الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمسك بأهداف شاذ أو حَمْل على نادر فعن غير جهل كان منه ولا قصور عن اختيار الوجه الأعرف له"1. ولكن ابن جني يترك الظاهرة من غير تعليل، وتعليلها ما كررناه كثيرًا من أن المتنبي كان يتصنع لمثل هذه الأشياء في شعره، حتى يستحوذ على إعجاب المثقفين من حوله.
ولعل القارئ لاحظ أن هذه هي المرة الأولى التي نصادف فيها شاعرًا عباسيًّا يتصنع في شعره تصنعًا نحويًّا؛ فمن قبله لم يكن الشعراء يكلفون أنفسهم الوقوف على المذاهب النحوية ومعرفة ما بينها من خلاف، ولم يكونوا يتعمقون دراسة النحو على هذه الصورة التي رأيناها عند المتنبي، وإن هم تعمقوا في ذلك فإنهم ما كانوا يتصنعون له في شعرهم، أما المتنبي فإنه كان يحرص على التصنع له، حتى يستولي على أذهان اللغويين والنحويين فإذا هو يفجؤهم بمثل قوله السابق:
نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ
…
كَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ
وإذا هم مضطربون في التأويل والتفسير؛ فكيف عدّى الفعل "ضايق" باللام، وهو متعدٍ من غير لام، وما هذا الارتباك الغريب في تعبيره الذي يحسه الإنسان ولا يستطيع وصفه؟ إنه الارتباك يريده المتنبي إرادة؛ فإذا هو يفصل الفعل من المفعول ويعدِّيه باللام حتى يحدث ما يريد من خلل وتشويش، وأصل التعبير: نحن من ضايقه الزمان فيك. وكأن المتنبي لا يرى طرافة في تعبيره فيعمد إلى هذه الطرافة النحوية، ويخرجه هذا الإخراج المشوش حتى يحدث له الضجيج النحوي الذي كان يريده.
1 "ذكرى أبي الطيب" ص358.
8-
تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:
هذا الجانب من الانحراف في أسلوب المتنبي يجعلنا نلتفت إلى ظاهرة مهمة حدثت في الحركة الإيقاعية لموسيقى الشعر في أثناء هذه العصور؛ فقد رأينا شعراء
القرنين الثاني والثالث يصفُّون شعرهم تصفية شديدة حتى يحدثوا به نوعًا من الاتساع في التعبير، وحتى يشاكلوا بين الأصوات ومعانيها مشاكلة دقيقة، واتخذنا البحتري رمزًا لهذه العناية البالغة بتجاوب النبرات في الشعر، وكيف أنه أحدث في الموسيقى مرونة غريبة بملاءمته الدقيقة بين الكلمات والحركات والسكنات ملاءمة نُظِّمت في نسق فني بديع؛ ولكنا لا نصل إلى القرن الرابع حتى تحتبس هذه الموسيقى الإيقاعية للشعر في صناديق من التعقيدات في القافية على نحو ما سنرى عند المعري، أو في النغمات الداخلية نفسها كما نرى الآن عند المتنبي؛ إذ اعتمد على هذه الشواذ النحوية يحدث بها ما يريد من الخلل والتشويش في موسيقى الشعر وإيقاعاته.
ولعل في هذا ما يكشف مرة أخرى عما أصاب الفن العربي في هذه العصور من تعقيدات غريبة؛ فقد رأينا الشعراء في الفصل السابق يعقدون في الألوان القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا جديدًا، أو يحللوا لونًا إلى أصباغه؛ إلا ما جاءهم من التعقيد في الوسائل، وكأن الحياة العربية كلها تصبح مجموعة من التعقيدات، فيعقد المهلبي في وسائل طعامه وملاعقه كما يعقد الشعراء في الجناسات والاستعارات، وكما يعقد المتنبي الآن في نبرات الشعر ونغماته.
