الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
مقدمة الطبعة الرابعة
…
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الرابعة:
لقيتْ هذه الدراسة من تشجيع الباحثين المشكور ما دفعني إلى أن أنميها في طبعتها الثانية بما أضفتُ إليها من مواد جديدة، وهي مواد لا تغير شيئًا في النظرية التي قامت عليها، وهي أن شعرنا العربي تطور مع الزمن في مذاهب ثلاثة: مذاهب الصَّنعة والتصنيع والتصنُّع. بل هي تدعمها وتوثق مقدماتها ونتائجها.
وبنفس هذه الغاية رجعتُ أنظر في فصول الكتاب حين أخذت في إعداده للطبع مرة رابعة أريد أن أستوفي معانيه وحقائق مذاهبه بقدر ما أستطيع، وأنا في أثناء ذلك تارة أنقِّح ما سبق أن كتبت، وتارة أضيف زيادات جديدة، كما أضيف بعض الأمثلة والشواهد لغرض تمام التوضيح وكمال البيان.
ورأيت أن أعيد كتابة الفصل الثالث من الكتاب الأول الخاص بالصنعة والتصنيع وتقابلهما في القرنين الثاني والثالث للهجرة، حتي أبسط الحديث في العلاقات الجديدة المادية والمعنوية التي أثرت تأثيرًا واسعًا في الشعر العباسي وهي كثيرة: منها ما يتصل بالسياسة والدعوة العباسية، ومنها ما يتصل بالجنس ونزعاته. ومنها ما يتصل بالحضارة والتراث الثقافي الأجنبي الذي انتقل إلى العربية، ومنها ما يتصل باللغة وما جَدَّ فيها من أسلوب المولدين، وهو أسلوب مبسط شفاف ليس فيه إغراب ولا ابتذال، أسلوب يقوم على الألفاظ الواسطة التي لا تهبط إلى لغة الدهماء والعامة ولا ترتفع إلى لغة الإعراب الحوشيَّة، مع الجزالة والرصانة حينًا. وحينًا مع العذوبة والرشاقة والحلاوة. وهو أسلوب ينهض نهوضًا رائعًا بكل ما أتيح للعقل العباسي من ذخائر الفكر ولطائف الذهن
وبدائع الخيال والتصوير، مع تمثيل المجتمع بكل ما كان يخوض فيه.
ومن أهم ما يميز هذا الأسلوب أنه لا تنقطع فيه الصلة بين القديم والجديد، فهو يحتفظ بخير ما في القديم من ألفاظ، وكل ما يدخله عليها إنما هو التهذيب والتصفية والترويق، وأيضًا فإنه يحتفظ بخير ما في القديم من معانٍ وصور، وهو يشفع ذلك بدقائق الفكر العباسي الجديد واستنباطاته الخفية ومحاسن خياله الحديث وتصويراته المونقة البارعة.
وبذلك تطور الشعر في العصر العباسي تطورًا مثمرًا، تتوثق فيه العلل والأسباب بين القديم والجديد توثقًا نحسُّ فيه ضربًا من المحافظة المنتجة الحية، كما نحس فيه ضربًا من التحول مع العصر وكل ما يداخله من ألوان الحضارة والترف وآثار الثقافة والفكر العميق. وقد يتغلب عنصر التحول على عنصر المحافظة عند بعض الشعراء، وقد يشوبون ذلك بضرب من الثورة على القدماء؛ غير أن هذا لا يخرج بالشعر العباسي -حتي عند هؤلاء الثائرين- على أصوله التقليدية؛ فالقديم يزاوج فيه الجديد مزاوجة تتيح له الخلوص من العقم والجمود، كما تتيح له التطور الحي في التعبير والتفكير والتصوير.
وقد حاولت في هذه الطبعة أن أوضح هذا التطور للشعر العباسي، ودرست أعلامه الأولين الذين مهدوه وثبتوه، وهم بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد؛ حتي يستبين ازدهار مذهب الصنعة على أيديهم وما نشأ من مذهب التصنيع الجديد، ومن أجل ذلك كله أعدت كتابة فصل الصنعة والتصنيع، وكل ما زدته أو أضفته إنما هو في سبيل استكمال معاني هذه الدراسة الأدبية ومذاهبها الفنية. والله الهادي إلى سواء السبيل.
القاهرة في 15 مارس سنة 1960 شوقي ضيف.