الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن ذلك يلزمهم بالاتفاق، وإنما تَصِحُّ تهمتُهم بالكذب لأجل أن ذلك مذهبُهم، فإن قال السيد: إن ذلك مذهبُهم، لم يتِمَّ له ذلك لإِمور:
أحدها: أنَّه معلومٌ ضرورة أنهم لا يذهبون إلى أنَّه لا فائدة في الطاعة.
الثاني: ما قدمنا في الوجه الأوَّل مِن سؤالهم، والنظر في كتبهم، فنجد ذلك على خلاف ما ذكره السيد، فنعلم أن تلك الدعوى عليهم باطلة.
الثالث: أنا قد علمنا بالضرورة أنَّهم يفعلون كثيراً من الطاعات الشاقة، ومذهبُ المعتزلة والأشعرية وسائر العقلاء أن من اعتقد في فعل أنه لا فائدَة فيه ولم يكن له شهوةٌ لم يفعله ألبتة، وإنما اختلف الناسُ: هل يكون تركُهُ واجباً ضرورة، أو مستمراً غير واجب؟ فالمعتزلة ذهبت إلى أنَّه مستمر، والأشعرية ذهبت إلى استحالة فعله. فحين قال السيد: إنَّهم يدهبون إلى أنه لا فائدةَ في الطاعة لا تخلو من أحد وجهين، إما أن يجمع إلى ذلك دعوى أنه لا يَصْدُرُ منهم طاعة ألبتة، وأنهم يقطعون الصلواتِ، وُيفطرون رمضان، ولا يُوجد فيهم مَنْ يصومُ، ولا يُصلي، ولا يَحُجُّ، ولا يتلو القرآنَ، فهذه سَفْسَطَةٌ محققة، وإما أن تقول: إنهم يفعلون هذه الأشياء بغيرِ داع ألبتة، فهذا خلافٌ منه لجميع العقلاءِ، ويلزمه أيضاًً أن يجوز على الله أن يفعل القبائحَ لا لداعٍ ولا لحاجةٍ، بل لأنَّه قادر على ذلك لا غير، كما يعرف أنَّ ذلك لازم من القول عند أهل المعرفة بالكلام.
الوجه الثالث: أنهم لو ذهبوا
إلى أنَّه يجوز على الله أن يُعَذِّبَ رسول الله وسائرَ الأنبياء والملائكة، لكان كُفْرُهُمْ معلوماً بالضرورة من
الدين، ولو كان كذلك، لكان المنكرُ له، أو الشاكُّ فيه كافراً بالضرورة من الدين، وكان يلزمه -أيَّده الله- أن يكونَ السَّيِّدُ الإِمام المؤيَّد بالله كافراً بالضرورة، ويلزمه أن يكونَ كفرُه عليه السلام -وَصَانَهُ الله عن ذلك- مثلَ كفرِ عبدة الأوثان والصُّلبان والنيران، وكذلك سائرُ مَنْ شَكَّ في كفرهم من العِترة والعلماء، وكيف يظن السيد أن المؤيَّدَ بالله شكَّ في كفر مَنْ جَوَّزَ أن يكون أبو جهل صاحبَ الشفاعة يومَ القيامة، وجوز أنَّ سيِّدَ الأولين والآخِرِين في أسفل درجات جهنم، وكيف تجاسر السيدُ [أن] يَنْسُبَ إلى الرازي، والغزالي، والنواوي وأمثالهم أنهم يُجوِّزون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكونُ كالِحَ الوجه يومَ القيامة بِلَفَحَات الجحيم، ومُشَوَّه الخلق في دركات النار بالعذاب الأليم، أما بقي في السَّيِّد ملتفتٌ إلى الحياء بمرة، أليس يعلمُ تعظيمَهم للشعائِرِ النبوية، وحنينَهم إلى التربة المحمدية، كم باكٍ منهم شوقاً إليه، ومحبةً له، وتولهاً به، راجياً لشفاعته، وأنتَ مترفِّهٌ في بيتك ومسجدك تزعم أنَّه يجوز عندهم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مِن المعذبين يومَ الدين، والمطرودين عن رحمة رب العالمين، لا والله، بل هو عندهم سيدُ المرسلين، وخيرُ خلق الله أجمعين، وشفيعُ المذنبين، فعُدْ عن الخبطِ والتخليط، وخلطِ أهل مِلَّة الإسلامِ بالمصرحين من الملاحدة الطَّغَام، وذُمَّهم إن شئتَ بمالهم مِن الضلالاتِ التي ارتكبوها، والجهالاتِ التي قالوها، ولا حَرَجَ عليك، ولا اعتراض لك.
