الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:
ولد مسلم بن الوليد في الكوفة حوالي سنة 140 للهجرة، وكان أبوه من موالي الأنصار؛ إذ كان مولى لأسعد بن زُرَارَة الخزرجي1، وأغلب الظن أنه كان فارسيًّا، ويقال إنه كان حائكًا، وعني على ما يظهر بتربية أبنائه وتوجيههم إلى حلقات الدرس والأدب في بلدتهم، ونبغ له ابنان هما سليمان ومسلم، ويظهر أن سليمان كان أكبرهما وكان مكفوفًا، ويقال إنه كان يلزم بشار بن برد، ولذلك أتهم بالزندقة2. ونراه هو وأخاه في بغداد لعهد الرشيد، يطرقان أبواب البرامكة وكبار رجال الدولة وقادتها العظام من مثل يزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد3؛ فكانوا يبرونهما ويجزلون لهما في العطاء، ولم يعرف مسلم بزندقة كما عرف أخوه؛ وإنما عرف بإقباله على اللهو والطرب؛ فكان يجتمع بأبي نواس وطبقته مثل أبي الشيِّص4، ويقبل معهم على الخمر والمجون، ويقال إنه كان إذا كسب مالًا جمع أصحابه في بيته يأكل معهم ويشرب؛ حتى إذا لم يبق من كسبه سوى قوت شهر ظهر في الناس. واختياره منزله للهوه وطربه يدل على أنه كان فيه شيء من التوقر، وهو على كل حال لم يهبط إلى عبث أبي نواس والحسين بن الضحاك الخليع وأضرابهما؛ فقد كان يعرف لنفسه حقها من الكرامة، وكان يحتفظ بغير قليل من الوقار. وكان فيه فضل من حياء. ولعل ذلك ما صرفه أول الأمر عن الخلفاء؛ فكان يمدح من دونهم ولا يطمع في مديحهم. وما زال هذا شأنه حتى اشتهر في الأوساط الأدبية ومدح منصور بن يزيد الحميري؛ فوصل بينه وبين هارون الرشيد، وأصبح من شعرائه، ويقال إنه
1 انظر: ترجمته في الأغاني الملحقة بديوانه "نشر سامي الدهان" ص364 وما بعدها. وتاريخ بغداد: للخطيب البغدادي 13/ 96.
2 الحيوان: للجاحظ 4/ 195. ومعجم الأدباء: لياقوت "طبعة مصر" 11/ 255.
3 الديوان ص365.
4 طبقات الشعراء، ص72/ 207.
لما أنشده لاميته المشهورة فيه وبلغ قوله:
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا
…
وتغدو صريعَ الكأسِ والأعين النُّجل
قال له: أنت صريع الغواني؛ فسمِّى بذلك حتى صار لا يُعْرف إلا به1. وتدلنا أخباره على أن الرشيد كان يعجب به، وفي رأينا أن مصدر هذا الإعجاب لم يكن مديحه له فحسب؛ فقد وجده يشيد بقائده يزيد بن مزيد الشيباني حين قضى على ثورة الخوارج في عهده وكان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة، وبلغ من هذه الإشادة كل مبلغ؛ حتى جعله عز الخلافة.
إذا الخلافةُ عدَّت كنتَ أنت لها
…
عزًّا وكان بنو العباس حكامًا2
بل جعله سداد الملك العباسي وصمام أمانه في حروب الخوارج وعلى حافات الثغور، يقول3:
لولا يزيدُ لأضحى الملك مطرحًا
…
أو مائل السمك أو مسترخي الطُّول4
نابُ الإمامِ الذي يفترُّ عنه إذا
…
ما افترَّت الحربُ على أنيابها العصل5
وصادف ذلك هوى في نفس الرشيد؛ لأنه كان قد أخذ يفكر -على ما يظهر- في إعلاء كِفَّة العرب في شئون الحكم ومقاليده، وكان يرى الشعراء مزدحمين على أبواب يحيى البرمكي وولديه الفضل وجعفر وغيرهم من الفرس؛ فكان ذلك يقضَّ مضجعه، ويتساءل بينه وبين نفسه أين العرب؟! وكيف أرفع منهم أمام هؤلاء الذين استبدوا بي وملأ لهم الشعراء طرقات بغداد ثناء؛ فلما نظم مسلم مدائحه في يزيد نفَّس عن نفسه ووجد لها روحًا على قلبه. ويروي الرواة أنه أرسل يومًا إلى يزيد؛ فأتاه لابسًا سلاحه مستعدًّا لأمر إن أراده؛ فلما رآه ضحك وقال له: يا يزيد أخبرني من الذي يقول فيك:
تراه في الأمن في درع مضاعفة
…
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
لله من هاشم في أرضه جبل
…
وأنت وابنك رُكْنَا ذلك الجبل
1 طبقات الشعراء، ص235
2 الديوان ص67.
