الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إني لَمْ أُوْمَرْ أنْ أشُقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ".
فقولُه عليه السلام: " إِني لم أُومَرْ أن أشُق عن قلوبِ الناس " كناية لطيفة منادية بالتنبيه على أنَّه لا طريقَ إلى العلم بالبواطنِ، وذلك أنَّه عليه السلام أشار إلى أن الغايةَ القُصوى في البحث عما في الصدور هو شَقُّ القلوب، وقد علمنا أنَّ شَقَّ القلب غيرُ مفيد للعلم بما كان فيه قبل أن يُشَقَّ فإذا كان هذا لا يفيدُ مع أنه الغاية القصوى في البحث عن ضمائر القلوب، وسرائرِ النفوس، فكيف بما عداه؟ وقد أجمعتِ الأمة إجماعاً ضرورياًً أنه لا يُكّفرُ أحدٌ ولا يُفَسَّقُ لمجرد الفهمِ والحَدْسِ (1) ولا يجري بذلك حُكْم مِن أحْكَامِ الشريعة النبوية.
تنبيه: غيرُ خافٍ على أهل النظر أن أهلَ العلوم العقلية
قد ذكروا في
= وساق الحديث، ورواه الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب كما رواه يحيى والجماعة عن مالك، ورواه معمر، فسمى الرجل الذي لم يسمه روح بن عبادة. ثم أسند هذه الطرق كلها انظر " التمهيد " 10/ 151 - 172.
وأما القسم الثاني من الحديث، فأخرجه أحمد 3/ 4، والبخاري (4351)، ومسلم (1063) (144) من حديث أبي سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً "، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، قال:" ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلي، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ".
(1)
قال الأزهري: الحدس: التوهم في معاني الكلام والأمور، بلغني عن فلان أمر وأنا أحدس فيه، أي: أقول بالظن والتوهم.
الأمور الوُجْدَانية أنَّا قد نعلمُها مِن الغَيْرِ (1) بالقرائن كجوعِ الجائِع، وفرَحِ الفرِحِ، وغمِّ المغموم، ولكن ذلك بشرطين:
أحدُهما: أن يكونَ ذلك مشاهداً لنا غيرَ غائب عنا، لأنَّ القرائنَ الدالة على ذلك الباطن هي ما يُشَاهَد بالعيان مِن ضعف الجائع، وتقلُّص شفتيه، وتغيرِ لونه ونحوِ ذلك من الأمور التي يُعْلَمُ بالضرورة أنَّه لا يُمكنه التصنعُ فيها، وكذلك سائرُ مَنْ يُعلَمُ حالُه بالقرائن.
ثانيهما: ألا تظهر قرائنُ تُعارِضُ تلك القرائنَ، فإن التعارض يمنع حصولَ العلم الضروري، وهؤلاء المخالفون لنا في الاعتقاداتِ قد ظهرت على عُدُولهم قرائنُ تفيدُ عدمَ التعمُّدِ للباطلِ، ولهم شُبَهٌ عويصةٌ يتبلَّدُ فيها كثيرٌ من الفُطَنَاءِ، فأينَ حصولُ العلم الضروري مع هذا!!
الإشكال الثاني: أن السيِّد -أيده الله- أوهم أن الشيخ أبا الحسين، والرازي يقولان بمثل مقالته مِن الحكم بالتعمد للعناد على من أظهر التأويلَ
(1) نقل الإمام النووي في " تهذيب الأسماء واللغات " 4/ 65 - 66 عن الإمام أبي نزار الحسن بن أبي الحسن النحوي في كتابه " الممسائل السفرية ": منع قوم دخول الألف واللام على " غير " و" كل " و" بعض "، وقالوا: هذه كما لا تتعرف بالإضافة، لا تتعرف بالألف واللام، قال: وعندي أنَّه تدخل اللام على غير وكل وبعض، فيقال: فعل الغير ذلك، والكل خير من البعض، وهذا لأن الألف واللام هنا ليستا للتعريف، ولكنها المعاقبة للإضافة نحو قول الشاعر:
كأن بين فكها والفك
إنما هو: كأن بين فكها وفكها، على أن " غيراً " يتعرف بالإضافة في بعض المواضع، ثم إن الغير يحمل على الضد، والكل يحمل على الجملة، والبعض يحمل على الجزء، فصلح دخول الألف واللام أيضاًً من هذا الوجه والله أعلم.
وقال أبو حيان في " البحر المحيط " 1/ 28: " غير " منفرد مذكر دائماً، وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملاً على اللفظ، وتأنيثه حملاً على المعنى، ومدلوله المخالفة بوجه ما، وأصله الوصف، ويستثنى به، ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى وإدخال " ال " عليه خطأ، ولا يتعرف، وإن أضيف إلى معرفة.
