الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة} [الحجرات: 6] وهذا في معنى العموم، كأنه قال: إن جاءكم فاسق، أيَّ فاسِقٍ كان، كقولك: إن جاءك رجل فأكرمه، فإنه يقتضي إكرام أيِّ رجل جاء، وإن لم يتناول مجموع الرجال، ولأنه عَلَّق الحكمَ على صفة تقتضي التعليلَ، وكأنَّه قال: إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا أن تصيبُوا قوماً لأجل فسقه، فيقتضي العمومَ مِن هذا الوجه.
أقول: كلامُ السَّيِّد أيَّده الله في الاحتجاج بهذه الآية يحتمل إيرادَ إشكالات كثيرة، نذكر منها ما حَضَرَ:
الإشكال الأول: أن نقول: احتجاجُ السَّيِّد بهذه الآية ينبني على أنه لم يكن يَسْبِقُ إلى الأفهام عندَ إطلاق لفظ الفاسق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على مرتكب الكبيرة تأويلاً وتصريحاً، فكان ينبغي منه أن يذكُرَ الدليل على هذا، فإنه قاعدةُ دليلِهِ، ويجب عليه أن يبين على ذلك دليلاً قاطعاً، وإلا لم يمنع خصمه من الخلاف والمنازعة وقد نسي السيدُ هذا، ولا يصِحُّ له الاستدلالُ إلا به، ونحن ننازِعُه في ذلك من طريقين:
الطريق الأولى: أنَّه قد ورد في السمع ما يَدُلُّ على أن الفاسق كان في ذلك الزمان يُطلق على الكافر
كثيراً، كقوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وقولِه تعالى:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون} [البقرة: 99]، وقولِه في المنافقين:{إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون} [التوبة: 84]، وقولِه تعالى فيهم أيضاً:{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة: 96]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ (1)
(1) هي قراءة نافع وابن عامر، وقرأ باقي السبعة (كلمة) بغير ألف. انظر " حجة القراءات " ص 331.
رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون} [السجدة: 20] وقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِين} [الحشر: 5]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [الحشر: 19] وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [المنافقون: 6]، وقال تعالى:{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] إلى غير ذلك مما يطولُ تعدادُه. إذا عرفتَ هذا فلا شك في أمرين:
أحدهما: أن هذه الآياتِ دالةٌ على أن الفاسق في العُرف الأول يُطلق على الكافر ويَسْبِقُ إلى الفهم.
وثانيهما: أن العرف المتأخِّرَ هو أنَّ الفاسق مقصورٌ على مُرتكبِ الكبيرة التي ليست بكفرٍ، ولا يَسْبِقُ إلى الفهم في هذا العُرف المتأخر إلا ذلك فاختلف العُرْفانِ، فلا يجوز أن نُفَسِّرَ القرآنَ بالعُرف المتأخر، لأن الله تعالى لا يُخاطبُ الناس إلا بما يسْبِقُ إلى أفهامهم، وهو القِسْمُ المعروف بالمبين في الأصول، أو بما لا يُفهم منه شيء ثم يُبينه وهو المُجْمَلُ.
فإن قلت: هذا خلافُ مذهب أهلِ البيت عليهم السلام.
قلتُ: ليس كذلك، لأنَّ أهل البيت لم يتكلَّمُوا على أنَّه لم يكن الكافرُ يسمَّى فاسقاً في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسبِقُ إلى الفهم عند ذكر الفاسق أنه الكافر، وإنما تكلموا على أن مرتكب الكبيرة يُسَمَّى فاسقاً، ولسنا نُنازِعُ
في ذلك، فإنا نقول: إنَّه يسَمَّى فاسقاً في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت المتأخر لكنِ التسميتان مفترقتانِ فالمتقدمة في زمانه عليه السلام لغوية غيرُ سابقة إلى الأفهام إلا بقرينةٍ، والتسميةُ المتأخرة في زماننا عُرفية سابقة من غير قرينة، وهذا شيء لم ينصَّ أهلُ البيت على خلافه.
فإن قلتَ: فقد ورد في القرآن الفسقُ لغيرِ الكفر في مثل قوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَان} [الحجرات: 11] وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} [الحجرات: 7]، وقوله:{ذَلِكُمْ فِسْق} [المائدة: 3]، وقوله:{فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282].
فالجواب: أنا لم نَدَّع أن الفسقَ لم يرد في الكفر بل قلنا: إِنه فيه حقيقة عرفيةٌ سابقةٌ إلى الأفْهام مِن غير قرينة وهو في غيره حقيقةٌ لغوية، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" إنَّ النِّسَاءَ كَوَافِرٌ " قَالُوا: يا رسولَ اللهِ يكفرن بالله؟ قال: " لا، يَكْفُرْنَ العَشِيرَ "(1)، فلم يكن هذا مانعاً مِن كون الكفر في ذلك الزمان اسماً عرفياً لما يخَالِفُ الإِسلامَ، وفي الحديث من هذا القبيل شيء كثير.
فإن قلتَ: فهذا يقتضي أن الفِسقَ يَشْمَلُ الكفرَ وسائرَ الكبائر، وأن دخولها في هذه الآيةِ على السواء (2)، فلم قلتَ: إن إطلاقه في ذلك الزمان على الكافر كان أسبقَ إلى الأفهام؟
(1) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري، البخاري (304) و (1462) ومسلم (79) والنسائي 3/ 187، والبغوي في " شرح السنة " (19) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على النساء فقال:"يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن العشير
…
" ولفظ المصنف لم أقف عليه وربما يكون رواه بالمعنى.
(2)
في (ب): سواء.
قلتُ: لأن القرآن قد دلَّ على اسم الفاسق والفاسقين مما يختصُّ بالكفار، كقوله تعالى. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون} [التوبة: 67] فأفاد قصرَ الفاسقين على المنافقين كما هو معروف في علم المعاني، فلو كان كما ذكرت، لكان يكون الحقيقة أن المنافقين هم بعضُ الفاسقين، وكذلك قوله تعالى:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّار} [السجدة: 20] إِلى قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20]، والدلالات في هذه الآيات ظاهرة، وهذا هو الأكثرُ من النصوص القرآنية، وقد جاء في القرآن ما يَدلُّ على اختصاص أهلِ الكبائر بهذا الاسم، ولكِن مجيئاً قليلاً، وذلك قولُه تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فهذا ظاهِرُه متعارض، ولا بُدَّ من العدول عن الظاهر إما من الحقيقة العُرفية إلى اللغوية، وإما من الحقيقة إلى المجاز، وكلاهما لا يجوزُ إلا لضرورة، والتجوزُ فيما ورد قليلاً نادراً أولى مِن التجوُّز في الأكثريِّ المستمِر.
فإن قلت: فقد ورد اسمُ الفسق لغير الكفر كثيراً غير نادر كما قدمناه آنفاً.
قلت: على تسليم التساوي في الكثرة، فليس هذا موضع النزاع، فإنا إنما نازعنا في الفاسق والفاسقين ونحو ذلك مما ورد بصيغة فاعل، وذلك لأنَّه إذا ثبت في اسم الفاعل عُرْفٌ لم يلزم في المصدر كالدَّابة والدَّبيب، فإن الدابة في العرف للبهيمة المعروفة، والدَّبيب لا يختص بها، سلمنا أنَّه لا يكونُ التجوز في النادر أولى، فنحن نقول: أحدهما مجاز، والآخرُ حقيقة، فدل بدليل قاطع على أن المجاز هو إطلاق الفسق