وهذا الخلل الموسيقى عند المتنبي يجعلنا نذكر خللًا مماثلًا من بعض الوجوه في الموسيقى الحديثة؛ إذ نرى الفنون تتعقد ويظهر المذهب الرمزي في الشعر والتصوير، كما تظهر طائفة من الموسيقيين على رأسها رافل "ravel" تحاول أن تبعث حركة جديدة في فنها وكأنما يعجزها التجديد الصريح المستقيم، فتلجأ إلى إحداث نغمات شاذة في "الرُّقُم الموسيقية" تخالف مألوف "البسيكولوجي" والعادة، حتى تستحوذ على إعجاب الناس بالخروج على الطرق الموروثة. وهو خروج كخروج المتنبي يحدثه الموسيقيون في السمع بصنع نغمات غير مألوفة، نغمات ناشزة، يقصدون إليها قصدا ويعمدون إليها عمدًا. وكان المتنبي يحدث في موسيقى شعره ما يماثل هذه النغمات الناشزة من بعض الوجوه؛ إذ ملأه بفنون من الانحرافات والشذوذات، وقد فتح ابن هشام في كتابه المغني فصلًا استعرض فيه
طرفًا من صيغها وصورها، وانظر إلى قوله الذي سبق أن أنشدناه:
وَفاؤُكُما كَالرِّبعِ أَشجاهُ طاسِمُه
…
بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه
فقد قدم في البيت وأخَّر حتى أحدث الخلل المقصود، وإنه لخلل غريب يكشف جانبًا من المهنة عند شعراء القرن الرابع؛ إذ كانوا يلجئون إلى مثل هذا الارتباك في ترتيب ألفاظ البيت فيحدثون هذا الخلل الذي يمكن أن نسمي موسيقاه باسم "الموسيقى ذات النشاز" وانظر إلى هذا البيت المذكور آنفًا:
قَلَقُ المَليحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتكُها
…
وَمَسيرُها في اللَّيلِ وَهيَ ذُكاءُ
فقد أحدث المتنبي ارتباكًا موسيقيًّا في الشطرين، ويظهر ذلك من الرجوع إلى النحو، فإن الشطر الأول يتكون هكذا: مبتدأ- حال- خبر، أما الشطر الثاني فيتكون هكذا: مبتدأ- ظرف- حال، وحذف الخبر للعلم به، أي أن مسيرها في الليل هتك لها. أرأيت كيف استطاع المتنبي بثقافته النحوية أن يحدث هذه الموسيقى الجديدة الغريبة؟ إن هذا هو بدع القرن الرابع إذ يعمد الشعراء إلى التعقيد في شعرهم فنونًا من التعقيدات، وهي تعقيدات لا تلائم أذواقنا؛ ولكنها كانت تلائم أذواق الفنانين في هذه العصور.
والحق أننا لا نصل إلى المتنبي حتى نحس بتصنع شديد في الشعر يتناول تعبيراته كما يتناول توقيعاته، فما يزال الشاعر يعدل إلى انحرافات موسيقية أو ثقافية، وما من شك في أننا لا نعجب بهذه الحال التي صار إليها الشعر. وليس معنى ذلك أننا نمنع الشاعر من البحث عن وسائل جديدة في التعبير والتوقيع بل نحن نرى ذلك ضروريًّا للإفصاح عن حوادثنا الوجدانية التي تتطور وتتغير وتتحول دائمًا وهي في كل حال من تطورها وتغيرها وتحولها محتاجة إلى وسائل جديدة في التعبير عن هذه الأوضاع المختلفة، وكان المتنبي يجدد في هذه الوسائل؛ ولكنه لم يعتمد في ذلك على الأساليب الفنية نفسها بل راح يقترض من بيئته المتشيعة والمتصوفة والمتفلسفة أفكارًا وألفاظًا لا عهد للشعر ولا للفن بها، وليست مما تلائم طبيعته، بل لقد بالغ فذهب إلى بيئة اللُّغويين والنحويين يستمد منها