزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، محذوفة الأسانيد، ورتبها على الكتب والأبواب، وتكلم على كل حديث منها تصحيحاً وتضعيفاً.
(2)
انظر الآيات 11 - 20 من سورة النور.
من الرمي بتعمدِ الكذب على اللهِ ورسوله كما مضى تقريرُه، نسأل اللهَ العافيةَ والسلامة.
ثم إن صاحبَ ذلك الكلام تمسَّكَ في رمي جماعةٍ مِنْ خيرِ السَّلَفِ إلى بغضِ علي عليه السلام بأشياءَ كان يلْزَمُهُ لو طَرَّدها أن يَنْسِبَ بُغْضَ علي المستلزم لِلنِّفاق إلى طلحَة، والزبير، وعائشة لما كان منهم يومَ الجَمَلِ، بل إلى أبي بكر، وعُمَرَ، وعثمان، وجميع مَنْ قال بإمامتهم من التابعين والفقهاء والمعتزلة، لأنهم رأوا مرتبته مستأخرة عن مرتبة مَنْ تقدمه، وصنَّفوا في ذلك التصانيفَ، وجادلُوا عليه، ونقضوا أدِلَّة من خالفهم فيه، وبلغوا الغايةَ القصوى في ذلك.
ومتى التزمَ ذلِكَ، وَحَكَم بنفاق جميعِ منْ ذكرنا، ونفاقٍ جميع مَنْ أحبهم، أو ذب عنهم، ولم يبرأْ منهم، وحرم الروايةَ عنهم، والتصديق لهم، سدَّ أبوابَ الروايةِ، ورفع ما تفرَّع عنها مِن علوم الإسلام تحريماً وتحليلاً وتجميلاً وتفصيلاً، لا سيما المراسيل، فإن المُرْسِلِينَ يُرْسِلُون عن بعض هؤلاء لثقتهم عندهم حتَّى يتطرق الشكُّ إلى كثيرٍ من مناقب علي عليه السلام ومناقب العِترة الكرام، لأن كثيراً منها لا يَسْلَمُ مِن الاستناد إلى هؤلاء، وكان يلزم تُهْمَةُ كثير من العِترة بالتحامل على أمير المؤمنين عليه السلام حيث بالغوا في الثناء على مَنْ تقدَّمه، وأظهروا موالاتهم، والترضيةَ عنهم، والترحُّمَ عليهم، وَمِنْ أقربِ مَنْ صَحَّ لنا ذلك عنه بالنقلِ المتواتِر، ورُؤيته بخطه المعروف - مولانا أميرُ المؤمنين الناصرُ لدين الله مُحَمَّدُ بنُ أمير المؤمنين المهدي لدين الله علي بن محمد بن علي عليهم السلام، وقبلَه الإمام الأوَّاه العلامة المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة.
وأما بطريقِ الآحاد، فهو عن أميرِ المؤمنين علي عليه السلام، وعن
الطِّرَازِ الأولِ من أكابِرِ السادات مِن عِترته، كزيدِ بن علي، وأخيهِ الباقر، وجعفرٍ الصادقِ، ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ، ولهذا موضعُ غيرُ هذا وإنما القصدُ الإِشارةُ إلى بعض ما يُؤَدِّي إليه الغُلُوّ مِن فساد علوم الإِسلامِ، وفسادِ الظُّنون بأئمة العِترة عليهم السلام.
ثم إن الناسَ قد عاصروا أئمة الجَوْرِ الذين عادَوْا أميرَ المؤمنين وحاربُوه، وحاربُوا أهلَ بيته، وقتلوهم، وتَتَبَّعُوا مُحبِّيهمْ بالحرب والقتل والإهانة، وقد رخَّصَ اللهُ ورسولُه وأميرُ المؤمنين في التَّقيَّةِ، وقال تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (1)[النحل: 106] وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمارٍ: " إنْ عَادُوا لكَ فَعُدْ لَهُم "(2) وقد كانُوا أكرهوه على سبِّ الله عز وجل، ولذلك قال علي عليه السلام: فأما السَّبُّ فسُبُّونِي، فإنه لي زكاةٌ، ولكم نجاة. فكيف لا يُحْمَلُ على هذا المحمل الجليِّ الواضحِ منْ صدر عنه شيءٌ مِنْ ذلك إذا كان قبل ذلك معروفَ الإسلام لو صحَّ شيءٌ من ذلك عن أحدٍ من الأعلام، وإنما الذي لا يَحِلُّ بالِإكراه هو البراءة منه التي محلُّها القلب كالبُغضِ والعداوة. وقد خَفِيَ هذا المعنى على الشيخ ابن
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " في ترجمة عمار بن ياسر: اتفقوا على أنه نزلت فيه هذه الآية، وانظر " زاد المسير " 4/ 494 - 496.
(2)
أخرج ابن سعد في " الطبقات " 3/ 249، الطبري في " جامع البيان " 14/ 182، وأبو نعيم في " الحلية " 1/ 140 من طريق عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير. فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما وراءك؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تُرِكْتُ حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال:" فإن عادوا فعد "، وأخرجه الحاكم 2/ 357 من طريق الجروي، عن أبي عبيدة، عن أبيه محمد بن عمار، وصححه ووافقه الذهبي مع أنَّه مرسل ومحمد بن عمار لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في " التقريب ": مقبول، يريد: أنه يقبل حديثه في المتابعة، أما إذا انفرد، فهو ضعيف.
