الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهزج ويُمْشَى عليه بالدف والمزمار، ألسنا نرى هنا الجوقة تامة؟ قد يظن أن الرقص يحتاج إلى حضارة ومدنية؛ ولكن تاريخه لا يشهد بذلك، فالرقص غريزة في الناس جميعًا، وقد وُجد عند جميع الشعوب، فهو لا يحتاج في نشأته إلى حضارة ومدنية، إنما هو حركات جسمية تحدث بصياح وضجيج وتصفيق بالأيدي وضرب بالأرجل.
ومن يرجع إلى مدلول الكلمات التي عبر العرب بها عن الغناء يجد بعضها يدل على ضروب من الحركات الجسمية كما يدل على ضروب من الشعر؛ فالهزج الذي يذكره إسحق الموصلي يطلق على نوع من الغناء كما يطلق على نوع من الحركة الجسمية السريعة1. ومثله الرَّمَل وكانوا يطلقونه على من يهز منكبيه ويسرع في حركته، كما كانوا يطلقونه على الشعر الذي يوصف باضطراب البناء والنقصان2. وفي ذلك ما يدل على اقتران الغناء بالرقص من جهة، وما يدل على اقتران الرقص بالشعر من جهة أخرى.
1 لسان العرب: مادة هزج.
2 لسان العرب: مادة رمل.
3-
مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:
وُجِدَ الشعر العربي القديم في ظروف مقاربة للظروف التي وجد فيها الشعر الغنائي عند اليونان، فقد كان الشاعر يُغَنِّي شعره، وقد يوقِّع هذا الغناء على بعض الآلات الموسيقية، كما قد يُصْحَبُ غناؤه بجوقة ترقص وتعزف في أثنائه.
ونحن لا نزعم أن صورة الشعر الغنائي اليوناني المعقدة قد استوت جميعها للشعر العربي إنما نزعم أنه وجد في صورة مقاربة لها، كما تشهد تلك النصوص الكثيرة السابقة؛ فهو شعر غنائي وجد في ظروف مقاربة لها، كما تشهد تلك النصوص الكثيرة السابقة، فهو شعر غنائي وجد في ظروف غنائية، ولكن ينبغي ألا ننسى ما قررناه في الفصل السابق من أن هذا الشعر الغنائي استقلت عنه فروع منذ أواخر العصر الجاهلي سميناها بالشعر التقليدي.
على كل حال نَبَعَ الشعر العربي من منابع غنائية موسيقية، وقد بقيت فيه
مظاهر الغناء والموسيقى واضحة، لعل القافية أهم تلك المظاهر؛ فإنها واضحة الصلة بضربات المغنين وإيقاعات الراقصين. إنها بقية العزف القديم وإنها لتعيد للأذن تصفيق الأيدي وقرع الطبول ونقر الدفوف كما تعيد ذلك شاراتٌ أخرى للغناء نجدها في الشعر القديم منها هذا التصريع الذي نجده في مطالع القصائد، كقول امرئ القيس في مفتتح مطولته:
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
…
بِسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ1
وعاد إلى التصريع مرة أخرى فقال:
أفاطمُ مهلًا بعض هذا التدللِ
…
وإن كنتِ قد أزمعت صَرْمي فأجْمِلِي2
ثم صرع ثالثة فقال:
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ
…
بصُبْح وما الإصباحُ منكَ بأَمْثَلِ
وكأني بهذا التصريع كان يأتي به الشاعر حين ينتهي من غناء قطعة من قصيدته أو إنشادها، وينتقل إلى أخرى، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتهم يفزعون إليه حين ينتقلون من موضوع إلى موضوع في النموذج الفني. واقرأ هذه القطعة من معلقة لبيد:
عَفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامُها
…
بمنىً تأبدَ غَولُهَا فَرِجَامُهَا3
فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّيَ رسْمُهَا
…
خَلقًا كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها4
وجَلا السيُولُ عن الطلول كأنها
…
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أقلامُها5
دِمَنٌ تجرَّمَ بعد عهد أنيسها
…
حِجَجٌ خَلَوْنَ حلالها وحرامُها6
1 السقط: متقطع الرمل. اللوى: حيث يلتوى يدق. الدخول وحومل: موضعان.
