الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الاحتجاج بالمنظومِ والمنثورِ.
قالَ: وكيفَ يكونُ حالُ هذا المجتهدِ الذي يَحْتاجُ إلى كُتُبِهِ في عيونِ المسائلِ إذا اغْتُصِبَتْ كُتُبُه، أو سُرِقَتْ: هل يَبْطُلُ إجتهادُه، أو يقال: سُرِقَ عِلْمُهُ أو اغتُصِبَ ومُنِعَ منه ونُهِبَ؟!.
أقول: هذه الحجةُ الثالثةُ مِن حُجَجِ السيِّدِ -أيَّده اللهُ- في هذه المسألةِ، وما هي إلَاّ قَعْقَعَةٌ في العِبارةِ، وتهويلٌ لَيْسَ تحتَه مِن العِلْمِ أَثَارَةٌ، ولستُ بحمدِ اللهِ مِمَّن تَهُولُهُ القَعْقَعَةُ، ولا تَسْتَغْلِطُهُ الألْفاظُ المسَجَّعَةُ، وَمَا أنَا مِن جِمَالِ بني أقَيْشٍ يُقَعْقَع خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنٍّ (1) وبيانٌ ما ذكرتُهُ يَظْهَرُ بالكلامِ في عَشْرةِ أنظارٍ: معارضَاتٍ وتحقيقاتٍ:
النظرُ الأوَّلُ: مِن قَبِيلِ المعارضاتِ وهو أن نقولَ: إيرادُ مثلِ هذا الكلامِ مُمْكِنٌ في المجتهد والمقلد
والقارىء في أيِّ فنٍّ مِن الفنونِ السَّمعيَّةِ، والمعتمدِ على الكتبِ في جميعِ المعارفِ النَّقْلِيَّةِ، فَيَلْزَمُ السَّيِّدَ -أيَّده الله- أن يُوجِبَ على نفسهِ وعلى غيرهِ من المقلِّدينَ لأمواتِ العلماءَ
(1) اقتباس من قول النابغة الذُّبياني:
كأنك مِن جِمالِ بني أُقيش
…
يُقعْقَعُ خلفَ رِجَليْهِ بشَنِّ
وهو البيتُ العاشر من قصيدة في ديوانه 246 مطلعها:
غشِيتُ منازِلاً بعُرَيْتِنَاتٍ
…
فأعلى الجزعِ للحي المِبَنٌّ
وقوله كأنك من جمال - هذا خطاب لعيبنة بن حصن الفزاري، وبنو أقيش: فخذ من أشجع، وقيل: حي من اليمن، وإبلهم غيرُ عتاق يضرب بنفارها المثل، ويقعقع بالبناء للمفعول، والقعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب، والشن: القِربة البالية، وتقعقعها يكون بوضع الحصى فيها وتحريكها، فيسمع منها صوت، وهذا مما يزيد في نفورها. جعل عيينة كالجمل النافر لجبنه وخفته عند الفزع. والبيت استشهد به سيبويه 2/ 345 على حذف الاسم الموصوف لدلالة الصفة عليه، والتقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش. وهو في " شرح المفصل " لابن يعيش 1/ 61 و3/ 59، و" خزانة الأدب " 2/ 313، و" شواهد العيني " 4/ 67، والأشموني 3/ 71.
المعتمدينَ على ما يَدْرُسُونهُ من أقوالِهم في العملِ والفتوى أن يَحْفَظُوا كُتُبَ الفروعِ عن ظهورِ قلوبِهم، ولا يَحِلُّ لهم أن يَعْتَمِدُوا في العملِ والفُتيَا على الرُّجُوعِ إلى كُتُبِهِم، لأنّهُ إذا ضَاعَ على أحدِهم كتابُهُ أو سُرِقَ أو نُهبَ أو اغتُصِبَ، لَزِمَ أَنْ يُقالَ: إنَّهُ ضاعَ عليهِ تقليدُه، ونُهِبَ فتواهُ، واغتُصِبَ عليهِ عِلْمُ إمامهِ الذي اختارَهُ للتقليدِ وارتضاهُ، فأصبحَ مسلوبَ التقليدِ، عديمَ الاجتهادِ، يَسْألُ عن ضالَّةِ تَقليدِهِ كُلَّ حاضرٍ وبادٍ.
