الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:
هذه الاستعارة الحسية التي كان يستعيرها المتنبي من الفلسفة من السهل أن يلاحظها كل باحث، وليست هي الشيء الذي نريد أن نقف عنده من تصنع المتنبي للفلسفة؛ إنما نريد أن نعرف أثر هذه الفلسفة في صياغته، نريد أن نعرف ما حدث من تغيير في باطن عباراته تحت تأثير الفكر الفلسفي، أو بعبارة أخرى نريد أن نعرف المركب الفني الفلسفي في شعره. وهذا المركب يحاول الباحثون أن يتعرفوا عليه من معرفة الأفكار المستعارة؛ غير أننا نرى أن هذه الوسيلة قاصرة، فإذا حاول باحث أن يتعرف على الحياة العقلية في العصر العباسي مثلًا؛ مما ترجم العرب كانت هذه المحاولة غير مجدية كثيرًا؛ لأنه لا يتبين هذه الحياة في اقتراح عربي أو صورة عربية؛ وإنما يتبينها في صورة أجنبية مترجمة، وكان عليه أن يتبينها في صورة التفكير العربي من داخله وما أصابه من تطور، فإنه من الممكن أن لا يكون العقل العربي أفاد كثيرًا مما ترجم، ولعل ترجماته لم تغير كثيرًا في أصول فكره وقواعد عقله. وهذا هو الذي جعلنا نقف في الفصل الثالث من الكتاب الأول من هذا البحث لنسأل إلى أي حد تطور فكر صانع الشعر في العصر العباسي، ولم نحاول أن نتبين ذلك من الترجمة للثقافات الأجنبية فقط، بل حاولنا أن نعرف ما أصاب العقل العربي من تطور في داخله، حتى إذا وصلنا إلى أبي تمام أحسسنا بأنه ليس رائدنا أن نعرف أثر الثقافة الفلسفية عنده من عبارات الفلاسفة وأفكارهم التي استعارها، بل طلبنا ذلك في استخدامه لبعض الألوان الفلسفية "كلون نوافر الأضداد" وقد أحاله لونًا فنيًّا جميلًا، وهنا تبينّا جانبًا من قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني، أو بعبارة أدق، عقلية أبي تمام، وما أصاب هذا التفكير عندها من تحول؛ فهي تقبله
وتتفاعل معه؛ بل هي تحوله عن طبيعته الفلسفية إلى طبيعة فنية ما يزال الشاعر يستخرج منها ألوانًا تحيِّر وتعجب.
وهذا الاتجاه في البحث هو الذي نريد أن نعرف على ضوء التصنع الفلسفي عند المتنبي وإلى أي حد استطاع الفكر العربي -في القرن الرابع- أن يمتزج بالفكر اليوناني، ومن يرى هذا الجهد الذي كان يقوم به المتنبي من نقل الحكم اليونانية إلى الشعر العربي لا يشك في أن هذا الشعر أخذ يتأثر بالصورة اليونانية، ولسنا نقصد صورة النحو اليوناني أو البلاغة اليونانية أو الأخيلة اليونانية، إنما نقصد صورة التفكير اليوناني؛ فقد نفذ إلى الشعر وتشبث كثير من الشعراء به. على أنه يحسن بنا أن لا نبالغ، فإن المتنبي يرينا حقًّا قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني، ولكنها قابلية من نوع آخر مغاير للنوع الذي رأيناه عند أبي تمام، قابلية ليس فيها البهجة التي لاحظناها عنده في نوافر الأضداد إنما هي قابلية من طراز آخر، قابلية معقدة -إن صح هذا التعبير- فالفلسفة لا تتحول إلى بدع من الفن؛ إنما تؤثر تأثيرًا قاتِمًا في الصياغة، ويمكن أن نلخص هذا التأثير في كلمة "القوالب الفلسفية" فقد أخذ الشعراء يقترضون هذه القوالب، وهذا