2 الصرم: القطيعة.
3 عفت: امحت ودرست، المحل: حيث يحل القوم من الديار، المقام: المجلس حيث يجتمع أبناء الحي. ومنى والغول والرجام: مواضع بحمى ضرية، وتأبد: توحش وأقفر.
4 مدافع الريان: المدافع: مجاري المياه، الريان: وادي بالحمى المذكور. الرسم: آثار الديار، خلقًا: بلى وعفاء. الوحي: الكتابة، والسلام: حجارة بيض رقيقة.
5 وجلا السيول عن الطلول: يريد أنها كشفت التراب عن الأطلال، والزبر: الكتب، تجد: تجدد.
6 الدمن: آثار الديار، تجرم: مضى، حجج: سنون، خلون: مضين، وحلالها وحرامها، يريد أشهرها الحرم وغير الحرم.
رُزِقَت مَرابيعَ النُجومِ وَصابَها
…
وَدقُ الرَواعِدِ جَودُها فَرِهامُها1
مِن كُلِّ سارِيَةٍ وَغادٍ مُدجِنٍ
…
وَعَشيَّةٍ مُتَجاوِبٍ إِرزامُها2
فَعَلا فُروعُ الأَيهُقانِ وَأَطفَلَت
…
بِالجَهلَتَينِ ظِبائُها وَنَعامُها3
ونلاحظ أنه شاكل في أحوال كثيرة بين الكلمتين الأخيرتين في البيت كأنه يجعل له قافيتين "قافية داخلية" و "قافية خارجية". ولم يدفعه إلى ذلك إلا أنه يريد أن يرتفع بالصوت في مقطعين متقاربين، وهو لذلك يخرجه هذا الإخراج المنظم المقطع تقطيعًا صوتيًّا دقيقًا. وكثر هذا "التقطيع الصوتي" في الشعر القديم؛ فمن ذلك قول امرئ القيس يصف فرسه في معلقته:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا
…
كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
ويقول طرفة في مطولته:
بَطيء عَنِ الجُلَّى سَريعٍ إِلى الخَنا
…
ذَليل بِإجماعِ الرِجالِ مُلَهَّدِ4
وروى قدامة في "نقد الشعر" كثيرًا من مثل هذه الأبيات التي تنثر في الشعر القديم نثرًا5، والتي لا شك في أن الغناء هو الذي دفع إلى صنعها حتى يوفروا للشعر قيمًا صوتية تساعد على تلحينه والترنم به.
على أن موسيقى الشعر الجاهلي تأثرت بالغناء من طريق آخر هو طريق الرُّقُم الموسيقية "MUSICAL NOTES" ما حدث فيها من تعديل وتجزئة. وهو جانب يمكن أن يعتبر مقدمة لما سنراه يحدث في أثناء العصر الإسلامي في أوزان الشعر ورُقُمه الموسيقية من انحرافات، وقد يكون من الغريب أن نرى أبا العلاء يذهب إلى أن جمهور أشعار الجاهلية يأتي من الطويل والبسيط، وما يليهما من الوافر والكامل ثم يقول: "أما الأوزان القصار فإنما عرفت في العصر الإسلامي
1 مرابيع النجوم: أوائل الأمطار، وصابها: مطرها وجادها، الودق: المطر. والجود: الغزير، والرهام: القليل والنزر.
2 السارية: السحابة تسير بالليل، والغادي: السحاب يسير بالغداة. ومدجن: مظلم، الإرزام: صوت الرعد.
3 الأيهقان: نبت، أطفلت: أصبحت ذات أطفال. الجلهتين: موضع.
4 الجلي: الأمر العظيم. الخنا: الفحش. ملهد: مدفوع.
5 نقد الشعر: لقدامة، طبع مصر ص24.
في أشعار المكيين والمدنيين من أمثال عمر بن أبي ربيعة، وكذلك عدي بن زيد في القدماء؛ لأنه كان من سكان المدر بالحيرة"1.