مِن عدول المتأولين بمجرد القرائن، ولم يقولا بما يقتضي ذلك، إنما قالا: إِنَّ مَن عَرَفَ الحقَّ، وعاند فليس بمتأوِّل، وبينَ هذهِ العبارةِ التي نَصَّا عليها، وبينَ قَوْلِ القائل: من أظهر التأويلَ، ودلَّت القرائنُ على أنه متعمِّدٌ حكم عليه بالتعمد، سواء كان عدلاً في مذهبه أوْ لا، فرقٌ عظيم، وبَوْنٌ بعيد!
فإن قلت: إِن (1) لم يقولا بهذا، لم يَبْقَ لكلامهما فائدة، ولا لِمذهبهما ثَمَرَةٌ.
قلتُ: بل ثمرةُ مذهبهما تظهر في صورتين:
إحداهما (2): في مَنْ أقرَّ من المخالفين أنَّه يعلم الحق، ويتعمَّد الباطلَ كما رُويَ هذا عن غيرِ واحد من المخالفين (3).
والأخرى: حيث يكون المتأول غيرَ عدل في مذهبه.
فإن قلت: ما الفرق بين العدلِ وغيرِ العدل؟
قلتُ: الفرقُ أن العدلَ ظهرت عليه قرائنُ تدل على عدم العمد، وهي تَحَمُّلُهُ لمشاق التكليف، وصبرُه على مجانبة المحرمات وغير ذلك من المحافظة على النوافل، وسائرِ القرائن المرجحة لِظَنٍّ تأوله بحيث لا يَصِحُّ معها العِلْمُ بعناده.
الإشكال الثالث: أن العلمَ بالأمورِ الوُجدانيات المتولِّد عَن القرائنِ مما لا يصح أن يحتج به أحدٌ الخصمين على الآخر، لأن إقامةَ البراهين
(1) في (ج): إنهما.
(2)
في (ب): أحدهما.
(3)
من قوله: أنَّه يعلم
…
إلى هنا ليست في (ج).
عليه غيرُ متصوَّرة ولا معقولة، وليس مما يشتركُ فيه جميعُ العقلاء، فالسيد -أيده الله- غلط في إيراده، لأنَّه إما أن يدعي أنَّ كل عاقل يعلم عناد الأشعرية بالضرورة أو لا، إن لم يدَّع ذلك، لم يصح استدلالهُ على خصمه بأنه يعلم ذلك، لأنَّه ليسَ يَلْزمُ الخصمَ أن يعمل بعلم السَّيِّد أيده الله، فإن ادَّعى السيدُ أن العلمَ بعنادهم مما يشترك فيه العقلاءُ، فهو مردود بوجهين:
الوجه الأول: أنا لا نجِدُ ذلك من أنفسنا، ولا دليلَ للسَّيِّد على ما يَدَّعيهِ علينا من وجدانه في أنفُسنا، فإذا اختلفنا نحن والسيدُ فيما حجبته ضمائرُنا، فنحنُ أعلمُ منه بذلك، وإخبارُنا عن ما في أنفسنا أرجحُ من إخبارِه بغير شك.
الوجه الثاني: أن الظاهرَ من أحوال السَّيِّد أنَّه لا ينسبُ أهل البيت عليهم السلام أو الجماهير منهم إلى العِناد، وجَحْدِ الضرورة، وهم ممن لم يقل بأن الجبرية كفارُ تصريح، لأنهم ما زالوا يمثِّلونَ كفارَ التأويل بالجبرية والمشبهة مِن غير مناكرةٍ في ذلك، وقد نص على ذلك في " اللمع "(1) الذي هو مدْرسُ (2) الزيدية منذ أعصارٍ عديدة.
قال في " اللمع " ما لفظه: وفي تعليق الإفادة: ومن بلغ إلى حد الكفر والفسق متأوِّلاً، فالعلماء مختلفون فيه، والأظهرُ عند أصحابنا أن شهادَته جائزة إلى قوله: وهذا كالخوارج والمجبرة. إِلى قوله: فعلى هذا
(1) في فقه آل البيت لعلي بن الحسين بن يحيى الهادي، المتوفى في عشر السبعين وست مئة تقريباً يوجد الجزء الرابع منه في " المكتبة الغربية " بصنعاء انظر " الفهرس " ص 284، وتراجم الرِّجال ص 24.
(2)
المِدرس كَمِنْبَر: الكتاب.