الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الأولى:
حاولت في هذا الكتاب أن أضع للشعر العربي مذاهب فنية تفسر تطوره في عصوره وأقاليمه المختلفة، وقد صادفني مشكلتان أساسيتان، وهما: كيف أرتب هذا الركام الهائل من الشعر والشعراء الذي يمتد من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث؟ ثم أي المصطلحات أتخذها للدلالة على مذاهب الشعراء ومناهجهم الفنية؟ ورأيت أن أنحاز عن هذا الخليط المضطرب من الألفاظ الغربية التي نقلها بعض نقادنا المحدثين من مثل "كلاسيك" و "رومانتيك" ونحوهما؛ فإن من الصعب أن نحمل أدبنا على مذاهب الأدب الغربي، وهو لا يمت إليه بوشائج تاريخية ولا فنية، وذهبت أبحث في الشعر العربي وموجاته المتعاقبة؛ فلم أجد فيه تجديدًا واسعًا، بل رأيته يستمر في أغلب جوانبه بصورة واحدة؛ فدائمًا مديح وهجاء وفخر ووصف وغزل. وجعلني ذلك ألتفت إلى حقيقة مهمة، وهي أن التطور في شعرنا العربي إنما كان في الصناعة نفسها، أي في الفن الخالص وما يرتبط به من مصطلحات وتقاليد. حينئذ رأيت أن أضع له مذاهب على أساس صناعته والفن فيه.
ونظرت في النقد العربي القديم، فإذا النقاد يقسمون الشعراء قسمين كبيرين: قسمًا سموه أصحاب الطبع، وقسمًا سموه أصحاب الصنعة. أما الأولون فهم الذين يسيرون وفق عمود الشعر الموروث، فلا ينمقون ولا يتأنقون ولا يتكلفون ولا يُغْربون. وأما الأخيرون فهم الذين كانوا ينحرفون عن هذا العمود إلى التنميق والتأنق، أو إلى الإغراب والتكلف. ورأيت أن هذا التقسيم لا يقوم على أساس صحيح، وما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن؟ إن كل شعر متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع.
وهل هناك شعر لا يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه وموضوعاته ومعانيه؟ إن من يرجع إلى العصر الجاهلي يجد الشعر خاضعًا لتقاليد ورسوم كثيرة يتوارثها الشعراء؛ سواء في ألفاظه ومعانيه، أم في أوزانه وقوافيه، بحيث لا يستطيع مطلقًا أن يذعن لفكرة الطبع وما يُطوى فيها من أن الشعر فطرة وإلهام؛ فقد كان الجاهليون يصنعون شعرهم صناعة ويعملونه عملًا، وهم في أثناء هذه الصناعة والعمل يخضعون لمصطلحات ورسوم كثيرة.
ونحن لا ننكر أن الشعر في الأصل موهبة؛ غير أن هذه الموهبة لا تلبث أن تتحول عند صاحبها إلى ممارسة ودراسة طويلة لتقاليد ومصطلحات موروثة في تاريخ الفن، وهو يتقيد بهذه التقاليد والمصطلحات فيما يصنعه ويعمله تقيدًا شديدًا. وكان العرب القدماء أنفسهم يسمون شعرهم صناعة، ويصفونه بأوصاف الصناعات، وكذلك كان الشأن عند اليونان وعند الأمم الحديثة جميعًا؛ ومن أجل ذلك كان النقاد في الأمم الغربية يقرنون الشعر إلى النحت والتصوير والرقص والموسيقى؛ فمثله مثل هذه الأعمال الفنية يقوم على جهد وكدح. وهذا كله دفعني إلى أن أرفض فكرة تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، حتى في العصر الجاهلي، إذ كان الشعراء جميعًا أصحاب صنعة وجهد وتكلف؛ فقد حدثنا الرواة أن منهم من كان ينظم القصيدة في حول كامل. وليس من شك في أن من يتابع الشاعر الجاهلي يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يقبل على صناعته إقبال الصانع على حرفته؛ فهو يوفر فيها رسومًا وتقاليد كثيرة، وهذا نفسه هو الذي جعلني أتخذ كلمة الصنعة التي استخدمها النقاد القدماء للدلالة على أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي، واتخذت زهيرًا رمزًا لهذا المذهب، ووصفت فنه في شعره ووضحت ما يرتبط به في صناعته من قواعد وتقاليد. واستمرت صورة هذا المذهب عند زهير مسيطرة مع ضعف بهذه الصورة من الفن والصناعة الشعرَ الغنائِيَّ الخالص الذي كان يصحب بالعزف والضرب على الأدوات الموسيقية من العصر الجاهلي إلى العصر
العباسي، فإن أصحابه لا يخرون به -عادة- إلى زخرف وتنميق.
