الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأوزان المجزوءة والمستحدثة، كما كان يميل إلى استخدام الشعر المسمى باسم "الدُّوبَيت" كقوله:
كم يذهب هذا العمر في خسران
…
ما أغفلني عنه وما أنساني
إن لم يكن اليوم فَلَاحِي فمتى
…
هل بعدك يا عمري عمر ثاني
وأخيرًا فإن له مقطوعة مزح فيها مع صديق مزحًا يجعلنا نذكر فكاهة العصر الفاطمي وإن لم يبلغ مبلغًا من الخفة؛ إذ يقول:
لك يا صديقي بغلةٌ
…
ليست تساوي خردلةْ
تمشي فتحسبُها العيو
…
نُ على الطريق مشكَّلةْ
وتخالُ مدبرةً إذا
…
ما أقبلت مستعجلةْ
مقدار خطوتِها الطويـ
…
لة -حين تسرعُ- أنْمُلَةْ
تهتزُّ وهي مكانها
…
فكأنما هي زلزلةْ
6-
المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:
إذا تركنا العصر الأيوبي إلى عصر المماليك وجدنا مصر تستعيد كثيرًا من بهجتها ومرحها في العصر الفاطمي؛ فقد عاد لها كثير من مكانتها القديمة في الشرق وخاصة بعد غارات التتار على العالم الإسلامي وانتقال الخليفة العباسي من بغداد إلى القاهرة؛ فقد أقبل معه العلماء والأدباء إليها حيث الظل الهنيء والعيش الرغيد. وكانت مصر في هذا العصر أهم بلد في العالم الإسلامي، فإن العراق والشام عمهما سيل التتار، وكانت الأندلس على وشك الاحتضار؛ لذلك لم يكن غريبًا أن نرى مصر في هذا العصر تصبح كعبة الإسلام وملجأ العروبة، بل هي الدنيا كلها كما يقول زين الدين الوردي1:
1 حلبة الكميت ص297.
ديارُ مصرَ هي الدنيا وساكنها
…
همُ الأنامُ فقابلها بتفضيلِ
يا من يباهي ببغداد ودجلتها
…
مصر مقدمةٌ والشرحُ للنيلِ
لذلك لم يكن غريبًا أن يسجل عصر المماليك صفحة زاهية في تاريخ مصر. وفي مساجدهم التي لا تزال قائمة تحت أبصارنا بالقاهرة ما يدل على مدى نهضتهم بالفن والعمارة وما تنطوي عليه من زخرف وجمال. وكما نهضوا بالعمارة نهضوا بالعلم والشعر، وكان منهم العلماء الممتازون كالملك المؤيَّد الذي يقول فيه ابن حجر:"كان معه إجازة بصحيح البخاري من شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني؛ فكانت لا تفارقه سفرًا ولا حضرًا"1، وغير الملك المؤيد إن لم يأخذ إجازة مثله فإنه كان يجلُّ العلماء ويكافئ الشعراء والأدباء. ونحن نعرف أنه ألفت في هذا العصر أكبر الكتب والمراجع في الأدب والتاريخ من مثل: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري وصبح الأعشى، ونهاية الأرب، وخطط المقريزي والسلوك. وإذا رجعنا إلى الشعر والشعراء وجدنا الدفعة الهنيئة من الفكاهة والدعابة التي سبق أن رأيناها في العصر الفاطمي تعود إلى هذا العصر، ومثَّل ابن دانيال في اللغة العامية هذه الدفعة بكتابه "طيف الخيال" وهو تمثيلية لطيفة، كما مثلها في اللغة العربية الجزار والحمَّامي وسراج الدين الورَّاق إذ كانت روحهم فكهة، وخاصة جزارهم، ولعل ذلك ما جعل ابن سعيد، وقد زار مصر في القرن السابع يقول2:
أسكان مصر جاور النيلُ أرضَكُم
…
فأكسبكم تلك الحلاوةَ في الشِّعرِ
وكان بتلك الأرضِ سحرٌ وما بقى
…
سوى أثرٍ يبدو على النظمِ والنثرِ
وفي اسمي الجزار والحمامي ما يدل على أن الشعر في هذه العصور أخذ يتصل بالشعب، فمن قبل رأينا في العصر الفاطمي ظافرًا الحداد شاعرًا، والآن
1 حسن المحاضرة: للسيوطي 2/ 89.
2 فوات الوفيات "الطبعة الأولى" 2/ 113.
