الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه ليس يُسمَّى في اللغة ظاهراً، فلا يكون في الحديث حجة. والله أعلم.
و
ثانيها: ترجيحُ الآيةِ على الحديث
، ولا معنى لذلك، لأنَّه لم يَصِحَّ الحديثُ في نفسه، ولا صح (1) الاستدلالُ به على تسليم ثبوته، والترجيحُ فرعٌ على الصحة، وأما احتجاجُه بالآية، فهو لا يصح لوجهين:
أحدهما: أنَّها لا تفيد المنعَ مِن قبول المتأولين، وقد مر تقريرُه، وبيانُ ما يَرِدُ على الاحتجاج بها من الإشكالات.
وثانيهما: أنا لو قدرنا صحةَ الاحتجاج بها بالنظر إلى عمومها، فإن الاستدلالَ به ممنوع، لوجود المخصص، والمعارِض الراجح، وبيانُهما يأتي في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى.
و
ثالثها: القدح في صحة الإِجماع بوجهين
(2):
الوجه الأولُ: قال: لعل بعضَهم لم يقبل، يعني لعلَّ بعضَ الصحابة لم يقبل المتأولين فلم يحصل إجماعٌ.
والجوابُ: أنَّه قد ثبت الإجماعُ برواية جماعةٍ من أئمة أهلِ البيت عليهم السلام وشيعتِهم، وكثيرٍ من العُلماء والثقات المطلعين على أخبار الصحابة، وأحوالِ السلف، وسيأتي بيان عشر طرق لهذا الإجماع، وموضعُ ذلك الفصل الثاني.
وأما ردُّه لرواية الثقات من الأئمةِ والعلماء بقوله: لعلَّ بعضَ الصحابة
(1) في (ب): ولا يصح.
(2)
في (ب) و (ش): لوجهين.
لم يقبل المتأولين لمثل هذا الكلامِ، فلا يصدر عن محصل، فإنَّ هذا مجرد تَرَجٍّ (1) صَدَرَ مِن صاحبه بعد نقلِ أهلِ العدالة والأمانة والاطلاع على العلوم والتواريخ، وأقوال الخلَف والسَّلَفِ للإِجماع، وجزمهم على أنَّهم قد علموا انعقادَه وإخبارهم لنا أنهم أخبروا بذلك عن علم يقين، لا عن مجازفةٍ وتبخيتٍ (2).
وحاصل هذا الاعتراضِ إن صاحبَه قال: لعل راوي الإجماعِ غيرُ صادق فيما رواه، ولا متحقق لما ادَّعاه، ولو كان مثلُ هذا يقدح في روايةِ الثقات، لبطلت الرواياتُ، فما مِن رواية تصدُرُ عن الثقة في الإجماع، أو في الحديث، أو في الشهادة إلا وهو يُمْكِنُ أن يُقَالَ لعل راويَها وَهِمَ فيها، وقالها بغيرِ علم يقين، وأصدرها إما بمجرد اعتقاد الصحة أو ظنها، أو نحو ذلك، مما لا يُلْتَفَتُ إليه من تطريق الشَّكّ إلى وهم الثقات بمجرد كونه يجوز على البشر، ولو كانت روايةُ العدول العلماء تُعارَضُ بمجردِ توخِّي كذبهم، وتمني صدور الدعوى منهم على سبيلِ التبخيت مِن غير تحقيق، لبطلت طرقُ النقل، وتعطلت فوائدُ الرواية.
الوجه الثاني: مما قدح به في صحة الإِجماعِ قال: سلمنا الإجماعَ، فلا نُسَلِّمُ أنَّ علةَ القبول واحدة. هذا كلام ابن الحاجب وقد أعاد السَّيِّد هذا الاعتراضَ، ولم يَزِدْ على ما أورده ابنُ الحاجب إلا أنَّه وسَّعَ دائرةَ العبارة، ونقله إلى الكلام في الخارجين على علي عليه السلام.