3 الديوان ص7.
4 مطرحًا: مخذولًا. وقد شبه في الشطر الثاني الملك بخيمة، لولا يزيد لَمَالَ عمودُها واسترخت حبالها.
5 يفتر عنه هنا: يكشر، والعصل: المعوجة، وهي أشد بأسًا من المستقيمة.
فقال له: لا أعرفه؛ فعجب الرشيد، وقال له: سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين؛ فرواه، ووصل قائله، وهو مسلم بن الوليد، وانصرف يزيد فدعا به ووصله1، وتوالت عليه عطاياه، ووالى مسلم مدائحه الرائعة فيه. وجذبه غير واحد من رجالات العرب فكان يقلدهم مدائحه، مثل داود بن زيد المهلبي وزيد بن مسلم الحنفي والحسن بن عمران الطائي ومنصور بن يزيد الحميري وابنه محمد. وظل وفيًّا للبرامكة؛ ولكن يزيد بن مزيد غلب عليهم كما غلب معه هؤلاء العرب الخلص. ونراه يمدح الأمين، حتى إذا تحوَّلت أزمة الخلافة إلى أخيه المأمون لزم الفضل بن سهل وزيره، وكانت قد تقدمت به السن، فعطف عليه الفضل وولاه بريد جرجان وقيل مظالمها، ولم يلبث هناك أن لبَّي نداء ربه سنة ثمانٍ ومائتين.
وأكثر شعر مسلم في مديح من سميناهم وله غزليات وخمريات قليلة، وهاجى ابن قنبر الشاعر، ولكن لا على طريقة الهجاء عند حماد عجرد وبشار، ولكن على طريقة الشعراء الأمويين، وما زال به حتى أفحمه وكف عن مناقضته2. ويقال إنه هجا يزيد بن مزيد، وربما ند ذلك منه حين تأخر عن عطائه، ووصل ذلك إلى مسامع الرشيد؛ فأحضره وهدده وقال له: "لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من فيك" فانتهى ولم يَعُدْ، ونعِم بعطاياه وعطايا الخليفة معًا، حتى إذا توفي رثاه رثاء حارًا.
ومسلم في شعره يعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار التقليدي، وما يرتبط به من جزالة الأسلوب ومتانته ورصانته ونصاعته وقوته، حتى في غزله وخمرياته؛ فإنه لا يهبط أبدا على نحو ما يهبط أبو نواس وأبو العتاهية إلى الأساليب اليومية، وحقًا مر بنا في الفصل السابق أن له قصيدتين من وزن مولد، ولعله جارى فيهما أصحاب مذهب الصنعة وتجديداتهم في البحور الشعرية، وهما على كل حال شذوذ في عمله، أما بعدهما فشعره يغلب أن يكون من الأوزان الطويلة حتى تتلاءم
1 انظر ترجمته في الأغاني الملحقة بالديوان ص367
2 انظر الأغاني "طبعة الساسي" 13/ 8- 11. وراجع ترجمته فيه المحلقة بالديوان.
مع ما يريد من جرس قوي، ومن ضخامة البناء في اللفظ والتعبير. وهو من هذه الناحية يعدُّ في طليعة من دفعوا الشعراء العباسيين إلى التمسك بالأسلوب الجزل المصقول؛ بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه فعلًا أول من دفع الشعراء في هذا الاتجاه؛ فقد كان الشعر العربي عند أبي نواس وأبي العتاهية على وشك أن يزايل هذا الأسلوب إلى الأسلوب الشعبي اليومي، فأمسك به مسلم دون هذه الغاية وردَّه في قوة إلى جزالته القديمة وجعلها مقومًا أساسيًّا من مقوماته، بل جعلها المقوم الأساسي الأول بين هذه المقومات. وعمَّ هذا الذوق لا عند خلفائه من أصحاب مذهب التصنيع مثل أبي تمام بل أيضًا عند أصحاب مذهب الصنعة وكبارهم خاصة، مثل البحتري. ولا تظن أن هذا الأسلوب الجزل القوي لم يكن يكلف مسلمًا مشقة؛ بل لقد كان يكلفه عناء أي عناء في اصطفاء اللفظ والملاءمة بين اللفظة واللفظة في الجرس، حتى يتم له ما يريد من ضخامة البناء وروعته. وهو بناء يقام على أعمدة هي الأبيات، وكل بيت كسابقه في الضبط والإحكام، وكل قصيدة بل كل مقطوعة كمثيلتها في هذا النمط الذي لا يتفاوت نسيجه، ومن أجل ذلك يختلف اختلافًا بينًا عن أبي نواس وأبي العتاهية، فشعرهما فيه القوي والضعيف، وفيه المتين والمهلهل، لسبب بسيط وهو أنهما من ذوق أصحاب الصنعة، لا يبعدان حين النظم في التكلف، بل كثيرًا ما يقولان الشعر بديهة وارتجالًا في غير تَروٍّ، أما مسلم فصاحب رَويَّة، لا يرتجل ولا يقول الشعر عفوًا؛ فالشعر عنده صناعة مجهدة، لا بد فيها من التريث والتمهل، ولا بد فيها من الصقل والتجويد، ولعل ذلك ما جعل ديوانه صغيرًا بالقياس إلى دواوين معاصريه من أمثال بشار وأبي نواس.
