الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضاع، أو أَبَق إلى بعض النواحي والبقاع، ونحو ذلك من الأسجاع الثقيلة على الطباعِ، الكريهةِ في الأسماع.
النظر الخامس: مِن هذا القبيل أيضاًً وهو أن الله -تعالى- شرع الكتابةَ في الدَّيْن والشهادة، وعَلَّلَ ذلك بأنَّه أقومُ للشهادة
وأدنى ألا يَقَعَ الشَّكُّ والرِّيبَةُ، وكتابُ الله لا يَرِدُ بالعَبَثِ، ولا يأتيه الباطِلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، فلو صَحَّ التعلُّقُ بمثل ما ذكره السَّيِّد للزم أن لا يَرِدَ الشَّرْعُ بذلك، لأنَّه قد يضيعُ الكتابُ ويُسرق، أو يَعْطَبُ وُينهبُ، وَيَنْسَى الشهودُ الشهادَةَ ما لم يَرَوْا خُطُوطَهُم، فيكون سبباً لذكرهم على القول بأنَّ الشهادة على الخطِّ لا تَصِحُّ، أو تكون موجبةً للشهادة بنفس معرفتها على القول الآخر، وعلى كلا التقديرين كان يلزم نسخُ هذه الشريعة، ومحوُ هذه الآية، لئلا يُقَالَ: سُرِقَ علمُ الشهود، واغتصبت شهادتُهم.
النظر السادس: أنَّ " السَّيِّد " قد حام على اختيار مذهب الأشعرية في أنَّه لا يشتق اسمُ الفاعل مِن شيء إلَاّ وذلك الشيء قائمٌ بالفاعل
، وهذه المسألة معروفةٌ في الأصول، وفيها أنظار دقيقة، وتحتها إلزامات جليلة، ولستُ أُكْثِرُ بإيراد المعروف، ولا أتعرض لمجرد النقل إِلَّا فيما أخاف المنازعة في ثبوته، وأن أُعْزَى إلى الابتداع في القول به كما صنعتُ في نقل كلام الأئمة في الوِجَادَةِ، وكما سيأتي في نقل ألفاظهم في قبول المتأوِّلين، ونحو ذلك. فلهذا تركتُ نقلَ كلام الفريقين في هذه المسألة وما يلزم السَّيِّد من الإلزامات المنكرة إن كان قد اختارَ مذهبَ الأشاعرة، وما أَظُنُّ فِكْرَهُ في هذه المسألة قد بلغ إلى هذه الغاية، ولا تَغَلْغَلَ إلى هذا الشأوِ.
فنقول: لا شك أنَّ اسم الفاعل اللغوي قد يُشْتَقُّ للفاعل لمناسبات
بعيدة، وتعلُّقات نائية، ولهذا يُسمَّى الرجل لابِناً وتامِراً: إذا كان ذا تَمْرٍ وَلَبَنٍ (1).
قال الخُطيْئة:
وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنـ
…
ـكَ لَابِنٌ في الصَّيْفِ تَامِرْ (2)
فلم يلزم أنَّ هذا الاشتقاقَ غيرُ صحيح، لأنَّه إذا سرق التمر، أو اغتُصِبَ اللبنُ، فقد سُرِقَ اسمُ الفاعل، واغتُصِبَ، وأُخِذَ الاشتقاقُ، ونُهِبَ، فلما لم يلزم ذلك في لغة العرب عندَ جميعِ أهلِ الأدب، فكذلك في مسألتنا يَصِحُّ أن يكونَ الرجلُ عالماً مجتهداً وعلى الحفظ والكتب معتمداً، إذ لا يُوجَدُ مَنْ يَعْتَمِدُ على أحدهما سرمداً، ولا مَنْ لا حظَّ له في أحدهما أبداً. ولا يلزم أن يُسرق علمه، ولا يَصِحُّ أن يغتصب اجتهادُه، وكذلك يُسمَّى زيدٌ مدنياً وعمرو يمنيّاً، ولا يلزمُ زيداً إذا خَرِبَتِ المدينةُ أن تَخْرَبَ تسميتُه، ولا يلزمُ عمراً إذا خُسِف باليمن أن تُخْسَفَ نسبته.