والجوابُ عنه: أن هذا الاعتراض ضعيف، لأنَّه لو كان حراماً -وقد
(1) في (ب) فوق كلمة " ترج ": قدح (خ).
(2)
من البخت: وهو الجد والحظ.
أجمعوا على جوازه- لكانُوا قد أجمعوا على ضلالة، وسواء اتَّفقُوا في العلة، أو اختلفوا فيها، فالمتفق عليه هو القبول للمتأولين، والخلافُ إنما وقع في العِلة، كما لو أجمعوا على جوازِ قتل رجل، واختلفوا في العِلة، فمنهم من قال: يجوز قتلُه، لأنَّه مرتد، ومنهم من قال: لأنَّه مفسد في الأرض، ومنهم مَنْ قال: لأنه قتل نفساً بغير نفس، فإنهم متى أجمعوا على جواز قتله، كان قتلُه حلالاً، سواء كان بالقصاص، أو الفساد في الأرض، أو الردة، أو الحد مثل ما أجمعوا على أن المجتهدَ غيرُ آثمٍ، ثم اختلفوا في العِلة، فمنهم من قال: لأنَّه مصيب، ومنهم من قال: لأنَّه معفوٌّ عنه وإن كان مخطئاً مع أن القائلينَ بالتصويب لو أقرُّوا بالخطأ، لم يُساعدوا إلى القول بالعفو، لأنَّه عند المعتزلة إغراءٌ بالقبيح، ولأن مشروعية الخطأ قبيحةٌ عقلاً، والاجتهاد مشروعٌ سمعاً، فلم يكن اختلافُهم في العلة المؤدي إلى الاختلاف في بيانِ ما أجمعوا عليه قادحاً في صحة الاحتجاج بإجماعهم حين إجمعوا إجماعاً متفرّعاً عن تلك العلة المختلَفِ فيها. وبيانُ هذه العلة أنَّه لو ثبت في نفس الأمرِ أن قبولَ المتأول حرام، وأجمعوا على قبوله، ولكن اختلفوا في علة القبول، لكانوا قد أجمعوا على قبول الباطل، واختلفوا في علة قبوله، وهذا غيرُ جائز على الأمة.
فإن قلتَ: من لم يعلم الفسق منهم، فهو معذور.
قلت: معنى كونه معذوراً أنَّه لا عقابَ عليه وإن أخطأ في نفس الأمر، وهذا إنما يقال به في حقِّ المجتهد على تقدير عدم تصويبِ الجميع أيضاً، وأما الأمَّةُ، فليس يجوز أن تُخطىء في نفس الأمر.
فإن قلت: لو علموا أنَّه فاسقُ تأويلٍ لم يُجمعوا.
قلت: لو جاز انعقادُ الإِجماع على قاعدة مجهولة لو علموا بها لم
يجمعوا عليها، أمكن تقديرُ مثل ذلك في كل إجماع، ولم يصح إجماع أبداً.
فإن قلتَ: مرادي بكونه معذوراً أنَّه بنى على ظاهر العدالة، ولم يتحقق ما يرفعُها، فهو مصيبٌ مستحقٌّ للثواب، لا مخطىء معفو عنه، وذلك كما لو قبلت الأمةُ مَنْ ظاهِرُهُ العدالةُ، وهو كاذب في نفس الأمر.
قلتُ: الجوابُ من وجهين.
الوجه الأول: الفرقُ بينَ الصورتين، فإنهما ليستا سواءً، لأن قبولهم لمن حارب عثمان، ومن حارب عليّاً عليه السلام بعدَ علمهم الجميع بأنَّه حارب وفسق، فمتى كانت روايتُهم مردودة، لم يجز على الأمة قبولُها بعدَ العلم بالموجب لردها لا ظاهراً ولا باطناً، وإلا لَزِمَ أن يجوزَ استنادُ الأمة إلى دليل باطل غير صحيح بعدَ العلم بالسبب الذي أوجب بطلانه، وهذا لا نعلم أحداً قال به ممن يقول: بأن الإجماعَ حُجَّةٌ مطلقاً، وإنما تكونُ الرواية عنهم مثل الرواية عمن ظاهرُه العدالة لو أمكن القولُ بأن جماعةً من الصحابة لم يعلموا بوقوعِ الفتن، ولا بدخولِ الداخلين فيها، فقبلوهم مع الجهل بذلك.