نجد جزارًا وحماميًّا وأيضًا نجد خياطًا1. وكان ابن دانيال كحَّالًا. وكل ذلك معناه أن الشعر في مصر يسعى دائمًا إلى أن يكون شعبيًّا. وهناك جانب آخر من هذه الشعبية لعله كان أهم من الجانب السابق، وهو شيوع الأزجال في هذا العصر أكثر من العصور السابقة، وشاع معها النظم من الدوبيت والمواليا والكان وكان، كما شاع نوع يسمى البُلَّيق، وهو ضرب من الزجل الماجن، يقول ابن سعيد يصف هذه الأنواع وقد سمعها بمصر في هذا العصر:
"الدوبيت: يقول من أهل القاهرة كثير؛ ولكن المرضي قليل، ولم أسمع بها من شعرائه أحسن مما أنشدنيه لنفسه الزكي بن أبي الأصبع:
قبَّلتُ ثنايا كجمان العقدِ
…
منه وعدَلْت عن نضارِ الخدِّ
ناداني ماذا؛ فقلت طبع عربي
…
يشتاق أقاح الرَّوض دون الوردِ
الكان وكان: كنت راكبًا مرة في خليج القاهرة فمررت على منظرة وجارية تغني:
استنبهتْ وأنبهتني
…
قالت حبيبي كم تنامْ
وسمعت الذين يطوفون بالجمَّيز على هذا الخليج يغنون:
السودُ مسك وعنبرْ
…
والسُّمْرُ قضبانُ الذَّهب
والبيضُ ثوبٌ دبيق
…
ما يحتمل تَمْعيك
البُلَّيْق: أظرف من كان في هذه الطريقة بالقاهرة في عصرنا القادوس، وله الزجل المليح المشهور الطائر في الآفاق بجناح الاستحسان "المليح قلبي عليه يخفق
…
" ولا نطيل بذكر هذا الزجل فليرجع إليه من شاء في كتاب المغرب2. ويقول ابن سعيد في موضع آخر، إنه رأى جماعة يصنعون البليق بالفسطاط، ويقول إنه على طريقة الزجل الأندلسي، وإن أهم صناعه بالفسطاط
1 انظر المغرب ص293.
2 المغرب "النسخة الخطية بدار الكتب" انظر القسم الثاني الورقة 49.
ساكن البليقي، ويروى له قطعة يعف القلم عن ذكرها لما فيها من فحش، وقد بدأها بقوله:
بسِّي من الدين الثاني
…
نرجع لديني الحقاني
على أنه ينبغي أن نعرف أن هذه الأنواع كانت تمتلئ بفنون البديع من جناس وتورية وما إليهما كهذا الدوبيت وفيه تورية وتهكم بقاضي يأخذ الرشوة1:
في مصر من القضاةِ قاضٍ ولهْ
…
في أكلِ مواريثِ اليتامى ولهْ
إن رمت عدالة فقل مجتهدًا
…
من عدَّ له دراهمًا عَدَّلَهْ
أما المواليا فقد كان أشهر أصحابها -كما يقول ابن حجة- أبا بكر بن العجمي فإنه كان إمام فنونها المتشعبة. وساق ابن حجة له مثالًا منها، وهو قوله2:
للحبِّ قالوا مُعَنَّاك الذي إذ بلتو
…
جدلو بقبله فقلبوا فيك خبِّلتو
فقال أقسمْ لو أن البوس سَبِّلتو
…
ومات، للشرق مادِرْتُو وقَبِّلْتو
وفي هذه المواليا جناس معكوس واضح، وفيها أيضًا تورية في كلمة قبلتو. وإذا كانت هذه الفنون قد تسربت إلى الشعر الشعبي فلأنها كانت عامة في الشعر العربي حينئذ، وكان يعم معها فيه أيضًا التصنع لمصطلحات العلوم، وخاصة مصطلحات النحو والحديث والتاريخ والبديع والعروض كقول الجزار3:
كفُّهُ زمزمٌ تفيضُ على العا
…
فين جودًا والمالُ فيه الحطيمُ
هو أولى بالرفع إن أعربَ الدَّهـ
…
رُ وعُمْرُ العدا به مجزومُ
عارفٌ بالبديعِ لم يخفَ عنه النـ
…
قصُ منا يومًا ولا التتميمُ
ويجيز الإيطاء في الجود لكنْ
…
شابنا نحن في المديح اللزومُ
1 خزانة الأدب: للحموى ص22.
2 خزانة الأدب ص35.
3 المغرب ص308.
ومع ذلك فالجزار كان أخف شعراء العصر روحًا وميلًا إلى المداعبة، ونحن نقف قليلًا عنده وعند ابن نباتة لنتبين هذا العصر في نور أعم وأوضح.
