الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحو ما نعرف الآن في حلقات الذكر. يقول:
تزيّوا بالتَّصوف عن خداعٍ
…
فهل زُرْتَ الرِّجالَ أو اعتميت1
وقاموا في تواجدهم فداروا
…
كأنهم ثمالٌ من كُمَيتِ2
ويقول أيضًا:
تستروا بأمورٍ في ديانتِهم
…
وإنما دينُهم دينُ الزناديقِ
نكذبُ العقلَ في تصديقِ كاذبِهِم
…
والعقلُ أولى بإكرامٍ وتصديقِ
وهكذا استمر أبو العلاء يرى الدنيا هذه الرؤيا السوداء، وتجمعت ظلمات كثيرة من حوله بعضها فوق بعض؛ فالدنيا آلام وعذاب ونكبات ونوائب، بل هي شر مستطير يجب أن نتخلص منه فنخرج من هذا العالم الموحش المظلم، ونستريح من متاعبه وآلامه:
حياتي تعذيبٌ وموتي راحةٌ
…
وكل ابنِ أنثى في التُّرَابِ سجينُ
ولا شك في أن أبا العلاء بتشاؤمه وسخطه على الدنيا والناس من حوله يثير في أنفسنا ضروبًا من الشفقة عليه؛ إذ كان يتجرع الحياة غصص خالصة. ولو أنه أخذ نفسه بالرضا والتسليم فاقتنع بحظه وحظ الناس من حوله، وما في دنيانا من نصب وعذاب لاستراح وأوى إلى ظل ظليل، ولكنه لم يرضَ ولم يسلِّم ولم يقتنع فسعر نفسه وأودى بها في هذا الجحيم المظلم من الإحساس بالشقاء والتعاسة وما ينطوي فيهما من تشاؤم شديد، وظل في هذا الجحيم يصارع الناس ويصارع الحياة حتى صرعته.
1 راز: اختبر، اعتمى: اختار.
2 الكميت: الخمر. ثمال: سكارى.
4-
اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:
من يقرأ اللزوميات ويتتبع سيرة أبي العلاء يرى أنه كان يسلك منهجًا واضحًا في معيشته وعقله وتفكيره؛ فهو يبدأ فيقيد لذائذه، ويحدد نفسه بقوانين
صارمة في مطعمه وملبسه، إذا كان يختار خشن الثياب والطعام، وقص ذلك في شعره فقال إن طعامه العدس والتين أو كما يسميهما البُلسَن والبلَس فهما يقنعانه، وهما غذاؤه في حياته، وهو غذاء يجد فيه راحته النفسية؛ لأنه غذاء زاهد متقشف يرفض لذائذ الحياة وما ينطوي فيها من لذائذ الطعام:
يقنعني بلسن يمارس لي
…
فإن أتتني حلاوة فبلس
فَلُسَّ ما اخترت أن أروحَ من
…
يسارِ قارونَ عفَّةٌ وفَلَس1
ويقول الرحالة ناصر خسرو -وقد مر بالمعرة في حياة أبي العلاء: إنه "تزهد فلبس بسيطًا ولزم بيته وقوتُهُ نصفُ مَنٍّ مِنْ خبز الشعير"2. ويقول القفطي: "لم يكن أبو العلاء من ذوي الأحوال في الدنيا؛ وإنما خلف له وقف يشاركه فيه غيره من قومه، وكانت له نفس تشرف عن تحمل المنن فمشى حاله على قدر الموجود، فاقتضى ذاك خشن الملبوس والمأكل والزهد في ملاذ الدنيا، وكان الذي يحصل له في السنة مقدار ثلاثين دينارًا، قدر منها لمن يخدمه النصف وأبقى النصف الآخر لمئونته؛ فكان أكله العدس-إذا أكل- مطبوخًا، وحلاوته التين، ولباسه خشن الثياب من القطن، وفرشه من لباد في الشتاء وحصيرة من البردي في الصيف، وترك ما سوى ذلك"3.