وهذا البناء الضخم عنده لا تكفي ضخامته وحدها في رأيه؛ فلا بد أن يضاف إليه الزخرف الجديد الذي كان يأتي على قلة في الشعر القديم، وأكثر منه بشار وخلفاؤه؛ ولكنهم لم يتخذوه مذهبا، أما مسلم فقد رأي أن يطبقه على شعره، واقرأ له القصيدة الأولى في ديوانه وهي في مديح يزيد بن مزيد، فستراه يستهل غزلها على هذا النحو:
أجْرِرْتُ حبلَ خليع في الصبا غزلِ
…
وشمرت همم العذال في العذلِ1
هاج البكاءُ على العينِ الطموحِ هوى
…
مفرقٌ بين توديعٍ ومُحْتَمَلِ2
كيف السُّلوُّ لقلب راح مختبلًا
…
يهذي بصاحب قلب غير مختبلِ
والجهد واضح في الأبيات سواء من حيث اختيار الألفاظ، أو من حيث إضافة زخارف الجناس والطباق؛ فهو يجانس بين العذال والعذل، وهو يطابق بين المختبل وغير المختبل، وفي البيت الثاني طباق دقيق بين الهوى المقسم بين التوديع والاحتمال أو الارتحال، فإن التوديع يتضمن الإقامة القليلة، وهو عكس الارتحال. ونمضي معه إلى المديح فنراه كله على هذا الطراز.
يغشى الوغى وشهابُ الموتِ في يديه
…
يرمي الفوارسَ والأبطال بالشعل3
يفترُّ عند افترار الحرب مبتسمًا
…
إذا تغيَّر وجه الفارسِ البطلِ
موف على مهجٍ، في يوم ذي رَهَجٍ
…
كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ4
ينالُ بالرفق ما يعيا الرجال به
…
كالموت مستعجلًا يأتي على مهلِ
لا يرحلُ الناسُ إلا نحو حجرتِه
…
كالبيتِ يفضي إلى ملتقى السُّبلِ
يقْرِي المنيةَ أرواح الكُمَاةِ كما
…
يقري الضيوف شحوم الكوم والبزلِ5
يكسو السيوفَ دماءَ الناكثين به
…
ويجعل الهامَ تيجانَ القنا الذُّبُلِ6
قد عوَّد الطيرَ عادات وثِقْن بها
…
فهن يتبعنه في كل مرتحلِ
وأنت تراه يعتمد على النحت وقوة البناء، كما يعتمد على الزخرف والتصنيع؛ حتى يصبغ هذا الديباج أو النسيج المتين بالألوان والأطياف. وانظر في البيت الأول فإنك تراه يستعير الشهاب للسيف، ويجعله شهاب الموت، وهو شهاب تسقط منه على الفوارس الأعداء الشعل فتحرقهم حرقًا لا يبقى ولا يذر. وحاول
1 أجررت حبل خليع: من قول العرب: أجررت البعير حبله إذا تركته يصنع ما يشاء.
2 محتَمَل: ارتحال، من احتمل القوم أي ارتحلوا.
3 الوغى: الحرب.
4 الرَّهَج: غبار الحرب.
5 يقري: يطعم. الكوم من الإبل: ضخمة الأسنمة، واحدتها كوماء. والبزل: جمع بازل وهو المسن الذي أكمل تسعة أعوام.
6 الهام: الرءوس، الذيل: الرقيقة القاتلة، والكماة: جمع كَمِي وهو الشجاع.