الْجَزَّارُ:
"الشاعر المفتنُّ جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم، المصري المولد والوفاة، والمعروف بالجزار الشاعر المشهور، أحد فحول الشعراء في زمانه. وكان من محاسن الدنيا، وله نوادر مستظرفة ومداعبات ومقارضات مع شعراء عصره، وله ديوان شعر كبير. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: "لم يكن في عصره من يقاربه في جودة النظم غير السراج الوراق، وهو كان فارس تلك الْحَلْبة، ومنه أخذوا وعلى نمطه نسجوا، ومن مادته استمدوا"1، وتوفي الجزار عام 679 للهجرة. ويقول صاحب مسالك الأبصار فيه: "قال الشعر وهو صغير أول ما احتلم، وطاف بأركان بيت له واستلم"2. وقد ترجم له صاحب المغرب ترجمة طويلة أفاض فيها في وصف جوده وما لحقه هو نفسه من هذا الجود، وهو يبدأ ترجمته على هذا النمط: "الجمال أبو الحسين الجزار هو يحيى بن عبد العظيم ختمت به شعراء الفسطاط ليكون الختام بمسك، وكان بينهم في هذا العصر بمنزلة الواسطة من السلك، وكان أبوه وأقاربه جزارين بالفسطاط، دكاكينهم بها إلى الآن، قد عاينتها وأبصرته معهم بها، وكان في أول أمره قصابًا مثل أبيه وقومه، فحام على الأدب مدة وأكثر حوله من حَوْمه، فرفعت له في القريض راية. ولم يزل ذلك دأبه في بلده، حتى أخذ علو الطبقة بيده، فصار العلم الذي إليه الإشارة بين الجميع، وأصبح جوَّالا في آفاق الديار المصرية، حتى صار له في أقطارها عدة رسوم يجتمع له فيها ما لا يحصله في هذا العصر أحد من أهل المنظوم"3. ونرى من هذا النص الطويل أنه نشأ بين ساطور ووضم؛ غير أن هذه النشأة لم تعقه عن أن يحتل مكانة رفيعة بين
1 النجوم الزاهرة 7/ 345.
2 مسالك الأبصار 12/ 3. المغرب ص296.
شعراء عصره، ويظهر أنه كان ينتجع الولاة في دمياط والمحلة والإسكندرية، كما يتبين من القطعة التي رواها ابن سعيد، وكانت -كما يقول- له عليهم وعلى غيرهم رسوم كثيرة. ومن يقرأ ما رواه ابن سعيد من شعره يلاحظ أنه كان يكثر فيه من التصنع للعلوم، كالمثال الذي مر سابقًا. وكان يتصنع بجانب ذلك للاقتباس من القرآن الكريم كقوله1:
أرى الإسكندرية ذات حسنٍ
…
بديعٍ ما عليه من مَزِيدِ
حلَلَت بظاهرٍ منها كأنِّي
…
حلَلَتُ هناك جنَّات الخلودِ
فلا بئرٌ معطلة وكم قد
…
رأيتُ هناك من قصرٍ مشيدِ
وبإزاء ذلك نراه يكثر في شعره من ألوان الجناس والطباق، وكان يعنى عناية خاصة بالتورية ولا سيما باسمه، وكذلك كان يقلده الحمامي وسراج الدين الوراق في التورية باسميهما2. ويظهر أن الجزار كان خفيف الروح جدًّا فشعره مليء بالفكاهات والدعابات التي تعبر عن هذا الجانب في عصره، وأنه كان عصر تنادر وتفكه؛ فمن ذلك قوله في نِصْفيَّة3:
لي نصفيةٌ تعدُّ من العُمْـ
…
ر سنينًا غسَلْتُها ألفَ غسلةْ
ظلَمَتْها الأيامُ حكمًا فأضْحَتْ
…
في العذابِ الأليمِ من غيرِ زَلَّةْ
كلَّ يوم يحوطُها العصرُ والدَّ
…
قُّ مرارًا وما تقر بجملة
فهي تعتلُّ كلما غسلوها
…
ويزيل النِّشاءُ تلك العلَّة
أين عيشي بها القديمُ وذاك التِّـ
…
يهُ فيها وخطرتي والشَّملةْ
حيث لا في أجنابها رقعةٌ قـ
…
طُّ ولا في أكمامها قطُّ وصلةْ
قال لي الناس حين أطنبتُ فيها
…
بسِّ أكثرت خَلَّها فهي بقلةْ
ويصف دارًا له متهدمة فيقول4:
1 المغرب ص312.