قولُه: وأيضاًً فعندهم أن أفعالهم من الله تعالى، فالإثابةُ عليها والعقابُ لا معنى له من تلك الطريقة الغِلاطية، لم يخرج منها، بل استمرَّ على التمسك بعُروتها، وأَصَرَّ على إيهام حَقِّيَّتها (1) وقد ترك الاستنتاجَ من
(1) في (ب): حقيقتها.
هذا البرهان الغِلاطي، لأن النتيجةَ معلومة متى صَحَّت هذه المقدماتُ الموهومة، وكلامُهُ هذا يشتمِلُ على حقٍّ وباطلٍ فلم ينتج الحق، وذلك أن قولَه: إن أفعالَهم مِن اللهِ تعالى صحيحٌ، وكلامٌ صادق، لكنه لما لم ينتج له المقصود، ضمَّ إليه الباطلَ طمعاً في أنَّه ينتج له وهو قوله: فالإِثابة عليها والعقاب لا معنى له. فإنَّ هذه الزيادةَ باطلةٌ، لأنَّه إما أن يدعي أنها مذهبهم فإن ذلك لا يتم لوجوه:
أحدها: أنَّ كتبهم تُكَذِّب هذه الدعوى.
وثانيها: أنَّهم أنفُسَهم يُكذبونها، فهم موجودون لم يُعْدَمُوا، ومقاربون للبلاد لم يَبْعُدُوا.
وثالثها: أن أفعالَهم تكذب هذه الدعوى على ما قررنا في الجواب على دليلِه الأول، لأن العاقلَ وغير العاقل لا يفعلُ الفعلَ إلا لِداعٍ، ومن المعلوم أنَّهم يفعلون الطاعَةَ، وأنه لا داعيَ لهم إلى فعلها إلا اعتقادُ أنَّ اللهَ تعالى يثيب عليها، وُيعاقِب على تركها.
ورابعها: أنَّه يلزمُ مِن نسبة هذا إليهم تكفيرُ مَنْ لم يُكفرهم من الأئمهَ عليهم السلام وسائر علماء الإسلام.
وخامسها: أنَّ بُطلانَ هذه الدعوى عليهم معلوم بالضرورة لِكل من له أدنى تمييزٍ، فلا نُطَوِّلُ في الجليات.
فإن قلتَ: ما مثالُ قياس السَّيِّدِ هذا في الأقيسة الغِلاطية المنطقية؟
قلث: مثالهُ أن يكون الوسط المتكررُ مشتملاً على حقٍّ وباطل يجعلُهُما محمولاً واحداً لموضوع المقدمة الكبرى، كقولك: الإِنسان ضاحِكٌ وصاهل، وكل صاهِل فرس، لينتج أن الإِنسان فرس، ووجه الغِلاط
أنَّك إنما أتيتَ بالحق الذي هو ضاحك لِيصاحب الصاهل، فيقبل الأبلهُ الصاهِل الذي هو باطل لمصاحبة الضاحك الذي هو حق، ولو أنَّه قال: الإنسانُ صاهل كان ذلك لعله مما لا يخفى على الأبله.
فإن قلتَ: وكيف مشابهةُ كلام السَّيِّد لِهذا.