الوجه الثاني: أن العلماءَ مختلفون في المسألة المقيسِ عليها وهي: هل يجوزُ قبولُ الأمة لخبرٍ ظاهرُه الصحة وهو في الباطن باطل؟ والمذهبُ أنَّ ذلك لا يجوز، ذكره الإِمامُ المنصورُ بالله في كتاب " الصفوة ".
وقال الإمام يحيى بنُ حمزة في " المعيار": خبر الأمة يُفيدُ العلمَ يعني لو قدرنا أنهم نَقَصُوا عن عددِ التواترِ، أو أخبروا كلُّهم، وكان عددهم بالغاً حدَّ التواتر، ولكن في الوسط دونَ الطرف الذي قبلَه.
وإنما قلنا: إنَّه أراد ذلك، لأنَّه جعله قسماً غيرَ المتواتر، وهذا يُشبِهُ كلامَ المنصور بالله في مسألتنا، وهو قوي عند جماعة، لأنَّه يلزم من تجويز ذلك استنادُ الأمة إلى حُجَّةٍ باطلة في نفس الأمر، والأمة معصومةٌ من الخطأ في نفس الأمر، فلهذا كان الإجماعُ حجة، وأما لو لم تكن معصومة إلا من الخطأ في الظاهر، فذلك لا يُوجبُ أن إجماعها حجة، لأن ذلك حكم المجتهد عند المعتزلةِ والشيعةِ غالباً متى وَفَّى الاجتهادَ حَقَّهُ، فكما إنَّه لا يكون قولُ المجتهد حجةً لكونه مصيباً، فكذلك كان يلزم أن لا يكون إِجماعُ الأمة حجةً لكونهم مصيبين.
فإن قلتَ: إنما يُقال: المجتهدُ مصيب لما أراد اللهُ منه.
قلت: وكذلك يلزمُ أن يقال: إِن أهل العصر إذا أجمعوا فإنما أصابوا مرادَ الله منهم، فثبت أن الفرقَ بينَ إصابةِ الأمة وإصابة المجتهد أنَّ المجتهدَ مصيب لما أراد الله منه في الظاهر، ويجوزُ أن يتعلَّق مرادُ الله من غيره بغير ما أراد منه لانكشاف أمرٍ خَفِيَ عليه، وبان لغيره، فلخفائه عليه لم يتَعَبَّدْ به، ولبيانه لغيره تَعَبَّدَ به. وأما الأمةُ، فإنها معصومة باطناً وظاهراً قطعاً بحيث نَعلم أنَّه ليس لله مرادٌ في خلاف قولها، بل نعلمُ أن خلافَ قولها حرام، ونعلم أنَّه لم يخفَ عليهم دليل بحيث إنَّه إذا ظهر لغيرهم تعبّد ذلك الغير بالعمل به، وقد احتج العلماء على (1) صحةِ أحاديثَ بتلقي الأُمَّةِ لها بالقبول (2) بناءً منهم على ما ذكرت مِنْ عِصمة الأُمَّة عن تلقي الباطل في
(1) في (ب): في.
(2)
نقل الحافظ السيوطي في " تدريب الراوي " ص 67 في التنبيه الخامس عند قوله: قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح قول ابن عبد البر في "الاستذكار" لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر " هو الطهور ماؤه ": وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده، لكن الحديث عندي صحيح، لأن =
نفس الأمر بالقبول والاعتقاد لصحته، وكذلك تمسَّكَ أصحابُنا به في بعض الأحاديث الدالةِ على صحة إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام بتلقي
= العلماء تلقوه بالقبول، وقوله في " التمهيد " بعد إيراده حديث جابر مرفوعاً "الدينار أربعة وعشرون قيراطاً": وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد فيه.