وكل هذا يدل على أن أبا العلاء كان يأخذ نفسه بحياة خشنة زاهدة، ولعل ذلك ما جعله ينفر من مديح الرؤساء طلبًا للجوائز والمكافآت. يقول في مقدمة سقط الزند: ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد ولا مدحت طلبًا للثواب؛ وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السُّوس، فالحمد لله الذي ستر بغُفَّة4 من قوام العيش، ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوَفْر". فهو لا يمدح طلبًا للنوال، وماذا يفيده النوال؟ لقد رفض كل شيء وعاش عيشة الكفاف والزهد، وكان يصنع ذلك عن عمد وقصد إليه. روى الرواة أن
1 لس: كل، ولس: أكل.
2 الحضارة الإسلامية: لمتز 2/ 110.
3 تعريف القدماء بأبي العلاء ص31.
4 الغفة: البلغة من العيش. والسوس: الطبيعة.
"المستنصر صاحب مصر بذل له ما ببيت المال بالمعرَّة من المال؛ فلم يقبل منه شيئًا، وقال:
لا أطلبُ الأرزاقَ والمولى
…
يفيضُ على رزقي
إن أُعْطَ بعضَ القوت أعـ
…
لم أنّ ذلك فوق حقي"1
لم يكن أبو العلاء يطلب مالًا ولا عطاء؛ لأنه كان زاهدًا في حياته متقشفًا يكفيه القليل الذي يقيم أوده، أما ما دون ذلك فهو ينبذه، وماذا نريد من الدنيا وهي تنتهي بنا إلى الفناء وتسوقنا إلى الموت سوقًا حاملين ما نحمل من أثقال كروب وآلام! إن علينا أن نقوِّي أنفسنا بالزهد حتى نلقى هذا المصير المحتوم:
لا تشرفنَّ بدنيا عنك معرضة
…
فما التشرُّفُ بالدُّنيا هو الشَّرَفُ
واصرف فؤادَك عنها مثلما انصرفتْ
…
فكلنا عن مغانيها سننصرفُ
يا أمَّ دفرٍ2 لحاك اللهُ والدةً
…
فيك العناءُ وفيك الهمُّ والسَّرفُ
لو أنك العِرسُ أوقعتُ الطلاق بها
…
لكنَّك الأمُّ ما لي عنكِ منصرفُ
واستمر أبو العلاء نحو خمسة وأربعين عامًا يصرخ في الناس بهذه الدعوة الحارة إلى الزهد والتقشف؛ وبدأ بنفسه فسنَّ لها قوانين من الزهد صارمة التزمها طوال حياته؛ فلم يتعلق بشيء من زخارف الدُّنيا وزينتها؛ بل رفضها فيم رفض ورفض معها متاع الأولاد والزواج لا لسبب سوى هذا الحرمان الذي كان يأخذ نفسه به، وفي ذلك يقول:
لو أنَّ بنيَّ أفضلُ أهلِ عصري
…
لما آثرتُ أن أحظى بنسلِ
وفي امتناعه عن الزواج والنسل ما يجعلنا نرى جانبًا من تشاؤمه الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره، ولعل ذلك ما جعله يوصي بأن يكتب على قبره:
هذا جَنَاهُ أبي علـ
…
يَّ وما جنيتُ على أحدْ
وحقًّا أن أبا العلاء لم يجن على أحد لا من حيث النسل والزواج فقط بل أيضًا من
1 تعريف القدماء بأبي العلاء ص369.
2 أم دفر: الدنيا.
