الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في تلك العصور لم تعد حياة نشيطة، وكأنما أصابها شيء من العطل، فلم تعد تتعاقب فيها مذاهب فنية، بل تجمدت عند المذاهب القديمة، وكل ما يصنعه الشعراء أنهم يقلدونها على تلك الصورة المختلطة التي رأيناها، فهم ينقلون النماذج العباسية ويحاكونها بدون أن يعرفوا شيئًا عن تاريخها وما بينها من فواصل.
5-
الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:
لم يستطع شعراء الأندلس أن يحدثوا مذهبًا فنيًّا جديدًا في الشعر العربي؛ فقد جمدوا غالبًا عند التقليد والصَّوغ على نماذج المشرق، وحقًّا أن الأندلس عاشت في ترف أحدث عندها اهتمامًا بشعر الطبيعة، كما أحدث عندها نهضة واسعة في الغناء وما يطوي من الموشحات والأزجال؛ غير أن صنيعهم في هذه الجوانب اقتصر على الشكل، ولم يتجاوزه إلى الصياغة العقلية والشعورية، فكل ما لهم في شعر الطبيعة إنما هو الكثرة، أما أفكارهم وأما طرقهم في الوصف ومناهجهم فكل ذلك يستعيرونه من المشرق استعارة وينقلونه نقلًا، وحتى ما نجده عندهم أحيانًا من التشخيص وبعث الشعور في الطبيعة قد تأثروا فيه العباسيين من أمثال أبي تمام وابن الرومي. ولعل الغناء وما تبعه من موشحات وأزجال هو الجانب الطريف في دراسة الشعر الأندلسي فقد سارعت الأندلس إلى العناية بالآداب الشعبية، ولكن ينبغي أيضًا أن لا نبالغ في ذلك، فإن هذه العناية لم تُحدث كما نقول تغييرًا في صياغة التفكير الفني عند الأندلسيين، إنما كل ما هناك أنهم يتخلصون من التقيد بالوزن، كما يتخلصون من التقيد بالقافية الواحدة وهذا كل ما عندهم من تجديد وهو تجديد شكلي اضطرتهم إليه ظروف الغناء، وحقًّا هم قد جددوا كثيرًا في الأوزان، ولكنا عرفنا في غير هذا الموضع أنهم سبقوا بذلك، سبقهم العباسيون إذ أوشكوا أن يغيروا صورة "الرُّقم الموسيقية" القديمة تغييرًا تامًّا، وإذن لا يبقى للأندلسيين في موشحاتهم سوى التجديد في القافية، وهو
ضرب من الحرية في صناعة المقطوعة، أوجدته ظروف إنشاد المغنِّين مع الجوقات للشعر، ونحن لا يمكن أن نعتد بهذا الجانب كمذهب جديد في الشعر العربي؛ إلا إذا كنا ممن يؤمنون بالشكليات ويتخذونها أصولًا للمذاهب الفنية.
والحق أن شخصية الأندلس في الشعر العربي لم تكن قوية، ومع ذلك فإنها استطاعت أن تحدث شيئًا جديدًا في الشعر إلى حد ما يتجاوب مع بيئتها وما كان فيها من ترف ولذة ونعيم، وهو هذه الموشحات والأزجال التي تعبر عن موجة واسعة من الغناء والموسيقى، وقد نشأت هذه الموجة مع زرياب وغيره من مغني المشرق1 ومغنياته من أمثال فضل وعلم وقلم وقمر والعجفاء2. فشاع الغناء وشاعت الموسيقى وكثر المغنون والمغنيات وظهرت الجوقات المختلفة، واتصل ذلك كله بالشعب وأعياده، بل يظهر أنه اتصل بحياته دائمًا في عيد وغير عيد، حتى لنجد التجيبي يقول: "كنت بمدينة مالقة من بلاد الأندلس سنة ست وأربعمائة؛ فاعتللت بها مديدة انقطعت فيها عن التصرف ولزمت المنزل، وكان يمرضني حينئذ رفيقان كانا معي، يلمان من شعثي ويرفقان بي، وكنت إذا جن الليل اشتدَّ سهري وخفقَتْ حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية، واختلطت الأصوات بالغناء فكان ذلك شديدًا علي، وزائدًا في قلقي وتألمي؛ فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعًا وتكره تلك الأصوات جبلَّة وأود لو أجد مسكنًا لا أسمع فيه شيئًا من ذلك ويتعذر علي وجوده لغلبة ذلك الشأن على أهل تلك الناحية وكثرته عندهم"3، ويستمر التجيبي فيصف لنا حفلًا غنائيًّا رآه في بستان لدار كبيرة، وقد اصطفَّ شَرْب ونحو من عشرين رجلًا وبين أيديهم شراب وفاكهة وجوارٍ قيام بعيدان وطنابير وآلات لهوٍ ومزامير وجارية جالسة تضرب على عودها.
