الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة ليست إلا الشرب والعزف وما يتبعهما من نساء بيض يتبخترن في الثياب الأنيقة المزركشة، يقول:
إن شِواءً ونشوةً
…
وَخَبَبَ البازل الأمُون1
يجشمها المرء في الهوى
…
مسافة الغائط البطين2
والبيض يرفلن كالدُّمى
…
ففي الرَّيْطِ والْمُذْهَبِ المصُون3
والكُشْرُ والخفض آمنًا
…
وشِرَع الْمِزْهَرُ الحنون4
من لذة العيش، والفتى
…
للدهر، وللدهر ذو فنون5
1 النشوة: السكر. الخبب: ضرب من السير. البازل: الناقة كاملة القوة. الأمون: الموثقة الخلق.
2 يجشمها المرء: يكلفها قطع المسافة الطويلة. في الهوى: فيما يهواه. الغائط: المطمئن من الأرض. البطين: الواسع.
3 البيض: النساء. يرفلن: يتبخترن. الريط: الملاءة الواسعة. المذهب المصون: الثياب الفاخرة المطرزة بالذهب.
4 الكثر: كثرة المال. الخفض: سعة العيش. شرع المزهر: أوتاره واحدها شرعة.
5 انظر التبريزي على الحماسة "طبع بولاق" 3/ 83.
2-
تعقد الغناء الجاهلي:
كان الشعر الجاهلي يرتبط بالغناء، وكان الشاعر يغني أشعاره، ويظهر أن الغناء القديم لم يقف عند هذه الظاهرة البسيطة؛ فقد أخذ يتعقد وأخذت تظهر فيه الجوقات، ولعل ما يثبت ذلك من بعض الوجوه ما يرويه الطبري والأغاني من أن هندًا بنت عُتْبة وجماعة من نساء قريش كنَّ يضربن على الدفوف في غزوة أحد، وكانت هند تغني في أثناء هذا العزف بمقطوعات، منها قولها1:
أن تُقبلوا نُعانقْ
…
وَنفْرِش النَّمارقْ
أو تُدْبِرُوا نفارقْ
…
فراقَ غيرِ وامقْ
1 أغاني "ساسي" 14/ 16 وانظر الطبرى "طبع أوربا" الجزء الثالث من المجلد الأول ص 1400.
الجوقات:
وليس من شك في أننا نرى هنا مظهرًا للجوقة من بعض الوجوه؛ فشاعرة تُغني شعرها وجوقة تضرب على غنائها بالدفوف. وكما كان يحدث ذلك في حربهم كان يحدث في سلمهم؛ في أعيادهم وأعراسهم وحفلاتهم المختلفة. رَوَى الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى مكة ذات يوم؛ فسمع عزفًا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه فعرف أنه عرس1، وذكر ابن رشيق أن القبيلة من العرب كانت ذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنَّأتها وصُنعت الأطعمة واجتمعت النساءُ يلعبن بالمزاهر2.
القيان:
ودخل هذه الجوقات العربية عنصرٌ أجنبي في أواخر العصر الجاهلي، حين اتصل العرب بغيرهم من الأمم الأجنبية، نقصد القيان اللائي شاع ذكرهن في الشعر القديم، ونحن نجدهن في كل مكان، نجدهن في الحيرة، وقد اشتهرت هناك بنت عَفْزر3، وكذلك خليدة وهريرة وهما قينتان لبشر بن عمرو بن مرثد، -وكانتا تغنيان النصب- قدم بهما إلى اليمامة لما طلبه النعمان4، ولعلهما هما اللتان يعنيهما بشر بقوله5:
وتبيت داجنةٌ تجاوب مثلها
…
خَوْدًا منعمَّة، وتضربُ مُعْتبا
وهريرة هي صاحبة الأعشى التي ذكرها في مطولته6. وعرفت هذه القيان في بلاط الغساسنة7، كما عرفن في المدينة ومكة، أما المدينة فيذكر صاحب الأغاني من أهلها أمروا إحدى القيان أن تغني النابغة بشعر له فيه إقواء8، وأما مكة فقد كان بها قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد
1 الطبري الجزء الثالث من المجلد الأول، ص1116.
2 العمدة 1/ 37.
3 أغاني "طبع دار الكتب" 11/ 96.
4 أغاني "طبع دار الكتب" 9/ 113.
5 المفضليات المجلد الأول، ص554.
6 أغاني "دار الكتب" 9/ 113.
7 أغاني "ساسي" 16/ 14.
8 أغاني "طبع دار الكتب" 11/ 10.
الفرس، وكانتا تغنيان الناس1، وفي الأغاني: أنه لما نصح أبو سفيان لقريش أن يرجعوا في غزوة بدر قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرى بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونُسقى الخمور وتَعزِفُ علينا القيان وتسمع بنا العرب2. وفي السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم فتح مكة بقتل شخص يسمى ابن خَطل كان مسلمًا ثم ارتدَّ وفر إلى مكة وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء النبي، تسمَّى إحداهما فَرْتنى، وقد أمر النبي بقتلهما، ففرت إحداهما وقتلت الأخرى3. وفي أخبار امرئ القيس أنه لما طرده أبوه: "كان يسير مع جماعة من شذاذ العرب؛ فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد قام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه، وشرب الخمر، وسقاهم، وغنته قيانه"4.
الرقص
ليس من شك في أن هذه الموجة الواسعة من الجوقات والقينات هي التي مهدت لأن يتعقد الغناء على هذه الصورة التي يصفها إسحاق الموصلي إذا يقول: "وغناء العرب قديمًا على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والفتيان وهو الذي يستعمل في المراثي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض؛ وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات؛ وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويُمْشَى بالدف والمزمار فَيُطرب ويستخف الحليم
…
هذا كان غناء العرب قديمًا حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم وتغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير"5، ونرى من هذا النص أن الغناء تعقد عند العرب في العصر الجاهلي؛ لا برقية إلى هذه الفنون التي ذكرها إسحاق فقط، بل أيضًا لما كان يقترن به من هذا الرقص الذي كان يَصْحَبُ
1 أغاني دار الكتب 8/ 327.
2 أغاني دار الكتب 4/ 183.
3 السيرة النبوية لابن هشام "طبعة الحلبي" 4/ 52.
4 أغاني دار الكتب 9/ 87.
5 العمدة لابن رشيق 2/ 241.