وقال الحافظ ابن حجر في " النكت " 1/ 494 - 495: من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا -يعني الحافظ العراقي- أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث فإنه يقبل حتى يجب العمل به، وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول، ومن أمثلته قول الشافعي رضي الله عنه: وما قلت من أنَّه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم خلافاً، وقال في حديث:" لا وصية لوارث ": لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية للوارث.
وقال الحافظ السيوطي في " التعقبات على الموضوعات " ص 12 بعد أن ذكر حديث حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر ": أخرجه الترمذي، وقال: العمل على هذا عند أهل العلم. فأشار بذلك إلى أن الحديث اعتضد بقول أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله.
وقال الحافظ السخاوي في " فتح المغيث " ص 120 - 121: وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى إنَّه ينزل منزلة المتواتر في أنَّه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى في حديث " لا وصية لوارث " إنَّه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية.
وقال العلامة الكمال بن الهمام في " فتح القدير " 3/ 143: ومما يصحح الحديث أيضاً عمل العلماء على وفقه، وقاله الترمذي عقيب روايته حديث " طلاق الأمة ثنتان
…
": حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وفي سنن الدارقطني 4/ 40: قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده.
وذكر القاضي أبو يعلى الفراء في " العدة " 3/ 938 - 939: عن مهنا: قال أحمد: الناسُ كلهم أكفاء إلا الحائك والحجام، والكسَّاح. فقيل له: تأخذ بحديث " كُلُّ الناس أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً " وأنت تُضَعِّفهُ؟ فقال: إنما نضعف إسناده لكن العمل عليه.
وقال مهنا أيضاًً: سألتُ أحمد رحمه الله عن حديث معمرٍ، عن الزهري، عن سالم، عن ابنِ عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة. قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول عن معمر، عن الزهري مرسلاً.
الأمَة لها بالقبول.
فإِن قلتَ: فقد جاز على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَحْكُمَ في ما بين الناس، وإن كان خطأ في الباطن، ألا ترى إلى قولِه عليه السلام:" لعَلَّ بَعْضَكُم أنْ يَكونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بعْضٍ، فَإذا حَكَمْت لأِحَدِكم بِمَالِ أخِيه فَإنَّما أَقْطَع لهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ "(1) فإذا جاز ذلك على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأولى وأحرى أن يجوزَ على الأمة.
قلت: الجوابُ من وجهين.
الأول: معارضة وهي أن نقولَ: يلزم على هذا تجويزُ الخطأ في التحليلِ والتحريمِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ممنوع بالإجماعِ، سواء قلنا: إنَّه متعبّد بالاجتهاد أو لا.
الثاني: تحقيقٌ، وهو أن نقول: فرق بينَ الصورتين، فإن الدعاوي في الحقوق لا تزالُ مستمرةً في زمانه عليه السلام وبعدَه، وقد عَلِمَ الله تعالى أن الوحي غيرُ مستمر بعدَه عليه السلام، ولم يكن لنا مصلحة في بناء الحكم بينَ الناسِ على العلم واليقين، فشرع تعالى الرجوعَ فيها إلى الظواهر من الشهادات والبيناتِ، وجعل الحكمَ فيها مستوياً في زمانه عليه السلام وفيما بعده من الأزمان؛ إذ يمتنِعُ نزولُ الوحي كلما ادَّعى مدعٍ بعدَه عليه السلام، ولم تعلق بذلك المصلحة في زمانه عليه السلام، وكذلك سائرُ الأمور المتكررة لم يشرع فيها العملُ باليقين، والرجوع إلى نصوص الشريعة كرؤية الهلال في شهر رمضان، وأشهرِ الحج، ودخول أوقات الصلوات، فإن ذلك لما كان مستمرّاً جعل عليه أماراتٍ ظنية، وجعل
(1) متفق عليه، وقد تقدم في الصفحة 291.