فإن قلت: إنَّه يُقالُ: سُرِقَ عليه كتابٌ، كما يقولُ ذوو الألبابِ، وعليه أن يَرْجِعَ إلى سائرِ الكتبِ المُصَحّحاتِ، وإلى سائرِ العلماءِ الثقاتِ.
قُلنا: ولنا إن نجيبَ بمثلِ هذا الجوابِ، فَدَعْ عنكَ التَّهويلَ بذكرِ السَّرِقَةِ والاغتصابِ. وكذلك لو صحَّ الاستدلالُ على وجوبِ الواجباتِ بِمُجَرَّدِ التَّجَوُّزِ في العباراتِ، وجبَ غيبُ القرآنِ والسُّنَّة والنحوِ والأدبِ وسائرِ الفنونِ السَّمْعِيَّةِ والعلوم النَّقْلِيَّةِ، لئلا يُقالَ للقارىء في شيءٍ منها إذا سُرِقَ كتابُه أو نُهِبَ أو ضَلَّ أو غُصِبَ: إنَّه سُرِقَ على فلانٍ قراءتُه، وغُصِبَتْ عليه سُنَّتُه، وَنُهِبَ على فلانٍ عِلْمُ النحوِ والأدب، وظُلِمَ نوادر أشعارِ العربِ، ونفائِس الرَّسائلِ والخطب.
النظرُ الثاني: مِن قَبيلِ المعارضةِ أيضاًً، وذلك أنَّ الأمَّة أَجْمَعَت على أنَّه يجبُ على المُجتهدِ أن يَرْجِعَ في طلب الأدلةِ عند حدوثِ الحادثةِ إلى مَنْ في بلدِهِ مِن العلماءِ، فقد قدَّمنا روايةَ المنصورِ باللهِ، وأبي طالبٍ عليهما السلام عن عليٍّ عليه السلام أنَّه كانَ يَسْألُ عَمّا لم يَسْمَعْ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ويَسْتَخْلِفُ مَن يتَّهِم (1).
(1) انظر تخريجه في الصفحة 284 من الجزء الأول.
وصَحَّ عن أبي بكرٍ أنَّه سَأَلَ عن سَهْمِ الجَدَّةِ حين جاءت تَسْأَلُهُ عن نصيبِها (1).
وصحَّ أيضاًً عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عن حُكمِ المجوسِ حين قَدِمَ أرضَهم (2)، وغيرُ ذلك. وهذا إجماعٌ فلا نُطَوِّلُ بذكرِهِ.
فلو كان مُجَرَّدُ التَّجَوُّزِ في الكلامِ يُحرِّمُ الحلالَ، ويُحِلُّ الحرامَ، لَوجَبَ أن يكونَ ذلك الواجبُ المُجْمَعُ على وجوبهِ حَراماً مجمعاً على تحريمهِ، لأنَّهُ يجوزُ على ذلك العالمِ المسؤولِ عن الحادثةِ، المرجوعِ إليهِ في معرفةِ المسألةِ أن يُقْتَلَ أو يَمُوتَ أو يُغَيَّبَ، فيُقَالُ في المجتهدِ الراجعِ إليهِ، المُعْتَمِدِ في البحثِ عن الحكمِ عليهِ: إنَّه قد ماتَ عِلْمُهُ، أو قُتِلَ: أو أُسِرَ اجتهادُه وكُبِّل، أو أَصَابَهُ الطاعونُ، أو اغتالَهُ الطاغُونُ.
