الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس: أنَّ شهادة بعضهم على بعض مقبولةٌ
عند كثير من العلماءِ مِن أهل البيت وغيرِهم، فهذه الصُّوَرُ ونحوُها مما يدل على أنَّ مجردَ القبول لورود الشرع بذلك، أو لقوة الظن مع ورود الشرع به لا يكون ركوناً إليهم.
الإشكال الثاني: أن الاحتجاجَ بهذه الآية لا يَصِحُّ
حتى يدل. (1) دليل قاطع على أنَّه لم يكن وقتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرْفٌ يَسْبقُ إلى الأفهام في معنى الذين ظلموا غيرَ الحقيقة اللغوية، وغير عرف المتأخرين، لكنا نقيم الدليلَ على أن يكون هناك عُرفٌ شرعي يدل على أن الذين ظلموا هُمُ الكفار، وذلك مِن الكتاب والسنة، أما الكتابُ، فقوله تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وظاهر هذه الآية قصر الظالمين على الكافرين، وإلا لوجب أن يكون المرادُ: والكافرون هم بعضُ الظالمين، وذلك خلاف الظاهر، وأصلُ الاستعمال الحقيقة، ولا يُعَدَلُ عن الظاهر إلا بدليل، والخصمُ يحتاج في هذه المسألة إلى دليل قاطع في لفظه ومعناه، حتى ما ادّعى من أنها قطعية وهو يُريد إلزامَ خصمه الوفاقَ وتحريم المنازعة عليه، فيحتاج إلى دليلٍ مقطوع بمعناه، وبأنه غيرُ مخصّص ولا منسوخٍ ولا معارَض، يوضحُ ما ذكرناه أن الخبر إذا كان معرفاً باللام ثم يجز أن يكون أعمَّ من المبتدأ، فلا نقول: الإنسان هو الحيوانُ، ولا قريش هم بنو عدنان من غير تقييد (2) وذلك واضح.
فإن قلت: قد ورد في القرآن تسميةُ المعاصي ظلماً وإن لم تكن كفراً.
(1)" حتى يدل " سقط من (ج).
(2)
في (أ): تقيد.
قلت: هذا صحيح، ونحن نقولُ به، ولا ننكره، وإنما قلنا: يجوز أنها تسَمَّى ظلماً على صور.
الصورة الأولى: أن يكونَ ظلماً في الحقيقة اللغوية لا العُرفية كما سَمَّى اللهُ عز وجل الإنسان دابة في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس الإنسان يُسَمَّى دابةً في العُرف حتى لو حلف حالف: لَيَرْكبنَّ دابة، لم يُجْزهِ ركوبُ إنسان ولا غيره سوى الدابةِ المعروفة، فإذا أطلق اللفظ عن القرائن حُمِل على العرفية، وإذا جاء لغير ذلك، فمع القرائن.
الصورة الثانية: أنا نسلِّمُ ذلك في المصادر والأفعال ولا نُسَلِّمُهُ في الموصولات مثل الذين ظلموا، ولا في أسماء الفاعلين كالظالمين، وقد قدمنا أنَّه لا يمنعُ ثبوت عرف في أسماء الفاعلين دون المصادر والأفعال كما ثبت ذلك في الدابة والدَّبيب، وقد تقدم بيانُه.
الصورة الثالثة: أن تقول (1): قد ورد في الشرع ما يَدُلُّ على أن المعصية المسماةَ بالظُّلم تختصُّ بالكفر، ورُدَّ بأنها تَعُمُّ الكُفْرَ (2) وغيره، أصلُ الاستعمال الحقيقة، فدلَّ على أنها لفظةٌ مشتركة في الحقيقة الشرعية، وحينئذ لا يَصِحُّ القطعُ بدخول مَنْ ليس بكافر إلا بقرينةٍ، فإن كانت المسألةُ ظنية، جاز أن تكون تلك القرينةُ ظنية، وإن كانت قطعية لم يكف إلا أن تكونَ القرينةُ قطعيةً.
فإن قلت: وما المانِعُ من أن يكون الظلمُ عاماً في الكفر والفسق، ولا يكون مشتركاً، لأن الأصل عَدَمُ الاشتراك.
(1) في (ش): أنا نقول.
(2)
في (ب): للكفر.
قلتُ: ظاهر قولِه تعالى: {والكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يأبى العمومَ، لأنَّ ظاهرَةُ قصرُ الظالمين على الكافرين كما تقَدَّمَ، سلمنا جوازَ أنَّ الظاهر العمومُ دونَ الاشتراك، لكن الاشتراك محتمل غيرُ راجح، فلا يَصْلُحُ الاستدلالُ بها في مسألة قطعية حتى ينتفيَ الاشتراك بقاطع.
فإن قلتَ: هلا قلْتَ: إن قوله تعالى: {والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ} مجاز كقول القائل: العلماءُ هم العاملون مبالغة في أن كل عامل بغير علم فليس بعامل لما يعرض في عمله من الخطأ.
قلتُ: الجوابُ من وجهين.
الأول: أنَّه لا يُعْدَلُ إلى المجاز إلا بدليل، وإنما سألت عن الدليل.
الثاني: أن السَّيِّد ادَّعى أن المسألة قطعية، فلا بُدَّ للسَّيِّد من الدليل القاطع على نفي هذا الاحتمال.
وأما السنةُ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شقّ ذلك على أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلم؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّه لَيسَ بذَاكَ [إنَّما هُوَ الشِّركُ] ألا تسْمَعُ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " (1)،
(1) أخرجه البخاري (32) و (3360) و (3428) و (3429) و (4629) و (4776) و (9618) و (6937) ومسلم (124) والترمذي (3067) وأحمد رقم (3589) و (4031) و (4240) والطبري (13476) وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 26 - 27 وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في " الأفراد " وأبي الشيخ وابن مردويه.
وروى الحاكم مثلَه عن أبي بكر الصديق موقوفاً (1).
وقولهم: إنَّه لا يَصِحُّ أن يكونَ مع الشرك شيء من الإيمان مردودٌ لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] والتحقيق: أن الإيمانَ قسمان لغوي وشرعي، والشرعي قسمان أعلى وأدنى، والشركُ إنما ينافي الشرعي.
فإن قلتَ: هذا يدل على عدم العرف، ولذلك قالوا: أيُّنا لم يَلْبِسْ إيمانَه بظلم؟!.
فالجوابُ من وجهين،
أحدهما: أن لبس الإيمانِ بالظُّلم قرينة يُفهم منها إنَّه ليسَ بظُلم الشرك، لأن الشِّرْكْ والإيمانَ الشرعي لا يجتمعانِ بخلاف سائر المعاصي، فإنها تجتمع مع الإيمان إلا الكبائر، وعلى قولِ الفقهاء والكبائر.
وثانيهما: ما قدمنا مِن الفرق بين المصدر واسم الفاعل، وما في معناه من الموصول.
وثالثها (2): أنِّي لم أدَّعِ أن العُرف في ذلك كان مستمرّاً من أوَّل النبوة إلى آخرها، فما المانعُ أن يكونَ ذلك العُرف بعدَ أن سَمِعُوا مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وغيره، وبعدَ نزول قوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وغيرها، بل هو الظاهرُ، لأن العُرف لا يثبت إلا بعد كثرةِ الاستعمال وطولِ المدة.
(1) أورده السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 27، ونسبه للفريابي، وابن أبي شببة، والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول "، وابن جرير (13484) وابن المنذر وأبي الشيخ، وابن مردويه، ولم ينسبه للحاكم، وقد فتشت عنه في " المستدرك " فلم أجده فيه.
(2)
في (ب): وثالثهما.