ولما انتقلت إلى العصر العباسي وجدت صناعة الشعر التقليدي شعر المديح والهجاء ترقى وتتحضر؛ فقد دارت عجلة الزمن، وانتقل صانع الشعر من البادية إلى المدينة، ودخلت في الشعر العربي في أثناء ذلك عناصر جديدة من الحضارة والجنس والثقافة، وكان المذهب القديم مذهب زهير أو مذهب الصنعة والصانعين قائمًا؛ بينما ظهر بجانبه مذهب جديد كان يعتمد على الزخرف والزينة؛ فالشعر -في رأي أصحابه- حَلْيٌ وترصيع وبديع. ومَثَّلَ هذا المذهب الجيد في القرنين الثالث والثالث مسلم بن الوليد، ثم أبو تمام وابن المعتز؛ بينما مَثَّلَ المذهب القديم بشار وأبو نواس ثم البحتري وابن الرومي. ولما خرجت إلى القرن الرابع رأيت مذهبًا جديدًا يعم فن الشعر وصناعته، وهو مذهب كان يقوم على إعادة الصور المطروقة والمعاني الموروثة بأساليب من اللف والدوران وإتيان المعنى من بعيد، ثم يحاول الشاعر بعد ذلك أن يضيف تعقيدًا إلى أساليب الزخرفة والتنميق السابقة أو يضيف تعبيرات وتراكيب شاذة من نحو غريب، أو تشيع، أو تصوف، أو تفلسف، وما لبث أبو العلاء أن أوفى بهذا المذهب إلى غايته من التعقيد الشديد في لغته وأوزانه وما كان يتصنع له من لوازم مختلفة عرضنا لها في موضعها من هذا الكتاب.
تردَّدتُ ماذا أسمي هذين المذهبين العباسيين بالقياس إلى مذهب الصنعة القديم؟ وأخيرًا رأيت أن أسميهما على التعاقب باسم مذهبي التَّصنيع والتصنُّع. والتصنيع في اللغة الزخرف والتنميق. أما التصنع فهو التطرف في التكلف وما ينطوي في ذلك من تعمّل وتعقيد، وكان قد بدا لي أن أسمي هذه المذاهب على الترتيب بأسماء الصنعة والزخرف والتعقيد؛ ولكني آثرت التسمية الأولى لأن تشابك الألفاظ فيها يدل على حقيقة دقيقة، وهي أن المذاهب الفنية في صناعة الشعر العربي لا يفترق بعضها عن بعض مفارق واسعة في المعاني والموضوعات والأوزان والقوافي؛ إنما تستقر مفارقها في الصياغة والأسلوب.
هذه هي المراحل التي مر بها الفن أو مرت بها الصناعة في شعرنا العربي.
فقد بدأ بمذهب الصنعة، ثم انتقل إلى مذهب التصنيع، ثم انتهى أخيرًا إلى مذهب التصنع. وجَمد الشعراء عند هذه المذاهب ولم يتجاوزوها إلى مذهب جديد. وكأنما جفَّت منابع القوة الدافعة التي كانت تُحدث المذاهب في الشعر والفن. وبحثت هذه المذاهب في الأندلس ومصر؛ فإذا شخصية مصر أتم وضوحًا في تاريخ الشعر العربي من شخصية الأندلس على نحو ما سيراه القارئ في فصلها الخاص.
وأنا لا أنكر أنه صادفني جوانبُ ماكرة خلال تأليف هذا الكتاب لاتساع الموضوع وتشعبه؛ فقد حاولت أن أرسم صورة واضحة لمذاهب الشعر العربي من أقدم عصوره إلى العصر الحديث، واضطرني ذلك إلى استخدام طائفة من المصطلحات اتخذتها لتؤدي وصف هذه المذاهب، وهي موضوعة في ثنايا الكتاب بين أقواس صغيرة.
وهذه الدراسة المستفيضة لفن الشعر وصناعته عند العرب، ولما مر به من أطوار وأحداث في عصوره وأقاليمه المختلفة جعلتني أتصل بمراجع كثيرة من دواوين الشعراء وما كتبه نقاد العرب عن فن الشعر عندهم وصناعته، وكذلك رجعت إلى كل ما وجدته يتصل بالشعر والشعراء من كتب أدب عامة أو كتب تاريخية وجغرافية، ورجعت أيضًا إلى طائفة من كتب المستشرقين وكتب النقد الأدبي الحديثة عند الغربيين. وإني لأعترف بأن كتبنا القديمة غنية غنى وافرًا بالنصوص التي تفسر ظروف الحياة الفنية تفسيرًا وافيًا. وأنا لا أزعم أني كشفت عن جميع جوانب الفن والصناعة في مذاهب الشعر العربي ومناهجه؛ وإنما حاولت ذلك ودللت عليه، غير منكر ما قد يكون في هذا البحث الجديد من إثارة إبهام أو غموض. وعلى الله قصد السبيل.
القاهرة في 17 من أبريل سنة 1943 شوقي ضيف