حيث حاجاته في الحياة؛ فقد كان زاهدًا فيها زهدًا شديدًا، وكان لا يريد أن يتصل منها بشيء لا بأزواج وأولاد ولا بغير أزواج وأولاد، وهاجم فكرة الزواج والنسل في شعره كثيرًا كقوله الذي أنشدناه:
فليت حَوَّاءَ عقيمًا غدت
…
لا تلد الناسَ ولا تَحْبَلُ
كان أبو العلاء برمًا بالحياة وكان يراها سلسلة آلام؛ فأكثر من نقدها ونقد الذين يعيشون فيها. وأعجب بعض الناس هذا النغم الذي يردده أبو العلاء، وراعهم أنه كان صاحب عقل حرٍّ بالنسبة لأهل عصره فهو يهاجم أصحاب الأديان؛ فذهبوا إلى أنه كان فيلسوفًا، وحشروه في زمرة الفلاسفة، ومن العجب أن نجد مثل نيكلسون1 وهيار2 يذهبان هذا المذهب، وليس لرأيهما ولا لمن تبعهما أي دليل على هذه الفلسفة إلا إذا كنا نعد كل زاهد يدعو إلى الزهد والتقشف في الحياة فيلسوفًا. وزهد أبي العلاء وما يُطوى فيه من نظر جريء إلى مسائل الدين لا يكفي لنعده فيلسوفًا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة إنه لم يعرف عنه أنه كان ملخصًا للفلسفة اليونانية على نحو ما صنع الفارابي وغيره من جماعة الفلاسفة المسلمين، وهو أيضًا لم يعرف عنه أنه نَمَّى مذهبًا من مذاهب الفلسفة اليونانية، ولذا كان من الخطأ أن يجعل بعض النقاد أبا العلاء فيلسوفًا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة، وهو لم يلخِّص الفلسفة اليونانية؛ فضلًا عن أن يكون من المنمِّين لها ولا كان من المتعلقين بمذهب من مذاهبها.
وأكبر الظن أن شبهة فلسفة أبي العلاء جاءت من أنه كان نباتيًّا يحرم على نفسه أكل اللحم واللبن والبيض والسمك وعسل النحل، وفي ذلك يقول:
غدوت مريض العقل والرأي فالقنى
…
لتعلمَ أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالِمًا
…
ولا تبغِ قوتًا من غريض الذَّبائحِ3
1 nichoison، Aliterary History of the Arabs،p.313
2 huart، litterture. Arabe،p.99.
3 الغريض: الطري.
وأبيض أمات أرادت صريحه
…
لأطفالها دون الغواني الصرائح1
ودع ضربَ النَّحْلَ الذي بَكَرَت له
…
كواسبُ من أزهار نبت فوائح2
والمراد بالأبيض اللبن.
والمعروف أن أبا العلاء ترك أكل اللحم ومشتقاته رحمة بالحيوان. روى الرواة أن سائلًا سأله: "لم لا تأكل اللحم؟ فقال: أرحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان؟ فإن كان الخالق الذي دبَّر ذلك فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة؛ لذلك فما أنت بأحذق منها، ولا هي أنقص عملًا منك". ويعلق ابن الجوزي على هذه الرواية فيقول: "لقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة؛ فأما ما ذبحه غيره فأي رحمة قد بقيت في ترك أكله"3. على كل حال كان أبو العلاء نباتيًّا وقد صد عن أكل اللحم ودعا إلى ذلك، وله حوار طريف مع داعي الدعاة في هذه المسألة يرجع إليه القارئ في ترجمته بياقوت، ولكن هل هذه النباتية في أبي العلاء تجعلنا نزعم أنه فيلسوف؟ إنها طريقة في الحياة وليست طريقة في التفكير. على أننا إذا أردنا تصحيح القياس وجب لكي نثبت فلسفته عن هذه المقدمة أن نكون على يقين من أن هذه النباتية يونانية أو أنها مذهب فلسفي من مذاهب اليونان، وليست النباتية من مذاهب اليونان ولا من فلسفتهم؛ إنما هي مذهب هندي يرجع إلى البراهمة، وقد قص علينا ذلك كل من ترجموا لأبي العلاء، يقول ابن الأنباري:"يحكى عنه أنه كان برهميًا وأنه وصف لمريض فروج، فقال: استضعفوك فوصفوك"4 ويقول ابن الجوزي: "كان ظاهر أمر أبي العلاء يدل على أنه يميل إلى مذهب البراهمة؛ فإنهم لا يرون ذبح الحيوان ويجحدون الرسل"5 ويقول ياقوت عنه: "كان متهما في دينه، يرى رأي البراهمة: لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحمًا، ولا يؤمن بالرسل والبعث والنشور"6. ويقول أبو الفداء:
1 صريحة: خالصة. الصرائح: الجميلات.