قلت: هو مثلُه حذو النعل بالنعل، لكنه أورده غير مركب تركيبَ البرهان، فإذا ركبتَه انكشف كذلك، فإنَّهُ يجيء في التركيب: كُلُّ جبري، فإنه يقولُ: أفعالُهُ مِن الله، ولا معنى للثواب والعقاب عليها، وكُلُّ من قال ذلك، فهو مجروح غيرُ مقبول في الرواية. فقوله: فهو يقول: أفعالُهُ من الله صادق مثل قولنا: كل إنسان ضاحك، لكنه غيرُ منتج لمقصوده، فضم إليه أن الجبري يقولُ: لا معنى للثواب والعقابِ، لينتج له مقصودُه كما ضم المغالِطُ الصاهل إلى الضاحك لينتج له مقصوده، وصاحب بينَ الحق والباطل، ليخفي الباطل في جنب الحقِّ كما صاحب ذلك بينَ الضاحك والصاهل، ولو أنَّ السَّيِّد قال: إن الجبرية يذهبون إلى أن الله لا يُثيب ولا يُعاقب من غير قوله: إنهم يقولون: أفعالُهُم من الله، لكان ذلك أقربَ إلى أن لا يلتبس بطلانهُ على الأبله عند سماعه.
وفي قوله: فالإثابةُ والعقابُ عليها لا معنى له. مغالطةٌ لطيفة قَلَّ منْ يتنَبَّهُ لها، وذلك أنَّه أراد أن ينسب إليهم أن (1) الله لا يُثيب ولا يُعاقِبُ، فاستكبرها، لأنها تستلزِمُ أن يَنْسِبَ إليهم القولَ بأنه لا جَنَّةَ ولا نار، وأنه لا دَارَ بعدَ هذه الدار، لا للأبرارِ، ولا للفجار، فعَدَلَ عن هذا لبشاعته إلى ما يستلزم معناه، ولا يستغلطه السامعُ في عبارته، ومثل هذا الغِلاط ينكشِفُ بأدنى تأمل، ولا يخفي على مَنْ له أنس بعلوم النظر.
(1) في (ب): القول بأن.
فإن قلت: فما مثالُ قياس السَّيِّدِ الأول في الأقيسة الغِلاطية المركبة بالتراكيب المنطقية، أهو مثلُ هذا القياس الذي فرغنا منه أم هو نوع آخر؟
قلتُ: بل هو نوع آخر، وذلك أن وجهَ المغالطة في هذا الذي فرغنا منه مصاحبةُ الحق والباطل، وتقاربها في اللفظ الطارق لسمع الأبْلَهِ الغافل، وأما ذاك، فهو مِن قبيل الباطل المشابه للحق في بعض الأمور غير المصاحب للحق، وذلك أنَّه نَسَبَ إلى الجبرية أنَّهم يعتَقِدُون أنَّه يجوزُ على الله تعالى العقابُ على الحسن، والثوابُ على القبيح، ونسبة هذا إلى اعتقادهم باطلة محضة لم تُصاحب شيئاً من الحق، ولكن فيها شبه بعيدُ منه، وذلك أن هذا يلزمُهُم على بعض قواعدهم، ولما كان يلزمهم ذلك شبهة في نسبته إليهم، وذلك أنَّه يُوجب أن بينهم وبينَ هذا القول ملابسة، ومثال ذلك في الأقيسة الغِلاطية المنطقية قول القائل: كل زَرَافَةٍ فرس، وكل فَرَسٍ صاهل، لينتج أن كُلَّ زرافة صاهل، فالمقدمةُ الأولى هي قولُه: كل زرافة فرس باطل محض لم تَصْحبْ شيئاً من الحق، لكن بين الزرافة والفرس شَبَهٌ بعيدٌ يجري المغالط على الطمع في الاستنتاج مِن ذلك، وذلك الشبه هو أن رأسَ الزَّرافَةِ مثلُ رأسِ الفرس، فلما كانَ بينهما ملابسة ما كان قولُه: كلُّ زرافة فرس من الباطل الذي أَخذَ من الحق شبهاً ما، فَصَلُحَ إيرادُه في الأقيسة الغِلاطية. فهذا وأمثالُه كثيرُ الوقوع في الأقيسة والمناظرات، ونقَّادُ النظر يُمَيِّزُونَ الخالصَ من الزيف، والخبيث مِن الطيب.
وقوله: فإن قالوا هذا من جِهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يدخل المطيعُ الجنةَ، والعاصي النار إلى آخره، إشارة منه إلى مذهبهم المعلوم، وتعرض لمحاولة إبطاله.