وقد ذهب أبو العلاء إلى التعميم أكثر مما ينبغي؛ فإن الأوزان القصار عرفت في العصر الجاهلي لا عند سكان المدر فقط بل عند سكان الوبر أيضًا، وبخاصة في أبواب الرثاء والغزل والحماسة والحداء، أما الرثاء فقد شاع عند العرب القدماء نوع يشبه "التعديد" الذي نعرفه في مصر؛ إذ روى صاحب الأغاني أحاديث كثيرة عن الخنساء ونُواحها على أخويها وأنها كانت تخرج إلى عكاظ تندبهما، وذكر أن هندًا بنت عتبة كانت تحتذي على مثالها وتنوح أباها2 واقترن هذا النواح أو هذا "التعديد" بضرب من الشعر القصير، لعل خير ما يمثله قطعة أم السُّلَيك: وهي من مشطور المديد؛ إذ تقول3:
طاف يبغي نجوةً
…
من هلاك فهلكْ
ليت شعري ضَلَّةً
…
أيّ شيء قَتَلَكْ
أمريضٌ لم تعد
…
أم عدوّ خَتَلَكْ
وتستمر القطعة على هذا النمط القصير. وأما الغزل فلعله أقرب موضوعات الشعر الجاهلي إلى الغناء والرقص عليه، وخير ما يمثله قطعة المنخَّل اليشكري، وهي من مرفَّل الكامل إذ يقول4:
ولقد دخلت على الفتا
…
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تَرْ
…
فل في الدِّمَقْسِ وفي الحرير
وتمضي المقطوعة على هذه الشاكلة. وأما الحماسة؛ فقد عرفنا أنهم كانوا يغنون أشعارهم في الحرب ويوم الخصام، واقترن هذا الغناء بضرب من الأشعار القصيرة كقطعة الفِنْد الزِّمَّاني في حرب البسوس إن صح أنها له، وهي من الهزج، إذ يقول5:
صفحنا عن بني ذُهْلٍ
…
وقلنا القوم إخوانُ
1 الفصول والغايات ص212.
2 أغاني "دار الكتب" 4/ 210.
3 التبريزي على الحماسة 2/ 191.
4 التبريزي 2/ 45.
5 التبريزي 1/ 11.
عسى الأيامُ أن يرجعْـ
…
ـنَ قومًا كالذي كانوا
وتستمر المقطوعة على هذا الطراز القصير.
وأما الحداء فيظهر أنه كان غناء شعبيًّا عامًّا للعرب في العصر الجاهلي يغنون به إبلهم في مسيرهم ورحيلهم، واقترن به وزن خاص معروف هو وزن الرجز، ونحن نلاحظ أن هذا الوزن لم يكن خاصًّا بالحداء؛ بل كان يستخدم أيضًا في السَّقْي من الآبار، كما كان يستخدم في الحماسة والحروب، وجعله ذلك الاستخدام الواسع ينفصل من بقية الأوزان القديمة بضروب كثيرة من التجزئة والتعديل في صورة "رقيمه الموسيقى" لعل أهمها المشطور والمنهوك، أما المشطور فهو الذي بني على شطر واحد، وأما المنهوك فهو الذي ذهب منه أربعة أجزاء، ومن أمثلته قول دريد بن الصمة يوم هوازن1:
يا ليتني فيها جذعْ
…
أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
ولعل هذا الجانب من التعديل في الرجز وما أصابه من كثرة "التحريف" حتى خرج كثير من أمثلته عن أن يُضْبَطَ ويعيَّن بوزن خاص هو الذي دفع الخليل إلى أن يرفضه فلا يعده من الشعر2. وليس من شك في أنه شعر، وغاية ما في الأمر أنه كان يقترن بضروب كثيرة من الغناء في الحماسة والحروب والسقي من الآبار، كما كان يقترن بالْحُداء، فكثر الحذف فيه وكثرت التجزئة والاضطراب.
ومهما يكن فإن الشعر الجاهلي نشأ في ظروف غنائية، وتركت هذه الظروف آثارًا مختلفة فيه، بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته وبعضها نراه في تلك الأوزان القصار التي أثرتْ عن العصر الجاهلي، والتي ليس من شك في أنها ظهرت تحت تأثير الغناء.
1 أغاني "دار الكتب" 10/ 31.
والجذع: الشاب من الإبل. والخبب والوضع: ضربان من السير.
2 انظر باب الرجز في العمدة لابن رشيق.