2 الضرب: العسل الأبيض الثقيل.
3 تعريف القدماء بأبي العلاء ص19.
4 نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لابن الأنباري "طبع مصر" ص427.
5 تعريف القدماء بأبي العلاء ص19.
6 المصدر نفسه ص46.
"نُسب أبو العلاء إلى التمذهب بمذهب الهنود لتركه أكل اللحم خمسًا وأربعين سنة، وكذلك البيض واللَّبن، وكان يحرِّم إيلام الحيوان"1 ويقول ابن فضل الله العمري: "ترك أبو العلاء أكل لحوم الحيوان وعموم ما يجري مجراها من الأعسال والألبان ومال في هذا إلى رأي الحكماء! وقال بمذهب البراهمة في تجنُّب إراقة الدماء"2. ويقول السلفي: "من عجيب رأي أبي العلاء تركه تناول كل مأكول لا تنبته الأرض شفقة على الحيوانات حتى نسب إلى التبرهم، وأنه يرى رأي البراهمة في إثبات الصانع وإنكار الرسل، وفي شعره ما يدل على هذا المذهب"3 وواضح من هذه النصوص أن العرب لم يصلوا بين نباتية أبي العلاء وفلسفة اليونان، إنما وصلوا بينها وبين التبرهم والبراهمة، فهي ليست شيئًا يونانيًّا. ومن الخطأ أن يعتمد عليها بعض الباحثين في إثبات فلسفة أبي العلاء، وهي لا تمت مباشرة إلى اليونان وفلسفتهم.
والحق أن أبا العلاء ليس فيلسوفا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة إلا إذا توسعنا في معناها وجعلنا كل شخص يفكر تفكيرًا حرًّا فيلسوفًا أي محبًّا للحكمة. آخذًا بقوانين العقل غير متقيد بعرف الناس ولا بما يعتنقون من آراء وأفكار. إذن يكون أبو العلاء فيلسوفًا، ومن أهم مما يميزه ما نراه عنده من تشاؤم شديد؛ فالعالم مليء بالشر وأيضًا ما نراه عنده من شكوك.
يقول التبريزي: "إن أبا العلاء سألني يومًا ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده، فقلت له: ما أنا إلا شاك، فقال: وهكذا شيخك"4. وأقرَّ أبو العلاء بهذا الشك في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة إذ يقول: "قد بدأ المعترف بجهله المقر بحيرته والداعي إلى الله سبحانه أن يرزقه ما قلَّ من رحمته"5. ويظهر أنه كان لمحنة أبي العلاء في بصره أثر في تكييف هذا الشك العلائي؛ فقد كان يضيق بما أصابه من هذا الشر في بدء حياته ولم يستطع له
1 انظر المختصر في أخبار البشر: لأبي الفدا في حوادث 449.
2 تعريف القدماء بأبي العلاء ص217.
3 لسان الميزان: لابن حجر "طبع حيدر آباد". 1/ 204.
4 معجم الأدباء "طبعة مرجليوث" 1/ 171.
5 معجم الأدباء 1/ 120 وانظر أيضًا ص204.