(1) قال صاحب " المفصل " 6/ 13: وقد يبنى على فعَّال وفاعل ما فيه معنى النسب من غير إلحاق اليائين، كقولهم: بتَّات وعوَّاج، وثوَّاب، وجمَّال، ولابن وتامر ودارع، والفرقُ بينهما أن " فعَّالاً " لذي صنعة يزاولها ويديمها، وعليه أسماء المحترفين، و" فاعل " لمن يلابس الشيء في الجملة.
(2)
البيت من قصيدة في هجو الزِّبْرقان بن بدر مطلعها:
شاقتك أظعانٌ لليـ
…
ـلى يومَ ناظرة بواكر
وهو في ديوانه 17، وسيبويه 3/ 381، و" المقتضب " 3/ 161، و" الخصائص " 3/ 282، وابن يعيش 6/ 13، والأشموني 4/ 400، واللسان: لبن.
وُيحكى أن الأصمعي صحف قول الحطيئة هذا فأنشده
…
لاتني بالضيف تامُر، أي: تأمر بإنزاله وإكرامه، قال ابن جني: وتبعد هذه الحكاية في نفسي لفضل الأصمعي وعلوه، غير أني رأيتُ أصحابَنا على القديم يسندونها إليه، ويحملونها عليه.
النظر السابع: وهو أوَّلُ الجوابِ بطريق التحقيق دونَ مُجَرَّدِ المعارضة، وذلك أن نقول: ليس الحِبْرُ البرَّاق يُسمَّى علماً، ولا المجلداتُ والأوراق تُسمَّى اجتهاداً، وإنما العلمُ الذي في الصدور، لا الذي في المسطور، ومحلُّ الاجتهادِ في القلوب لا في الكاغَدِ المكتوب، فكيف يلزم أن يُقال -إذا سُرِقَتْ كُتُبُ العالِم-: إنَّه سُرِقَ عِلْمُهُ، واغتُصِبَ، ومُنِعَ منه، ونُهِبَ؟. ومتى صح أن علم المجتهد هو مجموع العفص (1) والزاج، والجلود والأوراق حتى إذا سُرِقَتْ، لزم أن يُسْرَقَ علمه، وإذا اغتُصِبَتْ، وَجَبَ أَن يُغْتَصَبَ اجتهادُه، فإن كان السيدُ ادَّعى أنه ما درى كيف يُقال، ولا عَرَفَ ما العبارةُ في تلك الحالِ، فهذا تعنُّتٌ شديدٌ، ونزوح عن الإنصاف إلى مكان بعيد.
وأظرف السوقة يعرف أنَّه يقال: سُرِقَتْ كُتُبُه، واغتصبت منه ونُهِبَت. وهذه العبارة كافية في هذه الواقعة متى وقعت، ولم يَزَلِ الناسُ يعَبِّرُونَ بها، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً من أهل اللغة العربية ولا مَنْ قبلَهم، ولا مَنْ بعدهم مِن جميع الملل والنحل والمذاهب والفِرَقِ في قديم الزمان وحديثِه إذا ضاع لَهُ كِتَابٌ، قال: مَنْ وَجَدَ عِلمي، فإنه ضلَّ عنِّي، ولا إِذا اغتُصِبَ عليه كتاباً يقول: فلان اغْتَصَبَ اجتهادي، ولا انتهب فنّي.
وكذلك مَنْ وجد كتاباً ضائعاً، وأراد التعريفَ به، فإنه يقول: مَنْ ضاعَ له كتاب ونحو ذلك مِن معروف الخطاب، ولا يقول: من ضاع له علم، ولا مَنْ سَقَطَ عليه اجتهاد. وهذه التعسُّفَاتُ في العبارات والأساليب المبتدعات لا تُفيد العلم لمن نظر فيها طالباً للهدى متثبتاً، ولا يأتي بخير
(1) العفص: ثمر شجر البلوط يتخذ منه الحبرُ والصبغ، والزاح: فارسي معرب، قال الليث: يقال له: الشبُّ اليماني، وهو من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر.