الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فينظمه أيضًا شعرًا؛ ولكن على قافية جديدة، وقيود لفظية جديدة، وهذا كل ما يصنعه من تغيير، وهو تغيير قلما يضيف طرافة في التفكير؛ إذ يدخل عليه أبو العلاء هذا التَّكرار الذي يصيب الصياغة في اللزوميات بضروب واسعة من الابتذال.
وأكبر الظن أننا لا نبعد حين نقول: إن أبا العلاء كان واعظًا في لزومياته، ولذلك لم يحسن صوغ أفكاره في الأساليب الخاصة بالشعر؛ لأن الوعظ من طبيعته التكرار، وهو يلائم النثر، ولا يلائم الشعر، ومن ثم كان الخطباء والوعاظ يتخذون النثر أداة للتعبير عن أفكارهم ومعانيهم المكررة، فإذا جاء خطيب أو واعظ واتخذ الشعر أداته في الخطابة أو الوعظ كان لا بد له أن يسقط في استخدام هذه الأداة الجديدة مهما تكن مقدرته البيانية. ومن أجل ذلك لم يكن غريبًا أن نجد أبا العلاء يخفق في استخدام الشعر أداة لوعظه وتشاؤمه الذي نعرفه في اللزوميات، وخاصة أنه أطال هذا الوعظ والتشاؤم وامتد به نفسه إلى عشرات الصفحات بل مئات الصفحات، فبدا في أساليبه هذا الانهيار والسقوط وما يتبعهما من ابتذال؛ بحيث لا نجد ما يعجب حاستنا الفنية إلا في النادر؛ فالأفكار عارية لا يحول بينها وبين الإسفاف حائل، ولذلك قلما نحس في أثناء قراءتنا اللزوميات ببهجة فنية، إذ لم يستطع أبو العلاء أن ينهض بصياغتها إلا هذا النهوض القاصر الذي يعود بالشعر وكأنه يشبه أساليب الوعظ والإرشاد.
6-
اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:
لم يوفر أبو العلاء مجهودًا واسعًا في إحكام صياغته؛ إذ كان مشغول عنها بعقد ولوازم غريبة في لزومياته، فهو يصعب على نفسه الممرات إلى شعره، ويتقيد بلوازم دائمة يتبعها في صناعته، ولعل أهم هذه اللوازم ما أشار إليه في مقدمة ديوانه؛ إذ يقول: "وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كُلَف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أنه يجيء رويُّة بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو
تاء أو غير ذلك من حروف". ونحن نلتفت من هذه الكلف إلى أن اللزوميات ليست ديوانًا بالمعنى المألوف عند العرب، ولعل ذلك ما جعل أبا العلاء يسميها في مقدمته لها تأليفًا، وسماها مرة أخرى كتابًا، وحقًّا إنها ألفت على شكل التأليف والكتب؛ فقد قسِّمت إلى أبواب وقسمت الأبواب إلى فصول وهل هناك ديوان قبل اللزوميات نظم شعرًا ووُزِّع -على هذا الطراز- إلى أبواب وفصول كما يصنع أصحاب النثر بتآليفهم وكتبهم؟!
ومهما يكن فاللزوميات أول ديوان في اللغة العربية يؤلَّف على طريقة خاصة يذكرها الشاعر في مقدمته ويطبقها على أبياته بيتًا بيتًا. وهذه الطريقة يحددها أبو العلاء بثلاث كلف؛ ولكن لنحذر هذا التحديد، فهي أكثر من ذلك وأوسع، ولست أجد كلمة تعبر عن هذه الكلف الكثيرة ككلمة اللزوميات التي يظهر أنها استعيرت للديوان من كتب المناطق لتدل على ما فيه من نسب ومعادلات بين ألفاظه وقوافيه. وإذن فتصنع المعري في اللزوميات لا يقف عند الكلف العروضية بل يتعداها إلى كلف أخرى كان يشغل بها هذا الفراغ الطويل الذي امتد إلى نحو خمسين عامًا قضاها حبيس بيته ونظره وأفكاره المظلمة في الحياة والكون، وعبر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول:
أراني في الثلاثة من سُجُوني
…
فلا تسأل عن الخبر النَّبيثِ1
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
…
وكونِ النفسِ في الجسمِ الخبيثِ
وذهب يحبس أفكاره في هذه السجون العروضية السابقة ولم يكتف بها؛ إذ أراد أن ينوع فيها كما تنوعت سجونه، واستعان بثقافته على ما يريد من هذا التنويع، ولعل أهم ثقافة سجن في قيودها آثاره هي الثقافة اللغوية؛ إذ نراه يتصنع الإغراب في ألفاظه، وعمَّم ذلك في جميع أشعاره وكتاباته، حتى ليشعر الإنسان في أحوال كثيرة بأنه يقرأ في متن من متون اللغة العويصة، ولقد كان المظنون أن يبتعد بها الإغراب في اللغة عن اللزوميات، فإن ما فيها من وعظ لا تلائمه الألفاظ الغريبة إذ هو يوجه عادة إلى الجماهير وهي لا تعرف
1 النبيث: الخفي.
الألفاظ العويصة، ولكن أبا العلاء اتخذ هذه الألفاظ الغريبة لازمة دائمة في صناعة لزومياته ولم يستطع أن يتخلص منها، وقد أضاف إليها لازمة أخرى دائمة هي لازمة الجناس.
ولعل من الطريف أن أبا العلاء استطاع أن يستخدم هذا الجناس استخدامًا مزدوجًا فهو يأتي به غالبًا ليعبر عن جناس من جهة وليعبر عن لفظ غريب من جهة أخرى. كان أبو العلاء يستخدم الجناس استخدامًا لغويًّا يريد به أن يدلَّ على مهارته في اللغة قبل أن يدل على مهارته في استخدام لون قديم من ألوان التصنيع. ولم يكتفِ أبو العلاء بما أحدثه بين الجناس والألفاظ الغريبة من مزاوجة؛ بل راح يصعب على نفسه؛ إذ نراه يطلبه بين حَشْوِ البيت والقافية، حتى يحدث هذه القيم المعقدة في قوافيه؛ فهو يلتزم فيها حرفين أو أكثر، وهو يلتزم فيها اللفظ الغريب، وهو أخيرًا يلتزم الجناس بينها وبين ألفاظ البيت، أرأيت إلى هذا التعقيد؟ إنه تعقيد ينسينا تعقيد المتنبي لموسيقاه الداخلية الذي عرضنا له في غير هذا الموضع، بل هو ينسينا تعقيد المهلبي لملاعقه في طعامه؛ فالمهلبي إنما كان يكرر الوسيلة فقط، أما أبو العلاء فإنه يستطيع أن يعقدها تعقيدًا شديدًا على هذا النمط الذي نقرؤه في هذه الأبيات:
عَذيري مِنَ الدُّنيا عَرَتني بِظُلمِها
…
فَتَمنَحَني قُوَّتي لِتَأخُذَ قُوَّتي
وَجَدتُ بِها ديني دَنِيًّا فَضَرَّني
…
وَأَضلَلتُ مِنها في مُروتٍ مُروَّتي1
أخوتُ2 كما خاتتْ عقابٌ لو انني
…
قدرتُ على أمرٍ فَعُدَّ أخوَّتي
وأصبحتُ في تِيهِ الحياةِ مناديًا
…
بأرفعِ صوتي أين أطلبُ صوَّتي3
ومازال حوتي4 راصدي وهو آخذي
…
فما لمتابي ليس يغسل حوَّتي
رآني ربُّ الناس فيها متابعًا
…
هوايَ فويحي يوم أسكن هوَّتي
أبَوْتك5 يا إثمي ومن لي بأنني
…
أتيتك فاشكرْ لا شكرتَ أبوَّتي
1 مروت جمع مرت: الأرض لا نبات فيها.
2 أخوت: انقض.
3 الصوة: المنارة يهتدي بها.
4 الحوت: سواد الإثم.
5 أبوتك: صرت لك أبًا.
يكره الألفاظ إكراهًا على أن تؤدي هذا الجناس المفتعل الذي لا يحوي جمالًا ولا روعة فنية، وأي جمال أو روعة فنية في المجانسة بين قوت وقوتي ومروت ومروتي وأخوت وأخوتي وصوتي وصوَّتي وحوتي وحوَّتي وهواي وهوَّتي وأبوت وأبوتي؟ لكأنما عجز الشعر في هذه العصور عن أداء الجناس القديم الذي كنا نجده في القرن الثالث إلا أن يخرج إلى هذه الفنون من الالتواء والتعقيد، وانظر إلى الواو المشددة التي ختم بها أبو العلاء أبياته؛ فإنها تظهرنا على صناعته في اللزوميات؛ إذ كان يريد أن يثبت مهارته في النظم على جميع الحروف، فإذا هو يقع في مثل هذه الواو المشددة الغريبة، ولكن أي غرابة فيها؟ أَلَأَنَّها تحوي تعقيدًا وتصعيبًا؟ لقد كان التعقيد والتصعيب بدع هذه العصور، فما يزال الشاعر يعصب في فنه ووسائله وأبوابه التي يدخل منها إلى صناعته، فإذا أبو العلاء يطلب النظم على جميع الحروف ساكنة ومتحركة حركاتها المختلفة، ولكنه لا يزال يجد سهولة في الممرات التي ينفذ منها إلى شعره؛ وإذن فليصعب على نفسه أكثر من ذلك، وليطلب المجانسة بين القافية وحشو البيت حتى يحدث صعوبة، لعل أحدًا لا يستطيع أن يقلدها في فنه، أو يحاكيها في نماذجه، وكأني به رأى أن هذه الصعوبة لا تزال في دائرة الإمكان فحاول أن يدخلها في دائرة المستحيل قليلًا، وما تطور الشعر عنده إن كانت وسائله لا يزال يقدر عليها غيره من الشعراء؟ إن الفن الصحيح في رأيه هو الذي تتميز وسائله وأدواته بالعسر والمشقة؛ فإذا كان يحسن بالشاعر أن يجانس بين القافية وبين لفظة في البيت فليطلب ذلك في مكان يتعسر على غيره ولا ينقاد له. كان ذلك يدور بنفس أبي العلاء فذهب يبحث كيف يستحدث في الجناس صعوبة تبلغ به ما يريد من العسر والمشقة، وهداه بحثه -بعد كثير من التجربة والاختبار- إلى أن الحيز الذي يستطيع به أن يشق على نفسه وغيره بوضع جناسه فيه هو أول البيت وآخره؛ فهو لا يجانس بين القافية وحشو البيت، فإن هذا الجناس ربما كان لا يزال ممكنًا، إنما هو يجانس بين القافية وبين أول لفظة في البيت كما نرى في مثل قوله:
أتراكَ يومًا قائلًا عن نيَّةٍ
…
خلصتْ لنفسِك يا لجوجُ ترَاكِ1
1 تراك: اترك.
أدَرَاكَ1 دهرُك عن تقاك بجهده
…
فدراكِ من قبل الفواتِ دراكِ
أَبَرَاكِ2 ربُّك فوق ظهر مطيَّة
…
سارت لتبلغ ساعة الإبراك
أفَرَاكِنٌ أنا للزمانِ بمحصدٍ
…
بانت عليه شواهدُ الإفراكِ3
أشرَاكَ4 ذنبُك والمهيمنُ غافرٌ
…
ما كان من خطأٍ سوى الإشراكِ
فإنك تلاحظ في هذه الأبيات أن المعري عرف كيف يصعب طريقه إلى نظم هذه المقطوعة، فقد ضيق الباب بل الأبواب التي يمر منها إلى صناعة البيت، وأبى إلا أن يظهر هذا التضييق في أول كلمة يبدؤه بها؛ إذ أقام هذا الجناس المتعب بينها وبين القافية.
لقد كان الشعراء من قبل المعري يلتزمون رويًّا واحدًا في شعرهم، ولكنه رأى ذلك شيئًا سهلًا، وهو يريد الصعوبة والتعقيد فاشترط على نفسه أن ينظم على رويَّين، وكأنه أحسَّ بأن النظم لا يزال سهلًا، فذهب يبالغ في الصورة التي يمكنه أن يعقده فيها، وما زال يبالغ حتى انتهى إلى هذه الصورة من الجناس بين أول البيت وآخره والغريب أنه لم يكن يصنع ذلك في بيت واحد أو أبيات متفرقة من مقطوعاته التي يطلبه فيها، بل نراه يعممه في جميع أبياتها.
