الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته"1؛ فالشعر في رأي العرب -كما هو في رأي اليونان- صناعة، وهي صناعة معقدة تخضع لقواعد دقيقة صارمة في دقتها بحيث لا ينحرف عنها صناع الشعر إلا ليضيفوا إليها قواعد أخرى ما تزال تنمو مع نمو الشعر وتتطور مع تطوره.
1 البيان والتبيين: 2/ 101.
2-
صناعة الشعر الجاهلي:
من يرجع إلى صناعة الشعر العربي في أقدم "نماذجه" يرى صعوبة هذه الصناعة، وأنها ليس عملًا غُفْلًا؛ بل هي عمل موسوم بتقاليد ومصطلحات كثيرة.
وتلك آثار الشعر الجاهلي تتوفر فيها قيود ومراسيم متنوعة، ولعل ذلك ما جعل "جويدي" يقول:"إن قصائد القرن السادس الميلادي الجديرة بالإعجاب تنبئ بأنها ثمرة صناعة طويلة"1؛ فإن ما فيها من كثرة القواعد والأصول في لغتها ونحوها وتراكيبها وأوزانها يجعل الباحث يؤمن بأنه لم تستوِ لها تلك الصورة الجاهلية إلا بعد جهود عنيفة بذلها الشعراء في صناعتها. وفي دراسة "موسيقى" الشعر الجاهلي ما يفسر بعض هذه الجهود، فالقصيدة تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات، وهي تبلغ عادة أربعين بيتًا، وقد تزيد إلى مائة، وقد تنقص إلى عشرة، ويلتزم الشاعر في جميع هذه الأبيات وزنًا واحدًا يرتبط بنغماته وألحانه في "النموذج الفني" كله، كما يلتزم حرفًا واحدًا يتحد في نهاية هذه الأبيات يسمى الرَّويّ، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يوفر جهودًا ويلتزم أصولًا، من الصعب أن نلخص هنا جوانبها؛ فإن علمًا خاصًّا بل علمين يقومان على دراستها وبحث نُظمها، ونقصد علمي العروض والقافية.
وهذه الجهود والأصول الصوتية الخاصة في "النماذج الجاهلية" ليست كل شيء في صناعتها؛ فهناك أصول أخرى تستمد من "التصوير" إذ الشعر الجاهلي -كما وصلتنا نماذجه- لا يعتمد أصحابه على "فن الموسيقى" فقط وما يحدثون
1 Cuidi، L'araveie Anteislamique، p.41.
فيه من قواعد والتزامات دقيقة؛ بل هم يعتمدون على فن آخر، لعله أكثر تعقيدًا وهو "فن التصوير" ولعله ذلك ما جعل "جب" يقول: إن أدب العرب أدب رومانتيكي1؛ فهو في أقدم نماذجه يغلب عليه الخيال و"التصوير". ومن يرجع إلى نماذج امرئ القيس وهو من أقم الشعراء الجاهليين2 سيلاحظ أنه يُعْنَى بالتصوير في شعره كأنه "التصوير" غاية في نفسه؛ فالأفكار تتلاحق في صفوف من التشبيهات، حتى تستتم هذا الفن من "التصوير" وكأنما القصائد برود يمانية؛ ففيها ألوان نقوش ورسوم على صور وأشكال كثيرة. وغير امرئ القيس من الجاهليين مثله، يعنى بالتصوير في شرعه عناية بالغة، كأنه أصل مهم من أصول صناعتهم، ونحن نسوق لقارئ قطعة من مطولته في وصف فرسه ليرى دليل رأينا؛ إذ يقول:
وقد أغتدي، والطيرُ في وُكُناتها
…
بمنجردٍ قَيْد الأوابد هيكل3
مكر مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطَّه السيل من عَلِ
كُميتٍ يَزِلُّ اللِّبد عن حال مَتْنِهِ
…
كما زلت الصفواء بالمتنزَّلِ4
على الذَّبْل جَيَّاشٍ، كأنَّ اهتزامه
…
إذا جاش فيه حمية غَلْيُ مِرْجَلِ5
مِسَحٍّ إذا ما السابحاتُ على الوَنَى
…
أَثَرْنَ الغُبار بالكديد الْمُركَّلِ6
يَزِلّ الغلام الخف عن صهواته
…
ويلوي بأثواب العنيف المثَقَّلِ7
1 تراث الإسلام ترجمة لجنة الجامعيين 1/ 154.