تكليفَه عليه السلام في ذلك كتكليف أُمته من غيرِ فرق.
وأما الشرائعُ التي تثبُتُ بالوحي، وتقرَّرَتْ قواعدُها، فلا تكونُ إلا بالوحي في حقِّه عليه السلام، وباتباع الأدلةِ الصحيحة التي لا باطلَ فيها، ولا في قواعدها باطناً ولا ظاهراً في حقِّ أمته المعصومة، والله عز وجل أعلَمُ.
وتلخيص المسألة: هل يجوزُ على المعصوم أن يخطىء ظنُّهُ؟ قال ابن الصلاح: لا يجوزُ، وسبقه إلى ذلك محمدُ بنُ طاهر المقدسي، وأبو نصر عبدُ الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف.
قال النواوي: وخالف ابنَ الصلاحَ المحققون والأكثرون، فقالوا: يُفِيدُ الظن ما لم يتواتر.
قلت: مِن أدلة الجمهور {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} [الأنبياء: 79] وحديثُ " إِنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعةً مِنْ نَارٍ "، وحديثُ " حكم داود بينَ المرأتين في الولد الذي تنازعاه، فإنه حَكَمَ به للكُبرى، ثم تحاكما إلى سُليمان، فحكم بقطعه نصفين بينهما، فقالت الصُّغرى: لا، فحكم به لها "(1).
ويُمْكنُ الجوابُ عن هذا كله أن الحديثَ وارد في القضاء بينَ الناس، والآية محتملة لذلك غيرُ ظاهرة في خلافه، وقد بينا الفرقَ بينَ القضاء وغيره، ولو جاز تخطئةُ المعصومِ في كل ظنٍّ، لزم أن لا يكون
(1) أخرجه أحمد 2/ 322 و340، والبخاري (3427) و (6769)، ومسلم (1720) والنسائي 8/ 235 من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كانت أمرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى ".
الإجماعُ حجةً في المسائل الظنية، وهو إلزامُ حسن فتأمَّلْهُ، ويمكن التزامه، لأن الأمة إنما عُصِمتْ عن الضلالة وهي منتفية على قول المصوِّبَةِ عُرفاً ولغة، وعلى قولِ المخطئة عرفاً، والعرف مُقدَّمٌ على اللغة إذا اختلفا.
وأما ما تقدم مِن الفرق بينَ القضاء من النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين الناس وبينَ التحليل والتحريم، فالجوابُ عنه أنَّه مما لا يمنع مِن تجويز الخطأ في ظَنِّ المعصوم، بل هو مما يَدُلُّ على جوازه، لأنَّه عليه السلام إنما لم يجز أن يُخطِىءَ في التبليغ، لأنَّه لم يستند فيه إلى الظن.
قولهم: يجوز أن يكونَ متعبداً بالاجتهاد.
قلنا: هذا التجويز لا ينتهض حجةً، فإن انتهض، فحجة ظنية مختصة به، وبمن يذهبُ إلى القول بذلك، والمقطوعُ به هو إصابة ظنه على تقدير اجتهاده، لكنه لا يقطعُ باجتهاده، وعلى تقدير القطع به، فليس معللاً بعصمته، إذ الخطأُ في المعصية لا يُناقِضُ العصمةَ إجماعاً كيف فيما لا يُسمى معصيةً؟ فمن أين يلزمُ إصابةُ ظَنِّ كل معصومٍ، وأحسنُ ما يُجابُ به عن هذا أنَّه لا مانع مِن القول بأنا متعبدون بمتابعة الأمة، وملازمةِ الجماعة وإن جوَّزنا عليهم الخطأَ في الظنيات، كما أنَّا متعبدون بالعمل بخبر الثقة وإن جوزنا ذلك عليه، وممن قال بذلك عبدُ الله بن زيد، ويدل على هذا ما ورد من الأمر المطلق بملازمة الجماعة مثل " يَدُ اللهِ عَلَى الجَمَاعَةِ، ومنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ " رواه الترمذي (1) عن ابن عمر.