أكثر ما عندهم من تجديد فلسفي في الشعر. وهو تجديد غريب لا ينوع في التفكير الفني إنما ينوع فقط في أساليبه ويصيبها بهذا التعقيد الذي تعرف به القوالب الفلسفية وما يتبعه من اللف والدوران وتداخل الأفكار تداخلا لا عهد للغة العربية به قبل المتنبي إلا في القليل النادر، أما هو فوسَّع هذا الجانب وحرص عليه حرصًا شديدًا؛ لأنه كان يودعه جانبًا من سر تفوقه وسر تصنعه؛ إذ كان يحتال احتيالًا شديدًا على شارات التعبير الفلسفي وسماته يدخلها في نماذجه، كما نرى في مثل قوله:
الجيشُ جيشُك غير أنك جيشه
…
في قلبِِهِ ويمينه وشمالِهِ
وليس في البيت غرابة ولا تعقيد، ولذلك يبدو يسيرًا سهل الفهم، ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا فيه شيئًا يشبه أن يكون تعقيدًا؛ إذ يجعل المتنبي ممدوحه
جيشًا، ويجعل الجيش جيشه، وفي الوقت نفسه يجعله جيش الجيش؛ فهو جيش دائر على نفسه، أو هي فكرة فيها دور -كما يقول أصحاب الفلسفة- وليس من شك في أن المتنبي عمد إليها عمدًا وتصنع لها تصنعًا، وما الفرق بينه وبين غيره من شعراء عصره ممن لم يتثقفوا ثقافة فلسفية إن لم يأت بمثل هذه العبارات المتداخلة؟ وانظر إلى قوله:
فتىً يشتهي طول البلادِ ووقته
…
تضيق به أوقاتُهُ والمقاصدُ
فإنك تراه لا يزال يتعمَّل للأسلوب الفلسفي في تفكيره وصياغته؛ وإلا فما هذا الوقت الذي تضيق به أوقات ممدوحه؟ إنه وقت غريب لعله أشد غرابة من الجيش السابق الذي يدور على نفسه، فقد جعل المتنبي الأوقات تضيق به، أو بعبارة أخرى ما زال يتصنع حتى جعل الجزء أوسع من الكل؛ فالأوقات تضيق بالوقت ضيقًا غريبًا، ولكن ما هي ميزة المتنبي إن لم يغرب على الناس بمثل هذه العبارات التي قد يحسون فيها خللًا؛ ولكنه خلل محبوب في رأيه؛ لأنه خلل فلسفي، ما يزال به حتى يشوش على الناس أفكارهم، وحتى يحدث من الارتباك والاضطراب بين المثقفين ما يستطيع أن يثبت به مهارته وتفوقه، فإذا هو يخرج هذا الجيش الدائر على نفسه، وإذا هو يحيل الجزء أكبر من الكل، حتى يجعل لنفسه من شعره أبواقًا وطبولًا، أو بوقات وطبولًا على حد تعبيره، تعلن عن براعته وحذقه وإجادته، وانظر إلى قوله:
وَلَكَ الزَمانُ مِنَ الزَمانِ وِقايَةٌ
…
وَلَكَ الحِمامُ مِنَ الحِمامِ فِداءُ
فإنك تحس بلعب التعبير الفلسفي؛ فالزمان يقي من الزمان وقاية غير مفهومة، والحِمام يفدي من الحِمام فداء غير مفهوم أيضًا، ولكنها الفلسفة التي تعلق بها المتنبي ما تزال تخرج له من الزمان زمانًا يماثله ومن الحمام حمامًا يشاكله، وعلى هذا النحو نراه يقول بيته:
أَسَفي عَلى أَسَفي الَّذي دَلَّهتِني
…
عَن عِلمِهِ فَبِهِ عَلَيَّ خَفاءُ
فإنه يأسف على أسفه أسفًا غير مفهوم، فالأسف يركب أسفًا مثله، كهذا
الزمان الذي يقي منه زمان مثله، وهذا الحمام الذي يفدي منه حمام مثله، وما يزال هذا القانون من التوليد يلعب في فكر المتنبي وشعره حتى نراه يقول:
نِقَمٌ عَلى نِقَمِ الزَمانِ يَصُبُّها
…
نِعَمٌ عَلى النِّعَمِ الَّتي لا تُجْحَدُ