وقبل الجواب عليه نذكر مقدمة وهي أنه لا شك عند جميعِ الفرق من أهل الإنصاف، وأهل العنادِ أن الجبرية يذهبون إلى أن الله تعالى قد وَعَدَ المؤمنين المطيعين بجنته ورِضوانه، وتوعَّد على ارتكاب المعاصي والمحرمات بعذابه وبغضبه، وأن وعدَه ووعيدَه صادق لا خُلْفَ فيه، ولكنهم يعتقدون أنَّ ذلك مستند إلى الدليل السمعي دونَ العقلي، ولا شكَّ أيضاًً أن الدليلَ السمعي قد ورد بذلك، فثبت أنَّه لا خلافَ بينَنَا وبينَهم في أن الله صادقٌ في وعده ووعيده، وإنما اختلفنا في وجه الاستدلال على ذلك، فقلنا: ذلك ثابتٌ بدليل العقل القاضي بوجوبِ صدق السمع، وهم قالُوا: ذلك ثابت بدليل السمع الواجب صدقُه بدليل العقل، فالخُلْفُ في كلام الله، والتعذيبُ لأولياء الله ممنوع عندنا وعندهم، ومن قال: إن الشيء ممنوع بدليل السمع لم يلزمه أن يعتقِدَ جوازَ ذلك الشيء على الإطلاق، ألا ترى أن مذهبنَا أن نِكَاحَ الأُمهات والأخوات، وتركَ الصلوات وتركَ الزكوات جائز عقلاً، ولكنه حرام شرعاً وليس لأِحَدٍ أن يَنْسِبَ إلينا القولَ بجواز ذلك على الإطلاق، فكذلك الجبريةُ إذا قالوا: إن الله لا يُعذب المطيعينَ بدليلِ السمع لم يَحِلَّ أن يُقال: إن الله يجوز أن يعَذِّبَ المطيعين على الإِطلاق، وهذا واضح لا يخفي على المنصف.
قال الغزالي في كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد ": وقد ذكر أن ثوابَ المطيعين تَفَضُّلٌ مِن الله تعالى، وليس بواجب حتى قال: إلا أن يقال: إنه يصير وعدُه كذباً وهو محال، ونحن نعتقد الوجوبَ بهذا المعنى، ولا ننكره. انتهى. ونصوصُهُم على مثل هذا واضحة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
فإن قلتَ: إن بينَ الأمرينِ فرقاً، فإن نكاحَ الأمهاتِ والأخواتِ، ووجوبَ الصلوات والزكوات مما لا يُعْرَفُ بالعقل، وإنما يُعرف بالشرع،
وأما صدقُ الوعدِ والوعيد، فإنه مما لا يُعرف إلا بالعقل، وفرق بينَ ما لا يُعرف بالعقل وبينَ ما لا يُعرف إلا به.
قلت: هل ترِيدُ أن بينَهما فرقاً (1) يُسوغ الكذب في أنا نَنْسُبُ إليهم القولَ بما لم يقولوه، فهذا ممنوع، أو تريدُ أن بينَهما فرقاً يُسوغ لهم أن يلزموه ذلك، فمسلم، ولا يضر تسليمُهُ، لأن كلامَه فيما يدل على صدقِ المتدين منهم، وفيما لا يدل على ذلك من اعتقادهم، وليس كلامُنا فيما يلزمهم مما لا تأثيرَ له في ظَنِّ صدقهم أو كذبهم.
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أن السيدَ لما نسب إليهم ما لم يقولوه، وعرف أن مذهبَهم المنعُ منه بالدليل السمعي، وأن ذلك لا يخفى، حاول أن يُبْطِلَ كونَ ذلك مذهبَهم فلا أدري كيف طَمِعَ في الاستدلال على بطلان ما ثبوتُه معلوم بالضرورة، وما هو إلا كما وَرَدَ في الحديث " حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي وَيُصِم " (2) وقد استدل السَّيِّدُ -أيَّده الله- على بُطلان كونِ ذلك مذهَبَهم بأنهم لا يعلمونَ مَن شاء اللهُ أن يَغْفِرَ له لِقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ
(1) في (أ) و (ب) و (ج): فرق والمثبت من (ش).