وتحت تأثير هذه الموجة العنيفة من الغناء والموسيقى والجوقات وبتأثيرات مختلفة من البيئة المحلية ازدهرت الموشحات، "وكان المخترع لها مقدم بن معافى القبري
1 نفح الطيب 2/ 853.
2 نفح الطيب 2/ 758.
3 المختار من شعر بشار وشرحه: للتجيبي ص14.
من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المريَّة، وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهر يقول: كل الوشاحين عيالٌ على عبادة القزَّاز فيما اتفق له من قوله:
بدر تم شمس ضحى
…
غصنُ نقا مسك شمّ
ما أتم ما أوضحا
…
ما أورقا ما أنم
لا جرمْ من لمحا
…
قد عشقا قد حُرِم"1
وذكر ابن بسام أن الموشحات القديمة كان أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة وأنهم كانوا يبنونها على مركز من اللفظ العامي والعجمي. ولعل في هذا ما يشير في صراحة إلى أن الموشحات فن أندلسي محلي وإن كنا لا نؤمن بأنها نشأت من المزاوجة بين الشعر العربي وضروب من الأغاني الشعبية الأندلسية، كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين من المستشرقين؛ إنما نؤمن بأنها تطور تمَّ هناك للمسمطات والمخمسات التي عرفت منذ العصر العباسي الأول. ويقول ابن بسام أيضًا: إن الموشحات القديمة لم يكن فيها تضمين ولا أغصان؛ فلما جاء الرمادي أكثر من التضمين في المراكز ثم جاء عبادة بن ماء السماء فاعتمد مواقع الوقف في الأغصان يضمنها2. وإذن فالأغصان وأوقافها وتضمين مواقع الأوقاف كل ذلك قد عرف عند عبادة بن ماء السماء كما عرفت المراكز من قبله، وكأني به هو الذي انتهى بالموشحات إلى صورتها الأخيرة. واشتهر من بعده في عصر ملوك الطوائف ابن أرفع رأسه، شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، ثم جاءت الحلبة التي كانت في مدة الملثَّمين، وأشهرهم التُّطيلي صاحب الموشحة المشهورة:
ضاحكٌ عن جمان سافرٌ عن بدرِ
…
ضاق عنه الزمان وحواهُ صدري
آه مما أجدْ
…
شفَّني ما أجدْ
1 مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص436.
2 الذخيرة: لابن بسام 2/ 2.
قام بي وقعد
…
باطش متئد
كلما قلت قد
…
قال لي أين قد
وتتكرر هذه الصورة عادة في الموشحة خمس مرات أو سبعًا، ومهما يكن فقد انتشر الغناء وانتشرت معه هذه الموشحات وأجاد الشعراء فيها إجادة بالغة، واستمر ذلك في دولة الموحدين واشتهر فيها ابن زُهْر صاحب الموشحة التي تنسب إلى ابن المعتز، وقد عرضنا لها في غير هذا الموضع. وما زالت الأندلس تعنى بهذه الموشحات حتى العصور المتأخر؛ إذ نجد ابن سهل صاحب الموشحة المشهورة.
