الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الكفار، وإنما (1) اشترطنا أن يكونَ دليلُك قاطعاً، لأنَّك ادعيتَ أن المسألةَ قطعية، وحَرَّمْتَ الخلافَ على خصمك، وله أن يُنَازِعَك ما لم يكن دليلُك قاطعاً، لأن أقصى ما في الباب أن سؤالَنَا غيرُ راجح ولا ظاهر، لكنه محتمل مرجوح أو مساوٍ، فعليك دفعُ الاحتمال.
الطريق الثانية: سلمنا لك أنَّ النصوص القرآنية لم تدل على أنَّ الفاسق يختصُّ في عُرف أهلِ ذلك الزمان بالكافر، لكن قد حَصَلَ لنا منها ما يقتضي القطعَ بأن العُرف في الفاسق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غيرُ العرف في وقتنا مثل قوله تعالى في الكفار:{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين} [الأعراف: 102]، وقوله تعالى في المشركين:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] ومثل قوله في اليهود: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (2)[المائدة: 59] وقوله فيهم: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] فَهذِهِ النصوص -كما ترى- دالةٌ على أن في الكفار المصرحين من لا يستحِقُّ أن يُسَمَّى فاسقاً، فدلَّ ذلِكَ على أن ثَمَّ عُرفاً في اسم الفاسق غيرَ هذا العرفِ الذي اصطلح عليه المتأخرون، وغير الحقيقة اللغوية.
الإشكالُ الثاني: أنا نقول: قد ورد في اللغة ما يَدُلُّ على أن الفسق تعمدُ المعصية، وأن الفاسقَ المُتَعَمِّدُ
، فبطل احتجاجُ السَّيِّد بالآية على المتأوِّلين، وإنما قلنا: إن ذلك قد ورد في اللغة، لأن الزمخشري قال في تفسير قولِه تعالى:{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} : متمردون خُلَعَاءُ لا مُرُوءَةَ تَزَعُهُم، ولا شمائِل مَرْضِيَّة تردعهم، كما يُوجد ذلك في بعض الكفرة مِن التَّفادِي
(1) في (ج): وإذا.
(2)
من قوله: " ومثل قوله " إلى هنا زيادة من (ب).
عن الكذب، والنَّكْثِ والتَّعفف عما يثْلِمُ العِرضَ، وَيَجُرُّ أُحْدُوثَةَ السوء (1).
فهذا تصريح بتفسير الفاسقين بمن لا يتفادى عن الكذب والنَّكث، وبأنَّهم أهلُ الخلاعة الذين لا مروءة لهم ولا حياء، وهؤلاء مردودون بالإجماع، وإن لم يكن لهم معصيةٌ إلا مجرد الخلاعةِ وقلة الحياء، ولهذا عَدَّ العلماء كثيراً من المباحات التي لا يفعلُها إلا الخلعاءُ من الجرح في العدالة وإن لم يكن فاعلُها يستحقُّ العقاب، لما كانت دالة في العادة على أن فاعلها يجترىءُ على الكَذِبِ والمعاصي.
وقال المؤيَّدُ بالله في " الزيادات " -وقد ذكر قولَ الهادي عليه السلام: مَنْ نكَثَ بَيْعةَ إمَامِهِ طُرِحَتْ شهَادَتُه- نقول: مَنْ أنكر إمامته لأجل الفسوق والتهتك لا لأجل النظر في أمره، والتفكر في أحواله.
وقال المؤيَّد بالله مرةً: لعله -يعني الهادي عليه السلام قال ذلك اجتهاداً، ولكنه يضعفُ عندي إذا كان مستقيمَ الطريقة في سائر أحواله، فإن عُرِفَ منه الفسوقُ بما يقوله، فإني لا أقبلها. انتهي كلامُه عليه السلام.
وهو ظاهرٌ في أنَّه أراد بالفسوقِ تَعَمُّدَ المعصية، وإلا فالنَّاكث لبيعة إمامِ الحق فاسقٌ في العرف المتأخر، سواء كان متأولاً أو متعمداً.
