الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القديمة وحشدها في أشعاره وكتاباته على نحو ما نرى في الفصول والغايات واللزوميات، وكأنه كان يؤلف شعره للمثقفين خاصة فهو يجمع لهم فيه كل ما يعرفونه من ضروب الثقافات وألوان المعرفة، وخاصة المعرفة الفنية وما يطوى فيها من صور غريبة ولفظ غير مألوف حتى يستولي على أفئدتهم بهذه الطرائف النادرة التي كانت تعد بدعًا جديدًا في هذه العصور، والتي كان الناس والنقاد يقيسون بها مهارة الشاعر وإبداعه.
2-
ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:
كان أبو العلاء ذكيًّا ذكاء شديدًا سريع الخاطر دقيق الحس حتى ليروي المصيصي الشاعر أنه كان يلعب بالشطرنج والنرد1!! وروى الرواة أن أبا محمد الخافجي الحلبي دخل عليه وسلَّم ولم يكن يعرفه؛ فرد عليه السلام وقال: هذا رجل طوال، ثم سأله عن صناعته فقال: اقرأ القرآن؛ فقال: اقرأ علي شيئًا منه فقرأ عليه عشرًا، فقال له: أنت أبو محمد الخفاجي الحلبي؟ فقال نعم، فسئل عن ذلك فقال: أما طوله فعرفته بالسلام، وأما كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب؛ فإنني سمعت بحديثه2. وذكر القِفْطي أنه كان له سرداب إذا أراد الأكل نزل إليه وأكل مستترًا، ثم يقول: إنه نزل إليه يومًا وأكل شيء من رُبٍّ أو دِبْس3 ونقط على صدره منه يسير وهو لا يشعر به؛ فلما جلس للإقراء لمحه بعض الطلبة فقال: يا سيدي أكلت دبسًا فأسرع بيده إلى صدره ومسحه وقال نعم، لعن الله النهم، فاستحسن منه سرعة فهمه بما على صدره، وأنه الذي أشعر به4. وليس من شك في أن هذا كله يدل على أن أبا العلاء كان مرهف الحس إرهافًا شديدًا، وهو إلى
1 يتيمة اليتيمة: للثعالبي ص4.
2 تعريف القدماء بأبي العلاء ص251.
3 الرب: عصارة بعض الثمار. والدبس: عسل التمر أو عسل النحل.
4 المصدر نفسه ص37.
ذلك كان سريع الحفظ أيضًا سرعة شديدة، روى ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار أنه لما دخل بغداد أرادوا امتحانه؛ فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة، وهو يسمع إلى أن فرغوا؛ فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه عليه1. ويروي القفطي أنه كان يحفظ ما يمر بسمعه، وأن رجلًا من اليمن وقع إليه كتاب في اللغة سقط أوله وأعجبه جمعه وترتيبه فكان يحمله معه ويحج؛ فإذا اجتمع بمن فيه أدب أراه إياه وسأله عن اسمه واسم مصنفه، فلا يجد أحدًا يخبره بأمره، واتفق أن وجد من يعلم حال أبي العلاء فدله عليه، فخرج الرجل بالكتاب إلى الشام ووصل إلى المعرة واجتمع بأبي العلاء وعرفه ما حاله، وأحضر الكتاب وهو مقطوع الأول؛ فقال له أبو العلاء: اقرأ منه شيئًا، فقرأ عليه فقال له أبو العلاء: هذا الكتاب اسمه كذا ومصنفه فلان، ثم قرأ عليه من أول الكتاب إلى أن وصل إلى ما هو عند الرجل؛ فنقل عنه النقص، وأكمل عليه تصحيح النسخة، وانفصل إلى اليمن فأخبر الأدباء بذلك، وقد قيل إن هذا الكتاب هو ديوان الأدب للفارابي اللغوي، وهو مضبوط على أوزان الأفعال"2.
كان أبو العلاء قوي الحافظة -على ما يظهر- قوة شديدة، وكان لا يقرأ عليه كتاب إلا حفظ منه أطرافًا حتى ليروي الرواة أنه لما ذهب إلى بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها؛ فكان كلما قرئ عليه شيء حفظه، وهم يروون أنه كان يحفظ المحكم والمخصص وأنه أملاهما من صدره3! ولا تقف القصص بحفظ أبي العلاء عند نصوص اللغة العربية وكتبها، بل إنها لتمتد فتزعم أنه كان يحفظ ما يسمعه بين رجلين بالفارسية أو بالأذربية4.
وربما كان كثير من هذه القصص مبالغ فيه ولكنها مع ذلك تدل على أن الرجل اشتهر في عصره بحدة الذكاء وسرعة الحفظ. يقول ابن العديم: "كان أبو العلاء على غاية من الذكاء والحفظ، وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة في العلم؟ فقال: ما سمعت شيئًا إلا حفظته، وما حفظت شيئًا فنسيته"5.
1 تعريف القدماء ص226.
2 تعريف القدماء ص 33
3 النور السافر: للعيدروسي "طبع بغداد" ص412.
4 تعريف القدماء ص13- 225.
5 تعريف القدماء بأبي العلاء ص551.