2 المغرب ص316، وانظر خزانة الأدب: للحموي ص244 وما بعدها فقد جاء فيها بفصول طويلة من تورياته وتوريات صاحبيه.
3 المغرب ص304.
4 خزانة الأدب ص251.
ودار خراب بها قد نزلتُ
…
ولكن نزلت إلى السابعةْ
فلا فرقَ ما بين أني أكون
…
بها أو أكون على القارعةْ1
تساورها هفوات النسيم
…
فتُصغي بلا أذنٍ سامعةْ
وأخشى بها أن أقيم الصلاةَ
…
فتسجد حيطانها الراكعةْ
إذا ما قرأتُ "إذا زلزلتْ"
…
حشيت بأن تقرأ "الواقعةْ"
وواضح ما في هذه الفكاهات من توريات. واستمع إليه يقول في أبيه وقد تزوج بعد هرمه وشيخوخته2:
تزوج الشيخُ أبي شيخةً
…
ليس لها عقلٌ ولا ذهنُ
لو برزت صورتُها في الدُّجى
…
ما جسرت تبصرها الجنُّ
كأنها في فرشها رمةً
…
وشعرُها من حولها قطنُ
وقائلٍ قال فما سنُّها
…
فقلت ما في فمِها سنُّ
وما أطراف قوله في بخيل3:
لا يستطيع يرى رغيـ
…
فًا عنده في البيت يكسَرُ
فلو أنه صلَّى وحاشاه
…
لقال الخبزُ أكبرُ
وواضح ما في هذه الفكاهات من ميل الجزار إلى الأساليب العامية؛ فهو يستعير منها بعض الألفاظ، ولكنه على كل حال لم يسقط في شعره، فقد استمر يعنى بأسلوبه، وظل على هذا النمط السابق يخلط فيه بين ألوان التصنيع والتصنع كما هي عادة الشعراء في تلك العصور.
ابْنُ نَبَاتَةَ:
جمال الدين محمد بن نباتة ينتهي نسبه إلى ابن نباتة الخطيب المشهور في عصر سيف الدولة، وقد ولد كما حدَّث هو عن نفسه4 بمصر في أواخر القرن
1 القاهرة: أعلى الطريق.
2 خزانة الأدب ص249.
3 المغرب ص318.
4 انظر: خزانة الأدب ص291.
السابع ونشأ بها، وتركها إلى الشام؛ حيث خدم هناك في دواوين الإنشاء، ثم رجع في آخر حياته إلى مصر حوالي عام 760 للهجرة واستمر بها حتى توفي عام 768. ويظهر من شعره أن حظه كان كئيبًا، ولذلك أكثر من ألمه وشكواه من شقائه وبؤسه، وجعله هذا اللون في حياته لا يعبر عن فكاهة أو دعابة إلا ما كان من تصنعه للتورية. على أنها عنده تصبح ثقيلة بالرغم من إكثاره منها؛ لأن مزاجه لم يكن يساعد عليها، ولذلك قلما نقع له على تورية خفيفة، وربما كان أجمل ما جاء عنده من تورية قوله لمن طلق زوجًا له تسمى دنيًا:
ظلمت دنياك وطلَّقْتها
…
فرُحْتُ لا دنيا ولا آخرة
وقوله:
ومولعٍ بفخاخٍ
…
يمدُّها وشباكِ
قالتْ ليَ العين ماذا
…
يصيد قلتُ كَراكي
وقوله، وفيه اكتفاء واضح:
فأقطفُ من أوراقه الأدبَ الذي
…
وأسمعُ من ألفاظِهِ اللغة التي
وكان يكثر من هذا الاكتفاء في شعره، كما كان يكثر من الاقتباس من القرآن الكريم كقوله:
سألت قلبي عن ذوي العشقِ وعنْ
…
ما أوتيتهُ من فنونِ الحسنِ مَي
فقال لي: "إني وجدت امرأة
…
تملكُهُم وأوتيتْ من كلِّ شيء"
أما الشعر فقد كان يكثر من تضمين أبياته القديمة والعباسية في أشعاره، وهناك قصيدة في ديوانه ضمنها شطور معلقة امرئ القيس، وقد بدأها على هذا النحو:
فَطَمْتُ ولائي ثم أقبلتُ عاتبًا
…
"أفاطمُ مهلًا بعض هذا التَّدَلُّلِ"
واستمر على هذا النمط. وتعلق في شعره بالتضمين للمتنبي كثيرًا، فتارة نراه ينقل شطورًا من أبياته، وتارة ينقل أبياتًا برمتها، وتارة ثالثة يتصنع لقصيدة