2 ولد امرؤ القيس حوالي عام 500م وتوفي حوالي عام 540م انظر ،Caussin Deperceval، Essai sur l;histoire des araves، 11، 303-322.
3 أغتدي: من الغدو وهو السير مع طلوع الشمس، وكناتها: أوكارها، المنجرد: الفرس قصير الشعر، وهو من صفات الخيل الكريمة، والأوابد: الوحوش النافرة، هيكل: ضخم.
4 كميت: أحمر اللون، يزل: يسقط، حال المتن: موضع اللبد من ظهر الفرس، والصفواء: الصخرة الملساء، والمتنزل: الموضع المنحدر.
5 الذبل: الضمور، جياش: شديد الاضطراب والحركة، والاهتزام: صوت جوفه عند الجري، الحمى: الغلي، المرجل: القدر.
6 مسح: كثير الجري، السابحات: الخيل السريعة، الونى: التعب، الكديد: الأرض الصلبة، المركل: الذي أثرت فيه الحوافر. يقول: إنه يسبقها حين تجري معه ولا يصيبه ما يصيبها من إعياء وتعب؛ بل يشتد جريه.
7 الخف: الخفيف، صهواته: موضع اللبد. ويلوي بأثواب العنيف المثقل: يريد أنه يكاد يصرعه ويسقطه هو الآخر.
درير كخُذروف الوليد أَمَرَّه
…
تتابع كفيه بخيط موَصَّل1
له أَيْطَلَا ظَبْيٍ، وساقا نَعَامة
…
وإرخاء سرحان، وتقريب تَتْفُلِ2
كأَنَّ على المتنين منه إذا انتحى
…
مَدَاكَ عَرُوس أَوْ صَرايَة حَنْظَل3
كأنّ دماءَ الهاديات بِنَحْرِهِ
…
عصارةُ حِنَّاءٍ بشَيْب مُرَجَّلِ4
فقد تراكمت التشبيهات في هذا الوصف وظهر فيها ضرب من التركيز والإيجاز، وارجع إلى قوله في البيت الأول:"قَيْد الأوابد" فقد كان القدماء يعجبون بهذه الكلمة إذ عبرت في إيجاز بالغ عن سرعة الفرس وحدته في الجري والنشاط؛ فهو قيد الأوابد كلما أرادها قَيَّدها، ولم تستطع إفلاتًا منه ولا فرارًا. وهذا الإيجاز البالغ يدل على مجهود عنيف كان يقوم به امرؤ القيس حتى يُلقي عن شعره كل إطناب فيه. ونحن لا نرتاب في أنه تعب تعبًا شديدًا قبل أن يجد هذه الكلمة الدقيقة التي تعبر عن تلك الصورة الواسعة. وحقًّا إن مثل تلك الكلمة لا يباع في الأسواق؛ بل لا بد للشاعر من مهارة خاصة حتى يستطيع أن يوفق إلى الكلمة التي ينشدها، وتلك مقدرة الشعراء الممتازين التي بها يتفاضلون. ويستمر امرؤ القيس في وصف هذا القيد؛ فإذا هو كالصخر في صلابته، وإذا شيء لا يستطيع أن يثب عليه لسرعته؛ بل كل شيء ينزلق عنه كما تنزلق الصخرة عن المطر أو كما ينزلق عنها من يريد شأوها. وهو يغلي ويجيش لازدياد عَدْوه وتوقد نشاطه. هو فرس سريع لا تقف سرعته عند حد معقول؛ فهو يصبُّ العَدْوَ صَبًّا، لا يثير نقعًا ولا غبارًا، وما أشبهه بالخروف في شدة دورانه وسرعة حركاته وهو يدور في يد الصبية دورانًا يُسْمَعُ له حفيف شديد.
1 درير: سريع، وخذروف الوليد: دوارة يلعب بها الصبيان، أمره: دوره وحركه، خيط موصل: وصلت أجزاؤه بعضها ببعض.
2 أيطلا الظبي: خاصرتاه، وإرخاء السرحان: جري الذئب، والتتفل: الثعلب، وتقريبه: جريه قفزًا ووثبًا.
3 انتحى: جدّ في سيره، والمداك: حجر يسحق عليه الطيب، وجعله مداك عروس لأنها تستعمله كثيرًا، فيشتد بريقه ولمعانه، والصراية: الحنظلة الصفراء البراقة.
4 الهاديات: أوائل الوحش. شبه حمرة دم الوحش بصدر هذا الفرس بحمرة الخضاب على الشيب. مرجل. مسرح.