(2)
حديث ضعيف، أخرجه من حديث أبي الدرداء أحمد 5/ 149 و6/ 450، وأبو داود (4130)، والبخاري في "تاريخه" 3/ 171، ويعقوب الفسوي في " تاريخه " 2/ 328، والقضاعي في " مسند الشهاب "(219)، والطبراني في " مسند الشاميين "(1454) و (1468) من طرق عن أبي بكر بن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا سند ضعيف. أبو بكر -وهو ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي- ضعيف كان قد سرق بيته، فاختلط.
وقال الحافظ العراقي في ما نقله عنه المناوي في " فيض القدير ": إسناده ضعيف، وقال الزركشي: روي من طرق في كل منها مقال، وقال المصنف كأصله: الوقف أشبه.
وفي الباب عن أبي برزة الأسلمي عند الخرائطي في " اعتلال القلوب " وعن عبد الله بن أنيس، عند ابن عساكر في " تاريخه ".
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} [المائدة: 18] وهذا عجيبٌ كأنَّه لم ينزل من السماء إلا هذه الآية، والجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآية مجملةٌ، وقد ورد بيانُها، وقد أجمع أهلُ مِلَّةِ الإِسلام على أنَّه إذا وَرَدَ المجملُ والمبيَّن أنَّه يُعمل على المبيّن، فإما أن يقولَ السيِّدُ: إنَّه لم يَرِدْ لهذه الآية بيانٌ في السمع، أو يقول: إن مذهبهم اعتقادُ المجمل، وطرح المبين، وكلاهما عِناد ومباهتة ما أظنُّه يرضاه لنفسه.
الوجه الثاني: أن نقول: لو سلمنا أنَّه ليس في القرآن، ولا في السُّنَةِ بيانٌ لهذه الآية المجملة، ولا تخصيصٌ لما فيها مِن العموم، لما لزمهم ذلك لأنَّ لهم أن يقولوا: قد علم ضرورةً من الدين أنَّ الله يُدْخِل المطيعينَ الجنة، وقد علمت ضرورة من مذهب الجبرية أنَّه إذا ورد مجمل عام، وعُلِمَ من الدين بيانُه وتخصيصُه بالضرورة والتواتر أنهم يعتقدونَ ما دلّ عليه المبين الخاص المتواتر، فإن كان السَّيِّد شَكَّ في أن ذلك مذهبُهُم، فليسأل، فإنما شِفاء العِيِّ السُّؤَالُ.
الوجه الثالث: لو سلمنا أنَّه لا دَلِيلَ يَدُلُّ على بيان هذه الآية من السمع، وأنه لا يدل عليها إلا دليلٌ العقل الذي لم تستند إليه الجبرية، لما لزم ذلك أيضاًً، لأنا نعلمُ بالضرورة والتواتر عنهم أنَّه (1) يعتقدون إثابةَ المطيعين، وعقوبةَ العاصين، واعتقادُهُم يكفينا في ظَنِّ صدقهم، سواء كان مستنداً إلى دليلٍ صحيح أو باطل.
الوجه الرابع: أن قولَ السيد: إنهم لا يعلمون مَن يشاءُ الله أن يغفِرَ
(1) في (ب) و (ش): أنهم.