فإن قلتَ: الجوابُ: أنَّه يُرْجَعُ إلى غيرِ ذلك المأسورِ، وهذا الجوابُ ظاهِرٌ غيرُ مستورٍ.
قلنا: وكذلك نقولُ: يُرجع إلى غيرِ ذلك الكتابِ المَغْضوبِ وهذا جوابٌ واضحٌ غَيْرُ محجوبٍ.
النظرُ الثالثُ: أيضاًً مِن قَبيلِ المعارضةِ، وذلك أنَّه قد ثَبَتَ أَنَّ العالِمَ يُسمَّى في الحقيقة العرْفِيَّة عالماً ومجتهداً في حالِ نومِهِ وغفلتهِ ونِسيانِهِ وتوقُّفهِ، بل بعْدَ موتهِ وفنائهِ، ولذلك وصفَ اللهُ الأنبياءَ -عليهمُ
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 294.
(2)
انظر تخريجه في الصفحة 447 من الجزء الأول.
السلامُ- في كتابهِ الكريمِ بالنُّبُوَّةِ والعلمِ والفضل، وسائرِ الصِّفاتِ الحميدة، والنعوتِ الجميلةِ، وكذلك نَصِفُ عليّاً عليه السلام بعدَ موتِه بالعلمِ والشَّجاعةِ، وكذلك سائرُ أئمةِ الهُدى وسائرُ العلماءِ والفضلاءِ، وليسَ لأحدٍ أن يقولَ: إن عليّاً عليه السلام اليومَ جاهِلٌ غيرُ عالم ولا فاضِلٍ، محتجاً بأنَّ الحقيقة اللغويةَ تقْتَضي أنَّ الميتَ لا علمَ له، ولا عقلَ، ولا فضيلةَ له، ولا فضلَ، وذلك لأنَّ الحقيقةَ العُرفيةَ هي المقدَّمةُ السابقةُ إلى الأفهامِ، فلا يجوزُ العُدُولُ إليها حيث تُوهِمُ خلافَ الصوابِ بغيرِ قَرِينَةٍ وبغير حاجةٍ إلَّا مجردَ المجونِ أو اللَّجاجةِ. وكذلك يُسَمَّى الرجلُ مؤمناً ومسلماً في حالِ نومهِ، بل في حالِ موتهِ لمثلِ ذلك.
فإذا ثَبَتَ هذا سألنا السيِّد -أيَّده الله- هل هو يُقِرُّ بذلك أو يُنْكِرُه؟ فإن أقر بذلك، قلنا: لنا أن نُسمِّيَ العالِمَ حينَ ضَاعَتْ كتُبُهُ عالماً مجتهداً، لأنهُ متمكِّنٌ من العلمِ، واجدٌ لِلطرِيق إلى الاجتهادِ كما سمَّينا الميِّتَ بذلك، لأنَّه كان كذلك، بل هذا أولى، لأنَّ التمكنَ مِن الاجتهادِ أقوى في سَبَبِ التسميةِ مِن كونهِ كان مِن أهلِ الاجتهادِ.
وبَعْدُ، فهذا تعويلٌ على مجردِ العباراتِ، وما يَصِحُّ من الاشتقاقاتِ، وهذه الأمورُ ليست من أساليبِ الرجالِ في ميادينِ الحجاج، ومضايقِ الجدالِ، ولولا أَحْوَجَ السَّيِّد إليها، ما رَضِيتُ لقلمي أن يجريَ بِسَطْرِها، ولا لِفمي أن يتفوَّه بذكرِها.
النظر الرابع: من قبيل المعارضة أيضاًً وذلك أنَّ الأمة أجمعت على جوازِ نسيان المجتهد لبعض ما حَفِظَهُ عن ظهر قلبه، فيلزم السَّيِّد أن لا يصحَّ هذا الإجماعُ، لئلا يقال فيما نسي العالمُ: إنَّه ضلَّ بعضُ علمه،