الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشكال الثالث: أن السيدَ رجح روايةَ الإجماع لمخالفتها للأصل، لأن الأصلَ الإجماع، وتوهم أن رواية الخلاف ليست كذلك، وهذا وهم أيضاً، فإن الأصلَ أن لا إجماع وأن لا خلاف، فروايةُ الخلاف أيضاًً مخالفةٌ للأصل، وهذا أيضاًً لا يخفى مثلُه.
فإن قلتَ: إنِّي أرِيدُ أن الأصلَ قبولُهم في العقل، فرواية الإجماع ناقلة.
قلنا: قد قررتَ في كتابك في هذه المسألة بعينها أن الأصل في العقل أن لا يقبلوا.
الإشكال الرابع: أنَّه رَجَّح بمخالفة الأصل، والترجيحُ بها مختلف فيه
بين العلماءِ، وهو محتجٌّ على غيرِه، وليس بمحتجِّ لنفسه، ومِنْ حق المحتج على الغير أن لا يحتج عليه بمختلَفٍ فيه مِن غير دليل، بل لا بُد من دليل يُلزمُ ذلك الغيرَ الموافقةَ، وهذا لا يخفي مثله على مَنْ لَهُ معرفة بأساليبِ الجدل والمناظرات.
فنقول: بل ما وافق الأصلَ، فهو أولى لِوجهين:
الوجه الأول: أن الاستصحابَ -وهو البقاء على الأصل- حُجَّةٌ عند كثيرٍ من العلماء (1)، ومما يَدُلُّ على ذلكَ ما ثبت عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قوله " إنَّ اللهَ فرض فَرَائِضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وسَكت عنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ مِن غيْر نسْيَانٍ، فلا تَتَعَرَّضوا لهَا ". رواه ابن ماجة (2).
(1) انظر لزاماً ما كتبه عن هذه المسألة العلامة الشيخ محمد بخيت، مفتي الديار المصرية في " سلم الوصول " 4/ 358 - 376.
(2)
هذا وهم من المؤلف رحمه الله، فالحديث لم يخرجه ابن ماجة، وإنما خرجه =
وقال النواوي: هو حديثٌ حسن، وله شواهد من الصحيح.
واستيفاءُ الحُجَجِ في هذه المسألة مقررٌ في الأصول، وقد أخذ العلماءُ بهذا في مسائل كثيرة.
منها مَنْ شَكَّ في انتقاض طهارته بقي على الأصْلِ.
ومنها يومُ الشك في أول رمضان لا يجبُ صومُهُ لأن الأصلَ شعبان، ويوم الشك في آخر رمضان يجبُ صومُه، لأن الأصل رمضان، ونحو ذلك مما يكثر تعداده.
= الدارقطني في " سننه " 4/ 184، والبيهقي في " سننه " 10/ 12 - 13، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة، وهذا سند رجاله ثقات إلا أن مكحولاً لا يصح له سماع من أبي ثعلبة.
وفي الباب عن أبي الدرداء مرفوعاًً " ما أحل الله في كتابه، فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عافية، فأقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً " ثم تلا هذه الآية (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أخرجه الحاكم في " المستدرك " 2/ 375، وصححه، ووافقه الذهبي مع أن سنده لا يحتمل إلا التحسين، وهو في " مسند البزار " برقم (2231) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، وعاصم بن رجاء، حدث عنه جماعة، وأبوه روى عن أبي الدرداء غير حديث، وإسناده صالح، لأن إسماعيل حدث عنه الناس، وأورده الهيثمي في " المجمع " 7/ 55، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات، وذكره في موضع آخر 1/ 171، وزاد نسبته إلى الطبراني في " الكبير"، وقال: إسناده حسن ورجاله موثقون.
وعن سلمان الفارسي سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال:" الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا لكم ".
أخرجه الترمذي (1726) وابن ماجة (3367) والحاكم 4/ 115، والبيهقي 10/ 12 وفي سنده سفيان بن هارون وهو ضعيف، والمرجَّح وقفه على سلمان.
وعن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أخرجه أبو داود (3800) وإسناده صحيح، وصححه الحاكم 2/ 307، ووافقه الذهبي.
فإن قلتَ: كيف تحتجُّ على الخصمِ بما يُنَازِعُك في صحته مِن حديث ابن ماجة؟
قلتُ: سيأتي الدليلُ على صِحته في الفصلِ الثاني إن شاء اللهُ تعالى، والدليلُ يوجبُ على الخصم الموافقة، كما أنا نحتج بإجماع أهلِ البيت على مَنْ يَقول: إنَّه ليس بحجة بعد أن يُقيمَ الدليلَ على أنَّه حجة.
إذا ثبتَ هذا فنقول: البقاءُ على الأصل حُجة، ورواية الثقة حجة، ولم يَقُلْ أحدٌ من الخلق: إن مخالفة الأصل حجة، ويجب ترجيح البقاءِ على الأصل، لأن حجتين أقوى مِن حُجة، فرواية العدل يعارضها روايةُ عدل مثلِه، ولم يُعَارِضِ الاستصحابَ شيء وهو إما حجة -كما هو رأيُ جماعة-، وإما محتمل أنَّه حجة، إذ الدليلُ على أنَّه ليس بحُجةٍ، ليسَ بقاطع، وهذا وجه ترجيح.
الوجه الثاني: أن نقول: قد ثبت أن الأصلَ لا يُخَالَف إلا بحجة إجماعاً من القائلين بأن الاستصحاب حجة، والقائلين بأنه ليس بحجة، وثبت الإجماع على أن ما يخالِفُ الأصلَ، لا يُقال به إلا بحجة، والذي لا يُنْتَقلُ عنه إلا بحجة أقوى من الذي لا يُقال به إلا بحجة.
الإشكال الخامس: أنَّه قد روى الإجماع على قبولهما ثلاثةٌ من أئمة الزيدية، واثنان من عُلمائهم، وهم المؤيدُ والمنصورُ، ويحيى بنُ حمزة عليهم السلام، والقاضي زيد، وعبدُ الله بن زيد رضي الله عنهما، وسيأتي في الفصل الثاني بيانُ روايتهم إِن شاء الله، وهُمْ أرجحُ مِن قاضي القضاة.
قال: وقال آخرون: الخلافُ في كفار التأويل واقع كما هو واقع في فسَّاق التأويل.