تفسيرًا فرجع يشك في بعض الحقائق، حتى ليشك في الشك نفسه، وهذا مصدر ما نجد عنده من تناقض يعتري آراءه وليس من شك في أن اللزوميَّات ترينا أبا العلاء حائرًا حيرة شديدة؛ فالدُّنيا كلها وما وراءها ظلام وسواد ولجج واسعة من الحيرة:
الحمدُ للهِ قد أصبحتُ في لججٍ
…
مكابدًا من همومِ الدَّهر قاموسًا1
واتسعت هذه اللجج عليه ولم يستطع أن يقاومها ولا أن يخرج منها، فمكث فيها تائهًا حائرًا، واستمر يقص علينا في لزومياته قصة هذا الطوفان، فقد أطبقت عليه الأمواج من كال جانب وكأنما أفسدت عليه جميع الطرق والمناهج:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
…
واستوت في الضَّلالة الأديانُ
أنا أعمى فكيف أهدَى إلى المنـ
…
ـهج والناسُ كلُّهم عميانُ
ولم يستطع أبو العلاء حقًّا أن يهتدي إلى المنهج في كثير من المسائل والمشاكل فشك واتسع عليه الشك حتى جعله لا يؤمن بيقين، وعبر عن ذلك في مرثيته لأبيه تعبيرًا واضحًا؛ إذ يقول:
طلبت يقينًا من جهينة عنهمُ
…
ولم تخبريني يا جهينُ سوى الظن2ُّ
فإن تعهديني لا أزال مسائلًا
…
فأني لم أعطَ الصحيحَ فأستغني
ويقول أيضًا:
أما اليقينُ فلا يقينَ وإنَّما
…
أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدِسا
فأبو العلاء يطلب اليقين فلا يجد إلا الظن والحدس، وإذن فمن الخطأ أن يأتي باحث فيراه يقول رأيًا فيظنه يقينًا، ثم يراه يخرج عنه فيقول: إنه مضطرب متناقض؛ فإن أبا العلاء لم يكن صاحب يقين في رأي من الآراء؛ بل هو صاحب ظن وحدس وشك، وهو يعمم هذا الشك في كل شيء، سوى إيمانه بربه؛ إذ يقول:
1 القاموس: المحيط.
2 يشير إلى المثل العربي القديم: عند جهينة الخبر اليقين.
أثبَتُّ لي خالقًا حكيمًا
…
ولست من معشرٍ نُفاةِ
فأبو العلاء لم يكن يشك في ربه؛ إذ كان يرى كل شيء حوله يشهد بوجوده، وهو كذلك لم يكن يشك في عقله، بل لقد كان يؤمن به إيمانًا شديدًا، يقول في بعض شعره:
كذب الظن لا إمام سوى العقـ
…
ـل مشيرًا في صبحه والمساءِ
ويقول أيضًا:
وشاور العقل واترك غيره هدرًا
…
فالعقل خير مشير ضمَّه النَّادي
إلا أن هذا العقل كان قاصرًا ولم يستطع أن يفسر له أسرار الكون وما فيه من حقائق الخير والشر ومن هنا اعترف كما مر بنا آنفًا أنه لا يكاد يوجد يقين وأن مبلغ علم الإنسان أن يظن ويحدس، وكأن العقل يضطر أحيانًا إلى التوقف دون اليقين عند أسوار الظن والحدس. وآمن -خاصة في المسائل الشرعية- أن العقل ينبغي أن لا يجمح وأن لا يحاول الخروج على الشرع بل يكون تابعًا له، يقول:
وجدنا اتِّباع الشرع حزمًا لذي النُّهى
…
ومن جرب الأيام لم ينكر النَّسخا
وقد توقف بعض الباحثين عند أبيات في اللُّزوميات رآه فيها يهاجم الديانات فظن أنه يهاجمها حقًّا، وهو إنما يهاجم أصحابها، يقول:
هفتِ الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت
…
ويهود حارت والمجوسُ مضلِّلَة
اثنان أهلُ الأرضِ ذو عقل بلا
…
دين وآخرُ دين لا عقلَ لهُ
ويقول:
دينٌ وكفرٌ وأنباءٌ تقالُ وفُرْ
…
قانٌ ينصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ
في كل جيلٍ أباطيلٌ ملفَّقةٌ
…
فهل تفرد يومًا بالهدى جيلُ
وواضح أن أبا العلاء إنما يهاجم في البيتين الأولين أصحاب الديانات الذين توزعتهم الفرق والأهواء فأهدروا عقولهم؛ حتى عمت الحيرة والتبس الأمر، وهو في البيتين التاليين إنما ينص على أنه لا يوجد جيل يخلو من الكفر والضلال. وليس في ذلك هجوم على الأنبياء ولا هجاء كما ظن بعض المعاصرين.