(1) رقم (2167) وفي سنده سليمان بن سفيان المدني وهو ضعيف، وهو في " المستدرك " 1/ 115 - 116 و" السنة " لابن أبي عاصم (80)، و" الأسماء والصفات " للبيهقي ص 322.
والذي يجمع بينَ هذه الأدلة أن متابعةَ الأمة واجبةٌ في الأصول والفروع، ودليلهم الظني في الفروع لا يَخْرُجُ عن كونه ظنيّاً، فيكون متعلقَ الظن دليلُ الحكم وطريقُه، ومتعلقَ العلم وجوبُ العمل، ولا تناقضَ في ذلك، وقد قال الفقهاء بمثل ذلك في تسمية الفقه علماً، وقالوا: إنَّ الظن في طريقه، ومتى حصل، عَلِمَ المجتهدُ وجوبَ اتباع ظَنِّه، والله سبحانه أعلم.
وحاصِلُ المسألة: أنَّه يجوزُ الخطأُ في ظنِّ المعصوم لمطلوبه، لا لمطلوبِ الله منه، ولا يُناقِضُ العصمةَ بدليل العقل والسمع، أما العقل، فلأن معنى الظن يستلزِمُ تجويزَ الخطأ، فلو امتنعَ الخطأ في ظَنِّ المعصومِ، لم يكن ظنّاً، والفرضُ أنَّه ظن، وأما السمعُ، فلقول يعقوب في قصة يامين:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} [الأنبياء: 79] ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سها في صلاته وهو يظنُّها تامة (1)، ولقوله:" فمَنْ حَكمْتُ لَهُ بِمَالِ أخِيهِ، فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " ولأن هذا بمنزلة الخطأ في رمي الكفار.
قال: وقد ثَبتَ بهذا بطلانُ حجة القابلين لفاسقِ التأويل، وإنما الكلامُ: هل: هذه المسألة قطعية أم لا؟ أعني أنهم لا يقبلون، وعلى طريقةِ القاضي الباقلاني أنها قطعية، لأن القطعي عنده ما كان ظنُّ صحته
= وأخرجه الطبراني في " الكبير "(13623) من طريق آخر صحيح عن ابن عمر. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي (2166)، وسنده قوي.
(1)
أخرجه من حديث أبي هريرة، مالك في " الموطأ " 1/ 93 - 94، والبخاري (482) و (714) و (715) و (1227) و (1228) و (1229) و (6051) و (7250)، ومسلم (573)، وأبو داود (1008) و (1009) و (1010) و (1011) و (1012)، والنسائي 3/ 30 - 31، والترمذي (394) وانظر رواياته في " جامع الأصول " 5/ 537 - 540 الطبقة الشامية.
أقوى، لأنَّه يجب العملُ بالظن الأقوى قطعاً، فيكون رد روايتِهم مقطوعاً به، ولا يَصِحُّ الاجتهادُ فيه، وهذا صحيحٌ في الأمارة الظاهرة التي تَقَعُ لِكُلِّ أحدٍ عندها الظن، وهذه المسألة من هذا القبيل، فثبت بذلك ما ذكرنا في هذه المسألة.
أقول: يرِدُ على كلامِه -أيَّدَهُ الله- في دعواه أنها قطعية إشكالات:
الإشكال الأول: أن السَّيد -أيده الله- قد سَلَّمَ أن الدليل على ردَّ المتأولين ظني، لكنه ادَّعى أنَّه ظن ظاهر لا يخفي على أحد، وادَّعى أن ما كان هكذا، فهو قطعي فجمع بين الدليل الظني والمدلول القطعي، وهذا لا يصِحُّ، لأن تسليمَك أن الدليل ظني يقتضي قطعاً تجويز أن يكون الحق في المرجوح، وتجويز ذلك يستلزم قطعاً تجويز أن يكونَ على ذلك الحق أمارات راجحة على هذا الأمر المظنون أنَّه حق ولكن المترجح له أن هذا المفروضَ أنه راجح، ما عرف تلك الأماراتِ، ولو عرفها لكانت أرجح عنده.