في البيت الثاني أن يأتي بلون آخر هو لون الجناس؛ فجانس بين يفتر وافترار، وأدخل في ذلك ضربًا من المشاكلة، فيزيد يفتر متبسمًا وتفتر الحرب عن أنيابها القاتلة الغلاظ. ولم يكتف بذلك في البيت؛ فقد أضاف فيه لونًا جديدًا هو لون الطباق؛ فطابق بين تغير الوجه وعبوسه وابتسام يزيد، وكل ذلك ليحقق لنموذجه ما يستطيع من زخارف الفن الجديدة. أما البيت الثالث فكان يعجب به إعجابًا شديدًا؛ لتألق لون الجناس فيه بين مهج ورهج، ثم بين أجل وأمل، ويروى أنه اجتمع بأبي العتاهية فقال له: والله لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمدُ والنعمةُ لك
…
والملكُ لا شريكَ لك
لَبَّيك إن الملكَ لك
لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت؛ ولكني أقول:
موفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهَجٍ
…
كأنه أجل يسعى إلى أمل1
فهو يحس إحساسًا دقيقًا بأنه يتناول حرفته بطريقة أخرى ليست هي طريقة الصانعين من أمثال أبي العتاهية؛ وإنما هي طريقة المصنعين التي ابتدأها والتي تجعل الشعر نحتًا وصقلًا وزخرفة وتنميقًا. وننتقل مع مسلم إلى بيته الرابع فنرى فيه طباقًا واضحًا بين الاستعجال والمهل وطباقًا دقيقًا بين النيل أو الأخذ بالرفق والأخذ مع الإعياء. ويصوغ في البيت الخامس صياغة جديدة بيت زهير في مديح هرم بن سنان2:
قد جعل المبتغون الخير في هرم
…
والسائلون إلى أبوابه طرقا
ويستمر فيتحدث عن قِرَى يزيد وضيافته وكرمه، ويجنح إلى المشاكلة؛ فيزيد له ضربان من القرى: ضرب في السلم كقرى الأجواد، وضرب آخر في الحرب؛ إذ يقري الموت أرواح الشجعان.
ونراه في البيت السابع يُطْرِف قارئه بصورة بارعة؛ إذ جعل يزيد يكسو السيوف بدماء أعدائه ويتوِّج القنا والرماح برءوسهم. وينتهي مسلم أخيرًا إلى فكرة عربية.
1 أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 27.
2 ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص49.
قديمة طالما رددها الشعراء من عهد بشر بن أبي خازم والنابغة، وهي فكرة الطير تتبع الممدوح في حِلِّه وترحاله لما تصيب من جثث أعدائه، ويحور مسلم الفكرة هذا التحوير الطريف؛ إذ يجعل الطير تتعود من صاحبه عادة تثق به فيها، وهي لذلك ما تزال تتبعه وتلاحقه من موضع إلى موضع.
ولعلك لاحظت في أثناء قراءة أبياته السالفة دقة تفكيره، وهي دقة كانت تفتح له أبوابًا من المعاني الخفية، التي تروِّع السامع بغرابتها وطرافتها من مثل قوله في الغزل1:
إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني
…
كأسًا ألذُّ بها من فيكِ تشفيني
عيناك راحي، وريحاني حديثُك لي
…
ولونُ خدَّيك لونُ الورد يكفيني
وقوله2:
يا واشيًا حسنت فينا إساءته
…
نجي حذارك إنساني من الغرق3
وقوله في الخمر4:
شققنا لها في الدَّنِّ عينًا فأسبلت
…
كألسنةِ الحيَّات خافت من القتلِ5
وقوله في الساقي6:
يسقيك بالألحاظِ كأسَ صبابةٍ
…
ويديرها من كفِّه جِرْيالا7
وقوله في المديح8:
فإن أَغْش قومًا بعدهم أو أَزُرْهم
…
فكالوحشِ يدنيها من الأنس المحلُ9
ويستمر مسلم في الديوان كله على هذا النمط؛ فزخارف الفكر واللفظ ما تزال تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض لتكون هذا الحلي البديع، وهو حلي يتداخل في بناء متماسك، يرفعه مسلم كما يرفع المثَّالون تماثيلهم؛ فكل جانب يفتقر إلى جهود واسعة وإلى مثابرة وصبر، وحقًا هو صاحب هذا المذهب من
1 الديوان ص343.
2 الديوان ص328.
3 إنسان العين: سوادها.
4 طبقات الشعراء، ص239. وانظر الديوان ص38.
5 أسبلت: سالت.
6 الديوان ص204.
7 الجريال: الخمر.
8 الديوان ص333.
9 المحل: الجدب.
التصنيع؛ فقد عاش ينميه، وحقق لنفسه منه نماذج بديعة، جعلت الشعراء من بعده تهوى أفئدتهم إلى محاكاته وتقليده؛ حتى أصحاب مذهب الصنعة أخذوا من بعض الوجوه يحاكونه ويقلدونه؛ لأنه البدع الجديد الذي كان يروع أوساط الأدباء والمثقفين. وليس معنى ذلك أن مذهب الصنعة انتهى وانقضى؛ فقد ظل المذهبان يتقابلان طوال القرن الثالث، ومَثَّل البحتري وابن الرومي مذهب الصنعة؛ غير أنهما عقَّدا فيه وفي أدواته بما استمدا من تلك الزخارف ووشيها الرائع. وأما مذهب التصنيع فمثَّله أبوتمام وابن المعتز، وقد عقَّدا فيه وفي زخارفه تعقيدًا شديدًا، يستوفي كل ما كان يحلم من تأنق وتنميق.