الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد عبَّر عن العدم بكلمة لا شيء، وهي من كلام الفلاسفة. وكان كثيرًا ما يتكلف لإشارات تاريخية كقوله يدعو مالك بن طوق التغلبي إلى الصفح عن قوم تألَّبوا عليه:
لك في رسولِ اللهِ أعظمُ أسوةٍ
…
وأجلُّها في سنةٍ وكتابِ
أعطى المؤلَّفة القلوبِ رضاهم
…
كرمًا ورد أخايذَ الأحزاب
وهو يشير بذلك إلى ما حدث بعد موقعة حنين من تألف الرسول قلوب جماعة من قريش وغيرهم بما أعطاهم من الغنائم، وكأنه رد إليهم ما سبق أن أخذه في بعض حروبه منهم. ونراه يقول في الأفشين وإيقاعه ببابك:
ما نال ما قد نال فرعون ولا
…
هامان في الدنيا ولا قارونُ
بل كان كالضحَّاك في سَطَواتِهِ
…
بالعالمينَ وأنت أفريدون
والضحاك وأفريدون من ملوك الفرس الأسطوريين.
وكان أبو تمام يضيف إلى هذه الثقافة الواسعة ثقافة فنية لا تقل عنها اتساعا، كما تشهد بذلك مصنفاته الكثيرة التي اختارها من الشعر القديم والحديث، وقد طبع منها ديوان الحماسة بشرح التبريزي والمرزوقي.
2-
ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:
وكان ينهض بهذه الثقافة العميقة ذكاء نادر، ويقص القدماء من أخباره في هذا الجانب قصصًا كثيرًا؛ فمن ذلك أنه امتدح أحمد بن المعتصم بقصيدة سينية؛ فلما انتهى منها إلى قوله:
إقدامُ عمروٍ في سماحةِ حاتمِ
…
في حِلمِ أحنفَ في ذكاءِ إياس1
1 عمرو هو عمرو بن معد يكرب الفارس المشهور. وأحنف هو أحنف بن قيس زعيم تميم البصرة في العصر الأموي وكان يشتهر بحلمه. وإياس هو إياس بن معاوية قاضي البصرة حينئذٍ وكان يشتهر بذكائه.
قال له الكندي الفيلسوف، وكان حاضرًا: الأمير فوق ما وصفت، فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه وأنشد:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلًا شرودًا في النَّدى والباسِ
فالله قد ضرب الأقلَّ لنورِه
…
مثلًا من المشكاة والنِّبْرَاس1
فعجبوا من سرعة فطنته2:
وهذا الذكاء الحاد استخدمه أبو تمام استخدامًا واسعًا في تمثل الشعر الذي سبقه من قديم وحديث؛ فقد وعى وعيًا دقيقًا صورة الشعر العربي بجميع خطوطها وألوانها وكل ما يجري فيها من أضواء وظلال، وانتحى ناحية مسلم بن الوليد في تصنيعه؛ إذ كان ذوقه ذوق متحضرين يغرم بالتصنيع والزينة حتى في ثيابه ومطعمه3، بل لقد كان ذوقه ذوق نحات أصيل، فهو يقيم قصائده وكأنه يرفع تماثيل باذخة. ولذلك لا نعجب حين نجده يتمسك بالأسلوب الجزل الرصين؛ فهو الذي يلائم ما يريد من ضخامة البناء ومتانته وقوته، وقد تحولت عنده معاني الشعر إلى ما يشبه جذاذات العلماء، فهو يتناولها ممن سبقوه ويخرجها إخراجًا جديدًا يستعين فيه بدقة فكره وروعة خياله، مضيفًا إليها كثيرًا من دقائق ذهنه وبدائع ملكاته.
ونحس كأن الشعر أصبح تنميقًا وزخرفًا خالصًا؛ فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف، وهو ليس زخرفًا لفظيًّا فحسب، بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيَّات المعاني وبراعات اللفظ. وبذلك انتهى مذهب التصنيع إلى غايته، وهو يقف فيه علمًا شامِخًا لا تتطاول إليه الأعناق، فكل من قلدوه من بعده كانوا يقعون دونه على السفح، ولعل ذلك ما عدل بالبحتري وابن الرومي عن الدخول معه في هذا المذهب العَسِر الذي صعَّب مسالكه ودروبه على
1 يشير إلى الآية الكريمة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} . انظر [سورة النور رقم: 35] .
2 أخبار أبي تمام للصولي ص231 وأمال المرتضي 1/ 289.
3 طبقات الأدباء لابن الأنباري ص213.
الشعراء، وقد عدل عنه المتنبي في القرن الرابع عدولًا لعله أشد من عدول البحتري وابن الرومي، وذهب يفسح في شعره للحكمة والشكوى من الزمن؛ ولكن لا تظن أنه ينفصل في ذلك عن أبي تمام؛ فربما كان هو الذي ألهمه هذا الاتجاه؛ إذ نراه كثيرًا ما يشكو في مطالع قصائده من الدهر وما يصيبه به من الأحداث والكوارث، إلا أنه لا يأتي بذلك منفصلًا عن الحب وشجونه كما يصنع المتنبي بل هو يمزج شكواه بحبه وبكائه ودموعه، وهي شكوى تختلط بغير قليل من الشعور بالكرامة والطموح الذي لا يُحَدُّ على نحو ما نجد في قصيدته:
أأيامنا ما كنتِ إلا مواهبًا
…
وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا
فإنه بعد حديثه عن حبه وصبابته يصور مغامراته في سبيل المجد ورحلاته التي طوَّف فيها مشارق العالم العربي ومغاربه وما صادفه من خطوب لم تكَفْكِف من عزمه، ولا خضدت من غرب همته، ويسوق في تضاعيف ذلك بعض الحكم من مثل قوله:
وقد يكهَمُ السيفُ المسمَّى منيةً
…
وقد يرجع المرءُ المظفرُ خائبًا1
فآفةُ ذا أن لا يصادف مضربًا
…
وآفةُ ذا أن لا يصادف ضاربًا
ودائمًا لا يتخاذل ولا يلين أمام حوادث الدهر، بل يغالبها مغالبة على شاكلة ما نجد عند المتنبي، وبذلك كله كان يقف في مفرق طريقين: طريق الزخرف والتصنيع، وطريق المتنبي من شكوى الزمن فيها قوة وطموح.
ومعنى ذلك أن التنميق والزخرف عند أبي تمام لا يحجبان عنا مشاعره وأحاسيسه بل هما جزء لا يتجزأ من هذه المشاعر والأحاسيس. ونحن لا نقرأ فيه حتى نحس أثر عنائه وأنه كان يجهد نفسه في صنع شعره إجهادًا شديدًا، وقد روى ابن رشيق في هذا الصدد عن بعض أصحابه أنه قال: "استأذنت على أبي تمام، فدخلت في بيت مصهرج قد غسل بالماء، فوجدته يتقلب يمينًا وشمالًا، فقلت: لقد
1 السيف الكهام: الذي لا يقطع.
بلغ بك الحرُّ مبلغًا شديدًا، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة. ثم قام كأنما أطلق من عقال؛ فقال: الآن أردت، ثم استمدَّ وكتب شيئًا لا أعرفه، ثم قال: تدري ما كنت فيه منذ الآن؟ قلت: كلا. قال: قول أبي نواس "كالدهر فيه شراسة وليان" أردت معناه فشمس عليَّ. حتى أمكن الله منه فصنعت:
شرست بل لنت؛ بل قانيت ذاك بذا
…
فأنت لا شك فيك السهلُ والجبلُ1
قال ابن رشيق: ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنمَّ هذا البيت بما كان داخل البيت لأن الكلفة فيه ظاهرة والتعمل بَيِّن2. ويروي ابن المعتز عن محمد بن قدامة أنه قال: "دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه فما يكاد يُرَى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه، ثم رفع رأسه فنظر إلى وسلم على؛ فقلت له: يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيرًا وتُدْمِن الدرس فما أصبرك عليها، فقال: والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها وإني لخليق إن اتفقَّدها أن أحسن، وإذا بِحُزْمتين: واحد عن يمينه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذي أرى عنايتك به أوكد من غيره؟ قال: أما التي عن يميني فاللَّات. وأما التي عن يساري فالعُزَّى، أَعْبُدُهما منذ عشرين سنة؛ فإذا عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني، وعن يساره شعر أبي نواس"3. ويقول ابن المعتز: إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ما له جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف بالبحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: "جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وذلك لأن البحتري لا يكاد يغلظ لفظه؛ إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، فإما أن يشقَّ غبار الطائي في
1 شرست: من الشراسة ضد اللين، قانيت: خالطت.
2 العمدة: لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 1/ 139.
3 طبقات الشعراء، لابن المعتز ص214.
الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات، بل يغرق في بحره؛ على أن للبحتري المعاني الغزيرة ولكن أكثرها مأخوذ من أبي تمام ومسروق من شعره"1
وهذا الإحسان الرائع الذي وصفه ابن المعتز إنما كان نتيجة ما يبذله من جهد لاحَظَهُ معاصروه، ويروي الصُّولي أن إسحاق الموصلي سمعه ينشد بعض أشعاره فقال له:"إنك تتكئ على نفسك"2 وينسب إلى الكندي الفيلسوف أنه قال: "هذا الفتى يموت قريبًا؛ لأن ذكاءه ينحت عمره كما يأكل السيف الصَّقيل غمده"3 وفي رواية أخرى أنه قال: "هذا الفتى يموت شابًا؛ فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك؟ فقال: رأيت من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت أن النفس الروحانية تأكل جسده كما يأكل السيف غمده"4. وهناك أسطورة تزعم أن الدم ظهر في عينيه من شدة التفكير. فتنبأ له الناس بالموت5.
والحق أن من يقرأ في شعر أبي تمام يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يشقى في بنائه واستنباط معانيه كما يشقى صيادو اللؤلؤ فهو يتنفس فيه الدم، وكان يشعر بذلك في دقة؛ فأكثر من وصف أشعاره بالإغراب والغرابة على شاكلة قوله:
خذها مغرِّبةً في الأرض آنسةً
…
بكل فهمٍ غريبٍ حين تغتربُ
وقوله:
يغدون مغترباتٍ في البلاد فما
…
يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا
فهو يطلب الإغراب في فنه، حتى يسبغ على شعره كل ما يمكن من آيات الفتنة والروعة، وقد عاش لصناعته ينمِّيها ويخلع عليها كل ما يمكن من وسائل الزخرف والتصنيع، وما زال بها حتى جعلها تنميقًا وزينة خالصة؛ فهي حَلْيٌ أنيق ووشي مرصع كثير، وصوَّر ذلك في بعض شعره، فقال:
1 طبقات الشعراء، ص286.
2 أخبار أبي تمام للصولي ص221.
3 هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام للبديعي ص26.
4 هبة الأيام ص40.
5 معاهد التنصيص 1/ 15.