فالنقم على نوعين والنعم على نوعين، وكل شيء يمكن أن يستخرج منه شيء آخر يماثله، ويتحد معه، فيقوم دونه، أو يصبُّ عليه، أو يركِّبه ركوبًا غريبًا. وعلى هذا النمط ما تزال أساليبه تتشابك وتتداخل تداخلًا غير مألوف، تداخلًا يوقعه في مثل هذه الأساليب المنحرفة، أو في مثل قوله:
إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَّواني
…
وَكَم هَذا التَّمادي في التَّمادي
فالتمادي يتداخل في التمادي هذا التداخل الغريب حتى يقلد المتنبي الفلاسفة في أساليبهم الملتوية، وما الفرق بين الشعر والفلسفة؟ لئن كانت الفلسفة طرافة أو كان فيها فنون من الطرافة، فإن من الواجب أن تدخل هذه الفنون إلى دوائر الشعر؛ غير أننا نلاحظ أن المتنبي إنما نظر إلى هذه الفنون من ظاهرها، فجاء يستوعب في شعره صيغها وقوالبها، ولم يستطع استخدامها استخدامًا فنيًّا على نحو ما رأينا عند أبي تمام؛ بل لقد كان يفهم هذا الاستخدام في حدود أخرى، هي أن ينقل التعبير الفلسفي إلى قصائده ونماذجه فإذا الجيش يدور هذا الدوران الذي لا تألفه العقول البسيطة، بل لا بد له من عقل متفلسف حتى يفهم فكرة الدور وأنه جيش دائر في هذه الحلقة الفلسفية التي كان يعجب بها المتنبي-فيم يظهر- إعجابًا شديدًا. وعلى هذا النحو تضيق الأوقات بالوقت، بل ما تزال الأفكار تتوالد، فكل فكرة لها خيالها، بل لقد كان يرى خيال خيالها على حد قوله:
إِنَّ الْمُعيدَ لَنا المَنامُ خَيالَهُ
…
كانَت إِعادَتُهُ خَيالَ خَيالِهِ
فهو يحفظ العهد ويذكر حبيبه دائمًا، وما يزال خياله يَفِد عليه حتى إذا نام رأى خيال هذا الخيال، بل إنه ليرى خيال هذا الخيال الثاني في يقظته، وبخاصة خيال خيالِ أفكاره الذي ما يزال يلح عليه حتى يأتي له بهذه العبارات الفلسفية.
المعقدة، وهي عبارات كان يتعب في الحصول عليها تعبًا شديدًا، أما قوله المعروف:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
…
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
فلعله كان يداعب به من حوله من الأدباء والنقاد، أما حقيقة الأمر فإنه هو الذي كان يؤرقه السهر في تجويدها، وما كان مثله لينام وهو يحلم بتعبير فلسفي، يحقق له ما لا يبلغ الزمن من نفسه على حدِّ تعبيره:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
…
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
وقد شكا في شعره كثيرًا من سهاده وسهره؛ إذ يقول:
كَأَنَّ الجُفونَ عَلى مُقلَتي
…
ثِيابٌ شُقِقنَ عَلى ثاكِلِ
فهو يطلب النوم والنوم يتأبى عليه، ولعله هو الذي كان يتأبى على النوم لانشغاله عنه بلفظه أو فكرة، وقد ذكر في شعره أن للأفكار نارًا تتوقد:
أُشفِقُ عِندَ اِتِّقادِ فِكرَتِهِ
…
عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ
فهو يشعر شعورًا واضحًا بأن الأفكار قد تشعل صاحبها، ومن يدري فربما مرت به لحظة خيل إليه فيه أنه يشتعل بهذا الثقاب من الفلسفة التي أشعلت كل شيء في شعره. وليس من شك في أنه ثقاب محبب إلى نفوسنا؛ غير أن المتنبي لم يحدث به ولا بنيرانه طرافة واسعة في شعره كما رأينا عند أبي تمام.
