الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من قصائده، فينقل منها جميع شطورها. وكما كان يتعلق بالتضمين كان يتعلق بمعارضة القصائد الماضية؛ فتارة نراه يعارض كعب بن زهير في مديحه للنبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة لامية على نمط قصيدة، يقول فيها:
ما يمسك الْهُدْبُ دمعي حين أذكركم
…
ألا كما يمسك الماءَ الغرابيلُ
وتارة نراه يعارض المتنبي، وأخرى يعارض ابن النبيه فقد عارض قصيدته المعروفة:
يا ساكني السفحِ كم عينٍ بكم سفَحَتْ
…
نزحتُم فهي بعد البُعدِ ما نزحتْ
إلا أنه لم يأت معها بطائل1، وتعلق مع هذه المعارضات بالتصنع لاصطلاحات العلوم كقوله:
بلواحظٍ يرفعن جفنًا كاسرًا
…
فيُثِرنَ في الأحشاءِ همًّا ناصبا
كما تعلق بصنع الألغاز وهي كثيرة في ديوانه. ومهما يكن فإن روحه ليست خفيفة في شعره، ولذلك يبدو لنا كل ما فيه من تلفيق. وما من شك في أن الجزار تمثِّل روحه مصر في هذه العصور أكثر مما تمثلها روح ابن نباتة، وربما كان ذلك يرجع إلى أنه لم يعش فيها طويلًا وأنه كان تعسًا في حياته شقيًّا، وأيضًا فإنه -كما يبدو من شرحه لرسالة ابن زيدون في كتابه المسمى "سرح العيون"- كان عالِمًا، فبدت في شعره روح العلماء المتزمتين الذين لا يعجبون كثيرًا بالفكاهات والدعابات.
1 خزانة الأدب: للحموي ص5.
7-
العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:
ويدخل العصر العثماني وتدخل مصر معه في ظلام قاتم؛ فقد تحولت من دولة بل إمبراطورية مستقلة إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية، وليت الأمر وقف عند ذلك، فقد
سلبها سليمٌ فاتحها خير ما فيها من ثروة علمية وفنية؛ إذ أخذ معه كثيرًا من التحف والكتب، كما أخذ معه كثيرًا من الأدباء والعلماء والمهندسين وأصحاب الصناعات الفنية الذين يصنعون أدوات الترف، وانكمشت مصر ولم يعد لها صلة إلا بالقسطنطينية، وهي صلة تقف عند خلع وَالٍ أو بيان مظلمة، صلة التابع بالمتبوع، وأعوز مصر في هذا العصر العثماني الولاةُ والحكام الذين يعنون بالحركة العلمية والأدبية، فانطفأت المصابيح التي كانت مشتعلة في العصور السابقة.
ولا نستطيع أن نقول إن الشعر انعدم في العصر العثماني؛ فقد كان موجودًا، ولكنه وجود خير منه العدم؛ إذ اقتصر الأمر على جماعة يقرءون بعض القصائد الموروثة وخاصة التي كانت قريبة من عصورهم، ثم يعارضونها أو يخمسونها أو يربِّعونها، فيأتون بنماذج لا روح فيها ولا جمال، إنما هي تقليد ركيك ضعيف، ومن أين تأتيها الروح أو يأتيها الجمال وهي تصدر عن نفوس مجدبة، لا تستطيع أن تصنع شيئًا إلا أن تجتر القديم هذا الاجترار الذي يحيله إلى مربَّعات ومخمَّسات في أساليب واهية ضعيفة. وليس من شك في أن الشعراء كانوا يحتالون على ألوان البديع يملئون بها شعرهم، ولكنا نحس أن هذه الألوان أصبحت باهتة في أيديهم؛ إذ فقدت مقدرتها القديمة على التلوين والتعبير. ولعل أهم شاعر ظهر في هذا العصر هو الشهاب الخفاجي، وقد ترجم لنفسه في آخر كتابه: ريحانة الألبَّا، وترجم له المحبّي1 وحكى شيئًا من أشعاره، وهي تدل على ما نقوله من ضعف الروح الأدبية في هذا العصر، وما أصاب الحياة الفنية من عقم وجمود، وكذلك الشأن في عبد الحليم العباسي صاحب كتاب "معاهد التنصيص" فقد ترجم له الشهاب الخفاجي2، وشعره غثٌّ، وهو يدلُّ بدوره على إجداب الحياة الفنية في هذا العصر؛ فقد أسفَّ الشعر، ولم يعد من الممكن أن يعود إلى الارتفاع، والتحليق في أجواء الفن العليا، إلا إذا قدِّمت إليه مجهودات شاقة،
1 خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: للمحبي 1/ 331.
2 انظر: ريحانة الألبا ص248.
وكأنما جفت في هذا العصر كل الينابيع الممكنة التي كانت تمد الشعر بأسباب الحياة؛ فشاعت فيه الألفاظ العامية والتركية، ويحسُّ الإنسان كأنما أصيبت الأداة الفنية التي رأيناها في العصور السابقة بعطل شديد، فقد عمَّ الظلام وعمت الكآبة، ولم يعد هناك إلا جو خانق يشمل كل شيء، وكأني بالمصريين أصبحوا لا يستطيعون التنفس؛ فضلًا عن أن يحيوا حياة فنية فيها فن وشعور وفيها حياة وجمال.