وقال عبدُ الصمد في تفسير هذه الآية: وسمَّى الله الوليدَ فاسقاً، لكذبه الذي وَقَعَ به الإغراء.
وقال القرطبي في هذه الآية في تفسيره: وسُمِّي الوَلِيدُ فاسقاً، أي
(1)" الكشاف " 2/ 176.
كاذباً. وقال العلماء (1): الفاسقُ: الكذَّاب. وقيل: الذي لا يستحي من الله.
وقال الزمخشري في موضعٍ آخر: والمرادُ بالفسق: التمرُّدُ والعُتُوُّ.
وقال في " الضياء "(2): العتو: هو الاستكبارُ، يقال عتا عُتُوّاً: إذا استكبر وعصى.
وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه فسر الكبْر بغَمْصِ الناس وَبَطرِ الحق (3)، ولا شكَّ أن هذا التفسير النبوي يَدُلُّ على أن بَطَرَ الحق: هو دفعُه على جهة التعمد والأنَفَةِ من القول به (4) لأنَّه لا مناسبة بين الكِبْرِ والجهل بالحق من غير تعمُّدٍ لدفعه، ولا أنفةٍ من قبوله، ومنه حديثُ حُذَيْفَةَ قال في قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر} : إنَّه ما بقي مِنْهُم إِلَاّ ثلاثة، ولا مِنَ المُنَافقِينَ إلا أرْبَعَة، فقال أعرابي: إنَّكُمْ -أصْحَابَ مُحَمَّدٍ-
(1) النص " تفسير القرطبي " 16/ 311 - 312: قال ابن زيد، ومقاتل، وسهل بن عبد الله: الفاسق: الكذاب، وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب، وقال ابن طاهر: الذي لا يستحيي من الله.
(2)
اسمه الكامل " ضياء الحلوم في مختصر شمس العلوم " لمؤلفه محمد بن نشوان بن سعيد الحميري اليمني المتوفى سنة (610) هـ: وهو اختصار لكتاب والده نشوان بن سعيد المسمى " شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم " وقد طبع منه جزءان. وقد رتبه مؤلفه على حروف المعجم، وجعل لكل حرف من حروف المعجم كتاباً، ثم جعل له، ولكل حرف معه من حروف المعجم باباً، ثم جعل كل باب من تلك الأبواب شطرين أحدهما للأسماء والآخر للأفعال، مقدماً الأصلي على المزيد، مبتدئاً في أول كل كتاب بالمضاعف، جاعلاً لكل كلمة من الأسماء والأفعال وزناً ومثالاً، مرتباً الكلمات في كل وزن، ومشيراً إلى حرفها الأخير. ولم يغير ولده في المختصر ترتيبه ووضعه، وإنما حذف منه كل ما هو خارج عن موضوع اللغة مما كان يذكره والده استطراداً.
(3)
حديث صحيح وقد تقدم تخريجه في الصفحة 129.
(4)
(به): سقطت من (ج).
تُخْبِرُونَنَا (1) فلا نَدْرِي، فما بالُ هؤلاء الذين يَبْقرونَ (2) بُيُوتَنَا، ويسرِقُون أعْلاقَنَا (3) قال: أولئِك الفساق (4) -أجَلْ- لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلا أربعةٌ أحدهم شيخ كبير لو شَرِبَ المَاءَ البَارِدَ لما وَجَدَ بَرْدَهُ (5). رواه البخاري (6) من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب، عن حُذيفة في تفسير قولِه تعالى:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12].
فدلَّ ذلك على أن الفسقَ في اللغة، هو التمردُ والتكبر، والأنَفَة من قبول الحق، والتعمد للباطل، وذلك لا يتناولُ المتأوِّلَ المتديِّنَ المتواضِعَ المتخَشِّعَ الذي يَغْلِبُ على الظن صدقه، أقصى ما في الباب أن هذا السؤال غيرُ راجح ولا ظاهر، لكنه محتمل، إما مساوٍ، وإما مرجوح، وعليك إبطالُ ذلك، ورفعُ الاحتمال بدليلٍ قاطع، لأنَّك ادَّعَيْتَ أن المسألة قطعية، ومنعت المنازعةَ فيها.