ولا نستطيع أن نخرج من كل ذلك بأن أبا العلاء كان زنديقًا أو ملحدًا كما قال بعض القدماء، والواقع أنهم تطرفوا حينما أضافوا إلى أبي العلاء الزندقة والإلحاد ملتمسين ذلك في أبيات حملوها على معنى مخالف لما قصده، وهي قليلة جدًّا في لزومياته؛ إذ كثرتها تحميد وتقديس وتمجيد في الله. على أننا إذا تطرقنا مع هؤلاء السابقين وجعلنا أبا العلاء زنديقًا أو ملحدًا لم يكن هناك ما يبرر أن نزعم بأنه فيلسوف؛ لأن الإلحاد والزندقة ليسا هما الفلسفة فالفلسفة شيء والإلحاد والزندقة شيء آخر، وإلا سقط من تاريخ الفلسفة كثير من الفلاسفة المسيحيين والمسلمين.
والحق أن أبا العلاء كان مفكرًا حرَّ الفكر وكان زاهدًا صادق الزهد وكان شديد التشاؤم؛ غير أنه لم يستطع أن يخرج من ذلك إلى إحداث نظرية معينة أو منهج معين يمكن أن نسميه "المنهج الفلسفي لأبي العلاء" إلا إذا كنا ممن يلتقطون بعض الأقوال للشعراء ويحاولون أن يحملوها أكثر من مدلولها، ثم يستخرجوا لهم فلسفة ذات أصول وفروع متشابكة. ونحن بهذه الطريقة نستطيع أن نجعل أبا العلاء فيلسوفًا، كما نستطيع أن نجعل المتنبي وأبا تمام وأبا العتاهية فلاسفة بأفكار معدودة وآراء محصورة جاءت في أشعارهم. والحق أن في ذلك كله مبالغة في البحث يؤدي إليها عادة غلو الباحث في الإعجاب بالشاعر الذي يبحثه، وكان من حسن حظ أبي العلاء أن غالى كثير من المعاصرين الذين عنوا ببحثه؛ فأثبتوه فيلسوفًا لما رأوا عنده من تشاؤم وحيرة وشك وزهد، ولكن هل يكفي التشاؤم أو الزهد أو الحيرة لنعد شخصًا فيلسوفًا؟ أما نحن فلا نشك في أن أبا العلاء لو كان فيلسوفًا حقًّا لفلسف تشاؤمه في الحياة فجعله في شكل كلية عامة، وطبق هذه الكلية على الجزئيات المختلفة تطبيقًا شاملًا، إذن كان يتساءل كيف نحكم على الأشياء وما أدواتنا في المعرفة، هل هي الحس أو الفكر أو هما جميعًا.
ولكنه لم يصنع شيئًا من ذلك، إنما كل ما صنعه أنه استراح إلى العقل في الحكم على الأشياء وألقى عليه العبء كله، ولو أنه صاحب عقل فلسفي لشك في هذا العقل نفسه وامتحنه وأخضعه للتجربة على نمط، يحلل فيه المعرفة في الطبيعة وما وراء