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى
…
قلبَ صبٍّ حلَّه عن مكنسِ
فهو في نارٍ وخفقٍ مثلما
…
لعبت ريح الصبا بالقبسِ
وقد نسج على منواله لسان الدين بن الخطيب في موشحته المعروفة:
جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى
…
يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ
لم يكن وصلك إلا حلما
…
في الكرى أو خلسةَ المختلسِ
وكان يعاصره ابن زمرك، وهو يشتهر بوصفه الصباح في موشحاته حتى لتكون عنده الصبحيات مجموعة طريفة من الموشحات، ومن قوله في مطلع إحداها:
كحلُ الدُّجى يجري
…
من مقلةِ الفجر
على الصباح
وعمَّت هذه الموشحات وانتشرت من المغرب إلى المشرق؛ ولكنها كما قلنا لم تحدث مذهبًا جديدًا في الشعر العربي؛ لأنها لم تغير في دلالته وصياغته العقلية والشعورية؛ إنما وقفت عند الصياغة الموسيقية. على أن النقاد لم يهتموا بها لخروجها عن أعاريض شعر العرب1، وكأن هذا الجانب هو كل ما لفتهم فيها من تجديد.
"ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلامته وتنميق كلامه وتصريع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا على
1 الذخيرة 2/ 1
طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابًا واستحدثوا فنًّا سموه بالزجل، التزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد؛ فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قُزْمَان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم تظهر حلاها ولا انسبكت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين "توفي عام 555هـ". قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"1. وينبغي أن نلقى كلام ابن خلدون في نشأة الزَّجل وتأخر هذه النشأة عن نشأة فن التوشيح بشيء من الحذر؛ فقد رأينا الموشح نفسه يُبْنَى في أول أمره -كما يقول ابن بسام- على بعض الكلمات الأعجمية. فالمعقول أن يكون الزجل قد نشأ معه مباشرة، وربما سبقه. ويمكن أن نقول إنهما جميعًا فن واحد ذو شعبتين، شعبة تغلب عليها الفصاحة، وشعبة تغلب عليها العجمة. وذكر ابن قزمان في مقدمة ديوانه أن أشهر من سبقوه أخطل بن نمارة، وهو يبدأ مقدمته بقوله: "ولما اتسع في طريق الزجل باعي وانقادت لغريبه طباعي، وصارت الأئمة فيه خولي وأتباعي وحصلت منه على مقدار لم يحصله معي زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال، عندما أبنت أصوله، وتبينت منه فصوله، وصعبت على الأغلف الطبع وصوله، وصفيته عن العقد التي تشينه وسهلته حتى لَانَ ملمسه ورقَّ خشينه، وعريته من الإعراب والاصطلاحات تجريد السيف عن القراب". ونرى ابن قزمان يتلوَّم بعد ذلك الزجالين الذين سبقوه لما عندهم من "معانٍ باردة وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غير ماردة" ثم لما عندهم من "إعراب هو أقبح ما يكون في الزَّجل، وأثقل من إقبال الأجل"2 وكأن الزَّجل في نشأته كان أقرب إلى الموشحة منه إلى الصورة العامية الخالصة التي انتهى إليها عند ابن قزمان، وانتقل هذا الرجل -كما انتقلت الموشحات- إلى المشرق
1 مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص441.
2 انظر مقدمة ديوان ابن قزمان "مصورة" بمكتبة جامعة القاهرة.
واستخدمته الأقاليم في آدابها الشعبية.
والحق أن الموشحات والأزجال جميعًا لم تحدثا ثورة واسعة على الأوضاع القديمة في الصياغة الفنية للشعر الفصيح، وربما كان ذلك يرجع في بعض أسبابه إلى أن الأندلس لم تعرف التفكير العميق الدقيق، أو على الأقل لم يعرفه شعراؤها، ولذلك استمروا عند المحاكاة والتقليد، ولعله من أجل ذلك كنت لا تجد عندهم كتابًا قيمًا يعرض لشاعر بتحليل فنه وبيان منهجه، وأنت أيضًا قلما وجدت عندهم شاعرًا متفلسفًا يتخذ له منهجًا واضحًا في عمله؛ إنما هم ينقلون ويلفقون لا عن انتخاب بل كما يقع لهم، وكما يعلمهم أساتذتهم من المشارقة، وقد أخذوا يصنعون بالموشحات والأزجال ما صنعوه بقصائدهم من الخلط فيها بين صياغات مذاهب الصنعة والتصنيع والتصنع، وظلوا يستمدون في دلالالتها وصياغاتها من معين المشرق ومذاهبه الفنية.