الإشكال الثاني: أن قولَه: إن رد روايتهم يكون مقطوعاً يستلزم كون الحقيَّة في المظنون الراجح قطعاً، ونفي الحَقِّيَّةِ عن الموهوم المرجوح قطعاً أيضاًً، وهذا يقتضي أن الدليلَ يُفِيدُ العلمَ لا الظن؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ بالعلم أكثر من القطع بأن الحق هو ما ذهبت إليه باطناً وظاهراً، وأن ما ذهب إليه الخصمُ باطلٌ باطناً وظاهراً، ولكن السَّيدَ -أيده الله- أقرَّ أن الدليل أمارة، وأنه يَحْصُلُ عندها الظن، فإن قال: مراده: أن العمل بتلك الأمارة الظاهرة التي لا تخفي على أحد واجب قطعاً على كل أحد، لا أنَّ (1) ما دلت عليه حق قطعاً، فلا يجوز القطعُ بالاعتقاد على حقِّيَّةِ مدلولها،
(1) في (ب): لأن.
ويجب العمل قطعاً بظاهر الظن المستفاد بها.
قلنا: هذا لا يَصحُّ، لأنَّه يستلزم أن يَنْصِب اللهُ على الباطل أمارة ظاهرة لكل أحد، ويوجب على كُلِّ أحد العمل بها، ويترك الحق بغير أمارة، وهذا لا يجوز على الله تعالى، وقد منع العلماء مِن أهون من هذا، فقالوا في الدليل على أن كل مجتهد مصيب: إنَّه لو لم يكن كذلك لكان قد كلَّفَهُ اللهُ بالحق، ولم يَنْصِبْ عليه دليلاً، وذلك يستلزم التكليف بما لا يَعْلَمُ، وهو لا يجوز على الله، أو كلَّفه بالخطأ الذي أدى إليه نظرُهُ، ولا يجوز على الله تعالى التكليفُ بالخطأ، هذا على القول بأن الحقَّ مع واحد، وعلى القول بتصويب الجميع يلزم تجويز أن يتْرُكَ الله الحق بغير دلالة ولا أمارة، ولا يُكلف به أحداً، وهذا يناقض كونه حقاً، والفرض أنه حق هذا خُلف.
الإشكال الثالث: أن نقول: هل كونُهُ راجحاً معلومٌ بالضرورة أو بالدلالة؟ وكلاهما باطل، فما استلزمهما، فهو باطل، وبيانُ الملازمة ظاهر، وبيان بطلان القسمين أن نقول: لا يجوز أن يكونَ رجحانُ ردِّ المتأولين معلوماً بالضرورة، لأن العقلاء مشتركون في العلم بالضروريات، والمجيزون لقبول المتأولين خلقٌ كثير من الأئمة والعلماء والفقهاء لا يجوز تواطُؤُهُم على محض البَهْتِ، وصريحِ المعاندة، وهم منكرون للعلم برُجحان ردِّ المتأولين، فثبت أنَّه لو كان ضرورياًً، لعلموه، لكنه قد ثبت أنهم لم يعلموه، فثبت أنَّه غيرُ ضروري، وأما أنَّه لا يجوز أن يكون الرجحان معلوماً بالدلالة، فلأنَّ الرجحان هو الظن، وثبوت الظن في القلوب، وانتفاؤه عنها من الأمور الوجدانية كالجوع والألم وغير ذلك، وليس في الأدلة ما يُوجب العلمَ الاستدلالي بالأمور الوجدانية، وإنما يصِحُّ