وكان إذا جنح إليه في مقطوعة طوَّلها وتجاوز بها المعتاد حتى يثبت مقدرته ومهارته في صنع هذا الجناس اللغوي الذي ما يزال يعقد فيه حتى يخرج على هذا النحو المركب؛ فهو يلتزمه في أول البيت وفي آخره، وهو يسرف على نفسه فيلتزمه في المقطوعات الطويلة أحيانًا. وحقًّا أن المعري أسرف على نفسه إسرافًا شديدًا حين جنح إلى هذا النوع من الجناس؛ ولكن كيف يثبت مقدرته على التعقيد في الشعر إن لم ينزلق إلى هذه الممرات الصعبة يجعلها طريقه إلى شعره
1 دراك: رفعك، أصله درأك.
2 أبراك: من البرة وهي حلقة تجعل في أنف البعير ليزم بها. يقول جعل الله لك عقلًا يمنعك من الشهوات كما تمنع الناقة من البرة. والمطية: يقصد بها الليل والنهار.
3 المحصد: الزرع يحصد. الإفراك: الاشتداد. يقول أتركن وزرعك قد اشتد وأفرك.
4 أشراك من الشري، وهو مرض يصيب الجلد فيتعقد.
وصناعته؛ فقد أصبح الفن صعوبة وتعقيدًا خالصين، وأصبحت مهارة الشاعر أن يصيب في شعره حظًّا من هذه الصعوبة أو ذلك التعقيد فإذا المعري يلتمس هذا الجناس الغريب. وأكبر الظن أن خير وصف يمكن أن يضاف إليه أنه جناس لُغوي؛ فقد تحول الجناس عند المعري عن وجهته الأولى، وأنه بديع مستطرف، إلى وجهة لُغوية يريد بها الشاعر أن يثبت مقدرته اللغوية في استخدام الغريب من الألفاظ، واقرأ هذا البيت:
ذوَي كالرَّوضِ روضُك يوم شُبَّتْ
…
جمارٌ من لَظَى أسفٍ ذَوَاكِ
فقد استطاع أبو العلاء أن يلفق جناسًا أشد صعوبة من ضروب الجناس السابقة؛ إذ ألفه من كلمة وحرف في كلمة أخرى، وكأنه يريد أن يخطو بالشعر خطوة جديدة في سبيل التعقيد؛ فإذا هو يجانس بين القافية وبين ذوي الأولى وحرف الكاف التالي لها، أرأيت كيف أصبح الجناس عند أبي العلاء عبثًا لغويًّا لا يراد به شيء أكثر من التصعيب والتعقيد؟ وهل هناك شيء أطرف في رأي أبي العلاء ومعاصريه من أن يستخرج أحدهم عقدة جديدة في الشعر؟ بل إنه يلتزم عقدًا كثيرة؛ فإذا هو يقيد نفسه في قوافيه، وإذا هو يرجع إلى ثقافته اللغوية يستمد منها ألفاظه الغريبة التي يستخرج منها هذا الجناس المعقد بين القافية وحشو البيت، وكأني به يرى ذلك ممكنًا فيجانس بين القافية وأول البيت، ثم يرى أن ذلك لا يزال ممكنا أيضًا، فيفكر طويلًا حتى يقع على هذا الجناس بين القافية والكلمة الأولى في البيت وما يجاورها من حرف أو حرفين.
وليس من شك في أن ذلك كله كان مباعدة لأسلوب الوعظ، وكأني باللزوميات إنما جاءت لتحدث هذه الصعوبات والتعقيدات في الشعر وما يطوَى فيها من شعب ومنعطفات؛ أما الوعظ وأما الزهد فقد كانا يأتيان تابعين لهذا العمل المعقد تعقيدًا شديدًا، وإن الإنسان ليخيل إليه كأن اللزوميات بنيت بناية لغة قبل أن تبنى بناية زهد، وهل كان المعري يَطْلب بلوازمه في قوافيه أوفي ألفاظه أن يؤدي حاجة من وعظ؟ لقد كان يؤدي بهذه اللوازم حاجة لغوية؛ فالثقافة اللغوية أهم شيء فكَّر فيه في أثناء عمل لزومياته.