الإِشكال الثالث: أنَّ المتأوِّلين كانوا غيرَ موجودين في ذلك الزمان، وما كان غيرَ موجودٍ لم يسبق الفهمُ إلى إرادته، وما لم يسبق الفهمُ إلى إرادته لندوره، وقلةِ حضوره في الذهن، فقد اختلف العلماءُ هل يتناولُه العمومُ مع وجوده، ومع صريحِ العموم؟ كيف، وهو في مسألتنا غيرُ
(1) زاد الإسماعيلي في روايته: " عن أشياء ".
(2)
بالباء الموحدة والقاف من " البقر " وهو الشق، قال الخطابي: أي ينقبون، قال: والبقر أكثر ما يكون في الشجر والخشب، وقال ابن الجوزي: معناه: يفتحون، يقال: بقرت الشيء: إذا فتحته، ويقال: ينقرون بالنون بدل الباء.
(3)
جمع علق: وهو الشيء النفيس، سمي بذلك لتعلق القلب به، والمعنى يسرقون نفائس أموالنا.
(4)
أي: الذين يبقرون ويسرقون: لا الكفار والمنافقون.
(5)
أي: لذهاب شهوته، وفساد معدته، فلا يفرق بين الألوان والطعوم.
(6)
برقم (4658) في التفسير، وأخرجه النسائي في التفسير من الكبرى كما في " تحفة الأشراف " 3/ 33، ونسبة الحافظ في " الفتح " 8/ 323 لابن مردويه.
موجود بالمرة، والعمومُ غيرُ صريح، فإن السَّيِّد أقر أن الآيةَ في معنى العموم.
ومثالُ ذلك أن الرجلَ لو قال لغيره: وكَّلْتُكَ أن تشتري لحماً بهذه الدراهمِ، وكان العُرف السابقُ إلى الأفهام في بلدهم أن المرادَ باللحم لحمُ البقر والغنم ونحوها من الأنعام، فشرى له لحمَ حوتٍ أو صيدٍ أو طيرٍ، أو لحمَ ضَبُعٍ أو ثعلبٍ إن كانوا يَرَوْنَ جَوازَ ذلك وغير ذلك، وكذا لو وَكَّلَه أن يشتريَ له حَبّاً والعُرَف معهم في الحَبِّ للبُر والشعير، فاشترى له دُخناً أو نحوه، وكذا لو باعَ منه ثوبَه بمدٍّ أو صاع، ولم يُعين أيَّ نوع، انصرف إلى العُرف، كما في زماننا: لو أقر بزبدي (1) لم يكن زبدي حلبةٍ ولا ملح ولا حِلْف (2) ولا نحو ذلك، إذا تقرر هذا، فقد قال بعضُ العلماء: إن لفظَ النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لا يتناولُ إلا الموجوداتِ المستعملاتِ، وكأن هذا ذهب إلى أن استعمالَ اللفظ في الموجود المستعمل كثيراً قد صار عرفاً، وطَرَّد الباب وهذا صحيح إذا صحت هذه القاعدة، فإنه لا خلاف أن الشيء -إذا كان له حقيقتان عُرفية ولُغوية- إن العُرفية هي المعمولُ عليها، المصروفُ إليها كلامُ الله تعالى، وكلام رسوله عليه السلام.
إذا تَقرَّرَ هذا فاعلم أن المتأوِّلين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الفُساقِ كلحم الصيد والطيرِ بالنظر إلى اللحوم المستعملة، بل لحمُ الصيد والطير أعرفُ في زماننا، لأنَّه موجود كثير، ولكن استعمال غيره أكثرُ، فكان حملُ اللفظ على الأكثر هو الواجب، فكيف والمتأوِّل معدوم في زمانه صلى الله عليه وسلم وقتَ نزولِ هذه الآية؟ أليس يكونُ حملُ اللفظ على الموجود دونَ
(1) الزبدي: مكيال كان مستعملاً في عصر الدولة الرسولية.
(2)
والحلف: نوع من التوابل.