وكأني بالمتنبي يلفتنا إلى شيء مهم في العقلية العربية وقابليتها للتفكير اليوناني في أثناء القرن الرابع؛ فإنها تخلفت في كثير من جوانبها عن هذا التفكير وبخاصة في هذا الجانب الفني من الشعر الذي نقرأه عند المتنبي وأضرابه؛ إذ نرى الفلسفة لا تحدث طرافة ولا تنوعًا في الأفكار إلا آمادًا ضيقة، إنما ينصب تأثيرها على جانب شكلي، جانب العبارات والأساليب، حتى ليحس الإنسان بأن الدفعة الهنيئة الطليقة التي مرت بنا عند أبي تمام حيث كانت الفلسفة تستخدم استخدامًا فنيًّا خاصًّا كأنها لون زاهٍ هذه الدفعة يصيبها غير قليل من الجمود والركود، وكأن الشعراء لا يتعمقون التفكير اليوناني، وكأن هذا التفكير لا يتعمق عقولهم،
فلا نراه يتحول عندهم إلى بدع وطرافة في التفكير، وأيضًا فنحن لا نراه يحدث تنوعًا واسعًا في الخواطر والمعاني، وكأن الفلسفة اليونانية تنحرف عن التفكير الفني، أو كأنها لا تمتزج بهذا التفكير امتزاجًا من شأنه أن يغير صورته وأوضاعه؛ وإنما أكثر ما تحدثه في هذا الجانب ينصب على تأثير شكلي في القوالب والعبارات، كقول المتنبي:
قَد كانَ يَمنَعُني الحَياءُ مِنَ البُكا
…
فَاليَومَ يَمنَعُهُ البُكا أَن يَمنَعا
فالحياء يمنع البكاء والبكاء يمنع الحياء، وهذا كل ما يأتي به المتنبي من طرافة في التفكير يجلبها من الفلسفة؛ ولكن هذه الطرافة ليست شيئًا أكثر من اللف والدوران في التعبير.
وعلى هذا النمط نرى المتنبي تنغمس عباراته في أصباغ الفلسفة، ولكنه انغماس شكلي إذ يحاول أن يحقق لنفسه أوصاف قوالبها وخواص تراكيبها، أما بعد ذلك فإنها لا تتفاعل مع تفكيره، ولا تنقله من حيز إلى حيز، أو من عالم إلى عالم. بل ما يزال متصلًا في أفكاره ومعانيه بالماضي، لا يستطيع فصم علاقته به. وإن الإنسان ليكاد يؤمن بأن التفكير اليوناني لم يحدث رجفة واسعة عند المتنبي وأضرابه ممن نحس عندهم بأن الفنانين ما يزالون يفكرون تفكيرًا أقرب إلى الأسلوب القديم.
وحقًّا أن الفلسفة اليونانية ترجمت واستوعبها العرب، وكان منهم متفلسفة، ولكن يحسن دائمًا أن نميز بين هذه الموجة والتأثر العام في التفكير الفني؛ إذ نشعر بأن الفلسفة تختلط بهذا التفكير، ولكنها قلما تمتزج به أو تتحد معه، بل يستمر بينهما خطوط فاصلة؛ إلا أن تجلب بعض شاراتها وسماتها، كما نرى عند المتنبي. ولكنها لا تتغلغل إلى باطن الشعر وباطن صياغته إلا قليلًا، وحتى المعري مع أنه نقل التفكير الوجداني إلى تفكير يشبه التفكير الفلسفي لم يستطع أن يحافظ على "الصياغة الباطنة" للأسلوب الفلسفي، بل لقد ضلت منه في الطريق. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن مياه التفكير اليوناني دخلت النهر العربي؛ ولكنها استمرت في كثير من جوانبه تجرى مع مياهه جنبًا إلى جنب وقلما اختلطت بها. قد تختلط في بعض المناطق، ولكنها سرعان ما تعود إلى الانفصال.