الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ومِن ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف: 142] وهو عام، فدخل فيه قبولُ قولهم.
أقول: يَرِدُ على كلام السَّيِّد بهذه الآية إشكالات:
الإشكال الأول: أنَّه ترك بيان وجه الاستدلال
بهذه الآية كأنه لا يحتاج إلى الذكر لوضوحه، فنقول: لا يخلو إما أن يقولَ بالمعنى السابق إلى الأفهام أو يتعنَّت ويُلاحظ ألفاظ العموم، إن كان الأول، فلا شَكَّ أنه لا يَسْبِقُ إلى الأفهام من قوله:{وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لا يُقبل حديث المتأولين المتدينين الذين بلَّغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغْلِبُ على ظنِّك أنه صحيح، وأنَّك متى خالفته استحققتَ العقوبةَ من الله تعالى، وإنما يسبق إلى الفهم تحريمُ اتباعِ سبيل المفسدين في الفساد في الأرض الذي هو إخافةُ السبل، وسفكُ الدماء وقد ذكر أهل العلم أن هذا هو المفهومُ في مثل ذلك، فقالوا: إن القائل إذا قال لِغيره: اتبع سبيلَ الصالحين، فُهِمَ أن مرادَه في صلاحِهم، ولا يلزم أن يَتَّبِعَ سبيلَهم فيما ليس مِن قبيل الصلاحِ من سكونِ بُلدانهم التي نشأوا فيها، ولزومِ معايشهم التي اعتادوا جِنسَها ونحو ذلك، بل قال العلماءُ بذلك في حقِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد أمرنا الله أن نتأسَّى به، ونقتديَ به- فقالوا: لا يلزمُ من ذلك اتباعُه في أمور الجِبِلَّةِ التي يفعلُها بداعي الطبيعة من كراهة بعض المآكل، وحُبِّ بعضِ الروائح والأزواج ما لم يَكنْ في ذلك قربةٌ ورد بها الشرعُ، وذلك لأنَّا لم نفهم أن متابعتَه في ذلك مرادةٌ بكلامِ الله تعالى، وإن كان إطلاقُ الأمرِ بالتأسي يقتضي ذلك في أصلِ الوضع اللغوي، وكذلك قوله:{وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لم يُرِدِ العمومَ في كُلِّ سبيل حتى لو فعلوا بعضُ المباحات لحرمت علينا، ألا ترى أنَّ بني العباس لمَّا استعملوا القصورَ الحصينة والطبول والآلات
الملكية، وسائر الهيئات المختصة بالدول العجمية التي لم يعرفها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابةُ، لم يحرم على الأئمة المتأخرين متابعتُهم في ذلك لِما قَصَدُوا فيه من إرهاب العدو، وإعزازِ الإسلام، وكذلك، فإن أئمة الجَوْرِ أوَّلُ مَنْ سن الألقابَ مثلَ الناصرِ والمنصورِ والمهدي، ولم يكن ذلك في زمن الصحابة، ولا نَعْلَمُ لعلي عليه السلام لقباً (1)، ولا لسيدي شبابِ أهل الجنة، وفعل ذلك الأئمةُ الكِبارُ من أهلِ البيتِ مِن غير طائل منفعة تحتَه، ولم يكن ذلك مِن اتباع المفسدين، وقد سأل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن صومِ يومِ عاشوراء، لما سَمِعَ أن اليهودَ تصومُه، ولم يكن يصومُه عليه السلام، فقالُوا: إِنَّه اليومُ الذي أنجى الله فيه موسى من البحر، فقال عليه السلام:" نحْنُ أحَقُّ بِموسَى مِنْهُم " وَصَامَهُ وأمَرَ بصومه (2). ولم يكن فيه اتباعُ المفسدين مع أنَّه استند إلى خبرهم بأنَّه اليومُ الَّذي نَجَّى اللهُ فيه موسى، لأنَّه يتعلق بفضائلِ الأعمالِ دونَ الأحكامِ، وكذا في الحديث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم يَنْزِلْ عليه فيه شيء، وأنَّهم كانوا يَسْدِلُونَ الشَّعرَ، والمشركون يَفْرِقونَ، كَان يَسْدِلُ ثم فرَقَ [بَعْد](3) فلم يكن في شيء من ذلك راكناً إلى اليهود.
(1) في (ب): ولا يعلم لعلي عليه السلام لقب.
(2)
أخرجه من حديث ابن عباس، البخاري (2004) و (3397) و (3943) و (4680) و (4737) ومسلم (1130)، وأبو داود (2444).
(3)
أخرجه من حديث ابن عباس، أحمد 1/ 245 و261 و287 و320، والبخاري (3558) و (3944) و (5917)، ومسلم (2336) وأبو داود (4188) والنسائي 8/ 184، وابن ماجة (3632)، والترمذي في الشمائل (29).
السدل: هو ترك شعر الناصية على الجبهة، والفرق: هو إلقاء شعر الرأس إلى جانبي الرأس، ولا يترك شيئاً منه على جبهته.
قال الحافظ في " الفتح " 10/ 361: وكأنَّ السر في ذلك أن أهل الأوثان أبعد عن =
إذا ثبت هذا، فنقول لِلسيد: ما هذا الإرسالُ لهذه الآية مِن غير بيان وجه الاحتجاج؟ هل يريدُ أنا لا نَتَّبعُ سبيلَ المفسدين فيما ثبت عندنا أنه واجبٌ؟ أو فيما ثبت أنَّه مباح؟ أو في ما ثبت أنَّه حرام؟، أو في جميع ذلك؟ وكُلُّ هذا مردود عليك إلا اتباعهم فيما هو حرام، وأما في الواجب والمباح، فخلاف إجماع الأمة، لكنا نستدِلُّ على أن قبول المتأوِّلين المتديِّنين الذين يقضي الظنُّ الراجحُ بصدقهم ليس هو مِن الحرام، وإنما هو من الواجب، كما سيأتي مبيناً في الفصل الثاني إِن شاء اللهُ تعالى.
الإشكال الثاني: أنَّ النهي عن اتباعِ سبيل المفسدين ليس نهياً عن اتباعِ السبيل الحقيقية إنما هو نهي عن اتباع السبيل المَجَازية، وكلُّ ما فعل الإنسان لا يُسَمَّى سبيلاً له في المجاز، لأنَّه يحتاح إلى عَلاقة ظاهرة، وقرينة معروفة، فلا يُسَمَّى فعلُ الإنسان سبيلاً له (1) حتَّى يُلازمه وَيلْتَجَّ به، فالفسادُ سبيلُ المفسدين، وليس الأكلُ والشربُ سبيلَهم، وإن كانوا يأكلون ويشربون، وكذلك العملُ بقول من يَغْلِبُ على الطَّنِّ صدقُه ليس سبيلَ المفسدين بل سبيلُ العقلاء.
وإذا قال السَّيِّدُ -أيده الله-: إن تصديقَ المتأوِّل المظنونِ صدقُه اتباع لسبيله.
قلنا له: تسمية كلامِه سبيلاً مجازٌ، والمجازُ لا بُد له من قرينة ظاهرة، كالشجاعة في الأسد والشجاع، ولا يجوز أن تكون خفية، كالبَخَرِ
= الإيمان من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة، فكان يحب موافقتهم ليتألفهم، ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله، واستمر أهل الكتاب على كفرهم، تمحضت المخالفة لأهل الكتاب.
(1)
له: ساقطة من (ب).