له مِن قبيل المغالطة أو الغلط، فإن كانت مغالطةً، فهي لطيفة تدل على حِذْقِ صاحبها، وإن كان غلطاً، فهو جلي يدل على بلادةِ مُورِدِه، وبيانُ ذلك أنا نقولُ: ما تريد بأنهم لا يعلمون ذلك؟ هل تُريدُ لا يعلمون مع أنَّهم يعتقدون أنهم لا يعلمون؟ فهذه مباهتة، وجحدٌ للضرورة، فإن المعلومَ أنهم يعتقدون أنهم يعلمون ذلك، وإن أردتَ أنَّهم لا يعلمونَ ذلك لاستنادهم إلى دليلِ السمع، وليس يَصِحُّ الاستدلالُ به في هذه المسألة مع اعترافِك أنَّهم معتقدون للحق، ومُدَّعُونَ للعلم به، فذلك صحيح، ولكنه لا يُفِيدُكَ تهمتُهم بالكذبِ والمنع مِن قبولهم في الرواية، ومِن العجائب مجاوزةُ السيد للحد في الغُلُوِّ أنه احتجَّ بهذا على أن الجبرية لا يتنزَّهونَ من الكذب وقد قال في البراهمة: إنهم يتحرَّزونَ من الكذب أشدَّ التحرز، ويتنزَّهونَ عنه أعظمَ التنزه مع أن البراهمةَ مصرِّحُون بتكذيب جميع كتب الله المنزلة، ويُفصِحُونَ بتضليل جميعِ الأنبياء والرسل الكرام، وينسبونهم إِلى الشعوذة والتحيُّل والسحر، وملاحظة العيش في الدنيا بالكذب على الله، وإفشاء الضَّلال، ويسخرون منهم سَخِرَ الله منهم، ولهم عذاب أليم، ولا يدينون بثبوت النارِ، ولا يخافون العقابَ على ذنب من الذنوب، فهؤلاء نص السيدُ في كتابه على أن صِدْقهُم مظنون، وعلى أنهم عن الكذب متنزهون، ومنع من مثل ذلك في حقِّ مَنْ آمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليومِ الآخر، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحَجَّ البيتَ الحرَام، وصامَ رمضَان، وظهرت منه المحافظةُ العظيمةُ على الطاعة فيما نعرِفُه من الحلال والحرام.
هذا وإني أبرأُ إلى الله تعالى مِن اعتقاد الجبر والتشبيه ولستُ أُرِيدُ بكلامي هذا النُصرةَ لمذهبهم، وإنما أردتُ المنعَ من الكذب عليهم،
والاحتجاج لمذهبي في (1) قبولِ روايتهم، وقد رَدَّ المؤيَّدُ بالله في " الزيادات " القولَ بتكفيرهم، وأخذ يحتجُّ لهم، ويُجيب عنهم فيما يتعلق بمذهبهم مما احتجَّ به أصحابنا على تكفيرهم، ولم يدل ذلك على ميله إلى اعتقادهم مع أنَّه قد طَوَّل في ذلك، ومن أحبَّ معرفة ذلك، فليُطالِعْهُ في آخر كتاب " الزيادات " ومثل هذا مما لا يخفى، ولكن لما كثر الرجمُ بالظنون، وقل التورعُ عن نهكِ الأعراض، ورمي الغافلين، أحببتُ أن أُصَرِّحَ بمذهبي إيضاحاً للمهتدين، وإرغاماً للحاسدين.
قال: واحتجَّ ابنُ الحاجب للقائلين بقوله صلى الله عليه وسلم: " نحنُ نَحْكُمُ بالظَّاهِر "(2) وللرادين بقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قال: والآية أولى لِوجوه ثلاثةٍ:
أحدُها: تواترها، والخبرُ آحادي.
والثاني: خصوصُها بالفاسق بخلاف الخبر.
والثالث: عدمُ تخصيصها. والخبر مخصص بالفاسق والكافر (3) المصرحين.
قال: وأما دعوى الإِجماع على قبولِ قتلةِ عثمان، فلا نُسلِّمُ الإِجماعَ، ولعلَّ بعضَهم لم يقبلْهم، أو لعلَّ القائلين مختلفون في عِلَّةِ قبولهم، فبعضُهم لأنه لا يرى فسقهم، وبعضهم لأنَّه يقبلُ فاسق التأويل، فلا يكون إجماعاً على أن فسق التأويل لا يَضرُّ الرواية، وأما الخارجون على علي عليه السلام. ومعاوية وأصحابه، فلا نُسلِّمُ الاتفاقَ
(1) في: ساقطة من (ب).
(2)
هذا وهم من ابن الحاجب، فليس هو بحديث، ولا هو موجود في كتب الحديث المشهورة، ولا في الأجزاء المنثورة، وسينبه المؤلف قريباً على أنَّه لا أصل له.
(3)
في (ب): بالكافر والفاسق.