أبي الحديد، فلمِ يجد فرقاً بَيِّناً بَيْنَ السَّبِّ المباحِ عند الإِكراه وبينَ البراءةِ عند الإِكراه حتى نَسَبَ إِلى المعتزلةِ عدمَ الفرق بينهما. وقد ذكر في شرح كلامه هذا خلقاً كثيراً مِن صالحي السَّلَفِ بالتحامل على أميرِ المؤمنين، وهذا الفرقُ الذي ذكرتُهُ هو الذي لا يُمْكنُ سواه كالبراءةِ من الله ورسولِه باللسان دون القلب ولأن من سَبَّ، ولم يتبرأ بلسانه يقع في المخوف، وقد أشار إلى هذا أميرُ المؤمنين عليه السلام في رواية الحاكم (1) فإنه خرج هذا في تفسير سورة النحل من طريقين، أحدهما: طريق أبي صادق الأزدي عن علي عليه السلام وفيها أنَّه عليه السلام تلا بعدَ كلامه هذا {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقال: صحيح الإسناد (2).
قلت: وأبو صادق مِن رجال ابن ماجة، وثَّقه يعقوب بن أبي شيبة، وقال ابن سعد. يتكلمون فيه، وقيل: إنَّه لم يلق علياً عليه السلام، وذكر الحاكم الطريق الثاني عن الحِمَّاني عن ابن عيينة عن عبد الله بن طاووس، عن أمية، ولم يصححها أحسبه للانقطاع (3)، فإنه لم يذكره المزي في الرُّواة عن علي عليه السلام، فإن صح عنه وعن بعضهم ممن يَجبُ حملُه على السلامة فالوجه فيه ما ذكرنا، ولعل الشيخ قد نبه على ذلك بإيراده له في شرح قَوله عليه السلام: فأما السَّبُّ فَسُبُّوني، وأما البراءة فلا تبرؤوا
(1) في " المستدرك " 2/ 358، ولفظه قال علي رضي الله عنه: إنكم ستعرضون على سبي فسبوني، فإن عرضت عليكم البراءة مني، فلا تبرؤوا مني، فإني على الإسلام، فليمدد أحدكم عنقه ثكلته أمه، فإنه لا دنيا له ولا آخرة بعد الإسلام، ثم تلا {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} .
(2)
ووافقه الذهبي على تصحيحه.
(3)
قال الذهبي في " المختصر " 3/ 358 يحيى بن عبد الحميد الحماني ضعيف سمعه منه عبيد منقذ البزار ولا أدري من هو.
مني، ولم يُظهر الشيخُ حملَهم على ذلك تقيةً من ابنِ العلقمي (1) والله أعلم.
ويلحق بذلك فائدة: تَعَلَّقٌ بتمام الذبِّ عن أبي هُريرة رضي الله عنه، وذلك أن بعضُ مَنْ يَتَّهِمُه في الحديث احتج على تهمته بما روي في الصحاح (2) عنه أنَّه كان يُفتي بفطرِ من أصبح جنباً في رمضان قبل أن يغتسِل، ويروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بلغه عن عائشة وأم سلمة خلافُ ذلك قال: إنَّه لم يسمعه مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وإنما أخبره بذلك الفضلُ بنُ عباس
(1) هو محمد بن محمد بن علي أبو طالب مؤيّد الدين الأسدي البغدادي، المعروف بابن العلقمي، وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد في رواية أكثر المؤرخين. مات غماً في قلة بعد ثلاثة أشهر من كائنة بغداد.
مترجم في " سير أعلام النبلاء " 23/ 361 رقم الترجمة (261).
(2)
أخرجه من قوله: وفتواه - مالك في " الموطأ " 1/ 290 - 291، والبخاري (1925) و (1926)، ومسلم (1109)، وفيه قصة في رجوعه عن ذلك لما بلغه حديث أم سلمة، وعائشة، وأنه لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أحمد 2/ 314 من طريق معمر، عن همام عن أبي هريرة مرفوعاًً بلفظ " إذا نودي للصلاة صلاة الصبح، وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ " وإسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق (7396) من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أدركه الصبح جنباً فلا صوم له " إسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق (7399) وعنه أحمد (7826) من طريق ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو بن عبد القاري أنَّه سمع أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت: " ومن أدركه الصبح جنباً فليفطر " ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم قاله، وهو في "المسند"(7382) و (7826) والنسائي في " الكبرى " ورقه 43/ 2، وابن ماجة (1702) من طريق سفيان الثوري، عن عمرو ابن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو القاري به، وصححه البوصيري في " الزوائد " ورقة 128، وأخرج النسائي في " الكبرى " ورقة 14/ 1 من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: بلغ مروان أن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه " من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصومن يومئذ " وإسناده صحيح، وللنسائي ورقة 43/ 2 من طريق يحيى بن عمير، قال: سمعت المقبري يقول: " كان أبو هريرة يفتي الناس أنَّه من أصبح جنباً، فلا يصم ذلك اليوم، فبعثت إليه عائشة: لا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا.