المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ صنعة أبي العتاهية: - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌ صنعة أبي العتاهية:

أحيانًا في الغزل والخمريات، وقد تظل له قوة البناء فيهما، وتظل له روعة التصوير ودقة العاطفة، وقد يهبط وخاصة حين يتعابث ويهزل إلى لغة العامة وإلى أسلوب ليس فيه شيء من قوة، كان يعمد فيه إلى اللحن أحيانًا1. ولعل ذلك ما جعل بعض القدماء يقول عنه، وهو قول صحيح: "إنه كان لا يقوم على شعره ويقوله على السكر كثيرًا، فشعره متفاوت؛ لذلك يوجد فيه ما هو في الثريَّا جودة وحسنًا وقوة وما هو في الحضيض ضعفًا وركاكة"2. على أنه ينبغي أن لا ننسى أن شعرًا كثيرًا منتحلًا أضيف إليه، حتى لنجد موشحة مبثوثة بين أشعاره في ديوانه3، والمشهور أن الموشحات ظهرت بعده بقرن على الأقل، ولم تظهر في الشرق؛ وإنما ظهرت في الأندلس وظلت هناك طويلًا قبل أن تنتشر في العالم العربي. ولعل في ذلك ما يدل على أن العصور التالية لعصر أبي نواس ظلت تضيف إليه كثيرًا من الأشعار، ولم تتورع أن تضيف إليه بعض الموشحات، وكان أهم باب نفذوا منه إلى ذلك باب المجون والأدب المكشوف.

1انظر ترجمته في: الموشح للمرزباني.

2 طبقات الشعراء، ص195.

3 الديوان ص346.

ص: 164

7-

‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

هو إسماعيل بن القاسم، كان أبه من موالي بني عنزة، وكانت أمه بنت زياد المحاربي أحد موالي بني زهرة، وقد وُلد لهما سنة 130 للهجرة في قرية عين التمر بالقرب من الأنبار غربي الكوفة، ويظن أن القاسم كان نبطيًّا، وقد كان يحترف الحجامة، وانتقل -على ما يظهر- بأسرته إلى الكوفة فنشأ بها أبو العتاهية. ولما ترعرع احترف مع أخيه زيد بيع الخزف، ولم تلبث مواهبه الشعرية أن استيقظت في نفسه؛ فكان ينشد من يشترون منه

ص: 164

الجرار شعره؛ فيعجبون به وينقشونه على جرارهم1. ولم يطل به الأمر حتى انصرف عن بيع الخزف، ولزم المخنثين من شباب الكوفة، ولبس ملابسهم2 وانتظم في سلك الْمُجَّان من أمثال مطيع بن إياس. وتعرَّف في أثناء ذلك على إبراهيم الموصلي مغني المهدي والرشيد فيما بعد، واتفقا على الرحيل إلى بغداد؛ غير أن الأبواب فيها لم تفتح له؛ فعاد أدراجه إلى الحيرة3، وتعلق فيها بجارية لبني معن بن زائدة كانت نائحة ولها حسنٌ وجمال، ولكن مواليها حالوا بينها وبينه4. وأخذ شعره فيها يذيع، فاستدعاه الموصلي ووصله بالمهدي فمدحه ونال جوائزه السنية. حدث أن رأى جارية من جواري القصر هي عُتبَة، وكانت من جواري رائطة بنت السفَّاح زوج المهدي، فوقعت في قلبه وأخذ يتغزل فيها غزلًا كثيرًا، وبلغ المهدي ذلك فغضب لتعرضه لحرمه وأمر بحبسه، وشفع فيه خاله يزيد بن منصور حتى خلصه؛ فعاد إلى مثل حاله معها، فتدخلت رائطة، وأثارت حفيظة المهدي عليه؛ فأحضره وضربه بالسياط في الدواوين بين يديه؛ غير أنه عاد فرقَّ له، ووعده أن يستوهبها من مولاتها ويدفعها إليه. وعلمت بذلك عتبة، وكانت تزدريه على نحو ما كانت تزدري جنان أبي نواس؛ فاسترحمت المهدي واستجارت به، وقالت إنه غير عاشق، وإنما يريد الذِّكر والشهرة بتغنيه فيَّ وامتحِنْهُ بمال ذي خطر، فإنه سيلهيه عني ويشغله عن ذكري، فأمر له المهدي بمائة ألف، ولم يسمِّ دراهم ولا دنانير، وأعطاه صكًّا بذلك؛ فكان كلما حاول أن يصرف الصك قدمه له الموظفون بالدواوين دراهم، فكان يأباها. وظل شهرًا مطالبًا بالدنانير، ونسي عتبة وذكرها، فأشرفت عليه يومًا وقالت: "يا صفيق الوجه لو كنت عاشقًا لشغلك العشق عن المفاضلة بين الدراهم والدنانير، وبلغ كلامها المهدي؛ فعلم أنها كانت أعرف بقصة الرجل، فأمسك عن أمره5. غير أنه ظل يقرِّبه منه، وتبعه الهادي والرشيد يسيران معه نفس السيرة، ويقال إنه

1 انظر: الأغاني، طبعة دار الكتب، 4/ 9 وقد ترجم له أبو الفرج ترجمة ضافية في هذا الجزء.

2 أغاني 4/ 7.

3 أغاني 4/ 4.

4 أغاني 4/ 24.

5 طبقات الشعراء: لابن المعتز، ص230. وانظر: زهر الآداب 2/ 35.

ص: 165

لم يكن يفارق الرشيد في سفر ولا في حضر1.

ولا نمضي طويلًا في عصر الرشيد، حتى نرى أبا العتاهية يتنسك ويلبس الصوف والزهد ويترك حضور المنادمة والقول في الغزل، ويُحْضره الرشيد ويأمره أن يعود إلى ما كان عليه، فيمتنع، فيضربه ستين سوطًا ويأمر بحبسه، وينظم أشعارًا كثيرة يستعطفه، وتُنْقَل إلى الرشيد، وكان مما نظمه قوله2:

أما واللهِ أنَّ الظُّلمَ لومٌ

وما زالَ المسيءُ هو الظَّلومُ

إلى ديانِ يومِ الدِّينِ نمضي

وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ

فعطف عليه الرشيد وأطلق سراحه، وتصادف أن انقبض عن الدنيا وغشيته سحابة من الحزن بعد فتكه بالبرامكة؛ فكان يستريح إلى أشعار أبي العتاهية الجديدة في الزهد، ويفسح له في مجالسه ونزهاته. ولما تحولت مقاليد الأمور إلى المأمون كان يقربه منه ويصله3، ويستحسن شعره، إلى أن توفي سنة عشر ومائتين وقيل بل سنة إحدى عشرة وقيل بل ثلاث عشرة. وواضح أن انقلابًا حدث في حياة أبي العتاهية؛ فتحول مما كان يأخذ فيه مع شعراء بغداد لعصره من لهوٍ ومجون إلى زهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وكاد يقصر شعره على ذلك. ولم يلبث معاصروه أن تساءلوا هل هذا الزهد مردُّهُ إلى تقوى حقيقية، أو مردُّه إلى زندقة ومانوية فهو يستمد فيه من ماني، والزنادقة على شاكلة صالح بن عبد القدوس وأضرابه ممكن كانوا ينزعون في زهدهم منزعًا مانويًّا. وتعرض له حموديه صاحب الزنادقة يريد أن يثبت التهمة عليه؛ فقعد حجَّامًا في الطريق، يحجم الفقراء والمساكين4 وحامت حوله شبه كثيرة، وقيل: إنه يقنت للقمر ويبتهل له ابتهال المانوية5، وشنع عليه واعظ كبير من وعاظ بغداد، هو منصور بن عمار؛ فقال إنه زنديق6 وقال كثيرون: إنه لا يؤمن بالبعث7. ويقول ابن المعتز في

1 أغاني 4/ 63.

2 أغاني 4/ 51.

3 أغاني 4/ 53 وما بعدها.

4 أغاني 4/ 7.

5 أغاني 4/ 35.

6 أغاني 4/ 34، 51.

7 أغاني 4/ 2.

ص: 166

ترجمته: "إنه يرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ، وذكر الموت والحشر والنار والجنة1، والذي يصح لي أنه كان ثنويًّا"، ويقول في ترجمته ابنه العتاهية:"كان أبوه خبيث الدين، يذهب مذهب الثَّنويَّة؛ إلا أنه كان ناسك الظاهر"2. وفي الأغاني أنه كان ينظم شعرًا يدل على توحيده لنفي تهمة الزندقة عنه، من مثل قوله3:

ألا إننا كلنا بائدُ

وأي بني آدمَ خالد

وبدؤهم كان من ربهم

وكلٌّ إلى ربِّه عائدُ

فيا عجبًا كيف يعصى الإلـ

ـه أم كيف يَجْحَدُهُ الجاحدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تدلُّ على أنَّه واحدُ

ولو أننا وصلتنا أشعاره كاملة لأمكن الحكم عليه حكمًا دقيقًا؛ غير أن ما طبع من شعره ونشر باسم "الأنوار الزاهية في ديون أبي العتاهية" إنما هو اختيارات فقيه أندلسي، اختارها بذوقه الديني السليم، ولعل ذلك ما يجعلها تتضارب مع ما يقال عن الشاعر من أن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون ذكر النشور والمعاد4، فالمعاد والنشور مبثوثان في اختيارات الفقيه؛ بحيث يمكن أن يقال إن هذه التهمة غير صحيحة. وإن كنا في الوقت نفسه نشك في أن تكون صورة هذه المختارات ضابطة لحقيقة زهدياته؛ فقد يكون الفقيه اختار من ديوانه تلك الأشعار التي كان ينظمها تغطية وتعمية لحقيقة أمره. ولا يشك من يقرؤها في أن فكرة الموت ومصير الإنسان في حياته كانت هي شغله الأول؛ فقد دار عليها أكثر تلك الزهديات، وفي الأغاني نص مهم عن أحمد بن حرب، يقول فيه:"كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعًا، وكان مجبرًا "5. وكأنه حاول بذلك أن يوفق بين نظرية الإسلام والتوحيد ونظرية المانوية في أن

1 طبقات الشعراء، ص228.

2 طبقات الشعراء، ص364.

3 أغاني 4/ 35. والديوان ص69.

4 أغاني 4/ 2.

5 أغاني 4/ 5.

ص: 167

هناك إلهين: إلَهًا للنور والخير وإلَهًا للظُّلمة والشر، وللخير أجناسه وللشر أجناسه، وقد بنى منهما العالم. ونجد في شعره القليل الذي وصلنا ما يؤكد أنه كان حقًّا يرى هذه النظرية، ويعتقدها من مثل قوله1:

الخيرُ والشرُ هما أزواجُ

لذا نتاجٌ ولذا نتاجُ

لكلِّ إنسانٍ طبيعتانِ

خيرٍ وشرٍّ وهما ضدانِ

والخيرُ والشرُ إذا ما عُدَّا

بينهما بونٌ بعيدٌ جدّا

فهو في زهده كان يتصل بالمانوية كما شهد معاصروه وكما تشهد أشعاره، وقد مر بنا أن مثال الزاهد عنده هو نفس مثاله عند الهنود، وهو بوذا الذي فرَّ عن ملكه وساح مسكينًا يفكر في ملكوت السماوات والأرض. فزهد أبي العتاهية لم يكن زهدًا إسلاميًّا خالصًا؛ بل كانت تشوبُه عناصر أجنبية.

وإذا رجعنا إلى شعره الذي روته المنتخبات المنشورة له باسم "الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية" وما روته له كتب الأدب من مثل الأغاني وجدنا أشعاره تمثل حياته وما حدث بها من انقلاب؛ إذ يتراءى لنا في مرحلتين واضحتين تمام الوضوح: مرحلة أولي نراه فيه على شاكلة الشعراء المعاصرين له الذين يُجْرُون شعرهم في تصوير اللهو والمجون ومجالس الأنس والطَّرب. ولا نجد في أخباره أنه تبدَّى أو دخل في البادية، كما صنع بشار وأبو نواس ولا أنه لزم كبار اللُّغويين أمثال خلف الأحمر، وكأنه استقى شعره من القطع العباسية الجديدة التي كان يغني فيها المغنون، ولم يحاول التزود تزودًا واسعًا بالتراث القديم؛ ولذلك قلما نجد عنده ضخامة البناء وما يُطْوى فيها من أسلوب جزل رصين، وهو من هذه الناحية يقترب اقترابًا شديدًا من اللغة اليومية التي عاصرها، حتى في مديحه وشعره الرسمي الذي كان يَلْقَى به الخلفاء، وخير ما يمثله قصيدته اللَّامية في المهدي، وهي التي يستهلها بقوله2:

ألا ما لسيِّدتي ما لها

أدلًا فأحمل إدلالها

1 أغاني 4/ 37. والديوان ص346.

2 أغاني 4/ 33. والديوان ص309.

ص: 168

وإلا ففيم تجنَّت وما

جنيت سقى الله أطلالها

ويستمر في هذا الأسلوب السهل العذب حتى ينتقل إلى المديح فيقول:

أتته الخلافةُ منقادةً

إليه تجرر أذيالها

ولم تك تصلح إلا له

ولم يكن يصلح إلا لها

ولو رامها أحدٌ غيرُهُ

لزلزلت الأرضُ زلزالها

ولو لم تطعه بناتُ القلوبِ

لما قبل اللهُ أعمالَها

وإن الخليفةَ من بغض لا

إليه ليُبْغِضُ من قالها

وواضح أنه يختار لمديحه أسلوبًا خفيفًا قريبًا إلى النفوس، وهو في ذلك يخطو بعد بشار خطوة؛ فقد كان بشار يحافظ في مدائحه على الأسلوب الجزل القويّ، وكذلك كان يصنع أبو نواس غالبًا، أما أبو العتاهية فالتزم هذا الأسلوب اليسير لا في غزلياته، كما كان أبو نواس بل أيضًا في مدائحه، وهي سهولة تقترن بموسيقى صافية حلوة يبدو الشعر فيها كأنه أنغام خالصة. وتبلغ هذه السهولة الغاية في غزله؛ حتى ليقول ابن المعتز:"إن غزله لين جدًّا مُشَاكل لكلام النساء" وكأن ملازمته للمخنثين في مطلع حياته وتعرفه على لغتهم هما اللذان أتاحا له هذه السهولة المفرطة التي تلقانا في مثل قوله1:

كأنها من حسنها درةٌ

أخرجها اليمُّ إلى الساحلِ

كأن في فيها وفي طرفها

سواحرَ أقبلن من بابلِ

لم يبقِ مني حبُّها ما خلا

حشاشة في بدنِ ناحلِ

يا من رأى قبلي قتيلًا بكى

من شدة الوجد على القاتل

والرقة واضحة في هذه الأبيات، وهي تقع من القلوب موقع الزُّلال البارد من الظمآن، وكأنها الماء السلسبيل

وانتقل أبو العتاهية بهذا الأسلوب السهل الممعن في سهولته إلى الدور الثاني من حياته دور الزهد والدعوة إلى الانصراف عن الدنيا ومتاعها، والتفكير

1 أغاني 4/ 45.

ص: 169

في الموت وظلمة القبر ووحشته، ويسود زهدياته في أثناء ذلك تشاؤم أسود حزين؛ فالحياة ليس فيها إلا الألم وإلا الموت وغصصه، وأولى بالإنسان فيها أن لا يفرح بمتعها، بل أولى به أن يبكي على نفسه، يقول1:

لدواعي الخيرِ والشـ

ـرِ دنوٌ ونزوحُ

سيصيرُ المرءُ يومًا

جسدًا ما فيه روحُ

بين عيني كلِّ حي

عَلَمُ الموتِ يلوحُ

كلُّنا في غفلةٍ والْـ

موتُ يغدو ويروحُ

نُحْ على نفسِكَ يا مسكين

إن كنت تنوحُ

لتموتنَّ وإن عُمِّـ

رَت ما عُمِّرَ نوحُ

ويقال: إن الملاحين غنَّوا الرشيد هذه المقطوعة في إحدى نزهاته بدجلة؛ فلما سمعها جعل يبكي وينتحب2. وفي هذا الخبر ما يدل على قرب شعره من روح الشعب؛ إذ لم يكن المغنون وحدهم الذين يغنون به، بل كان أفراد الشعب من ملاحين وغيرهم يتغنون فيه، مما يدل على أنه كان له صدى عميق في نفوس الطبقة العامة التي لم تكن تعرف الترف ولا حياة الدعة واللهو تلك التي عاشها الأمراء العباسيون والأشراف الذين نعموا بملذات الحياة، كما عاشها الشعراء الماجنون في نوادي بغداد. ولم يكن هذا الشعر الزاهد قريبًا منها في معانيه فحسب؛ بل كان قريبًا منها في ألفاظه، بل لعلنا لا نبعد إذا قلنا إنه كان من نفس ألفاظها اليومية ويتحول كثير منه إلى ما يشبه وعظ الوعاظ ممن كانوا يعظون الناس في المسجد الجامع، فيضعون الموت تحت أعينهم للعبرة والعظة3، ولعل ذلك ما يجعل الاستفهام والأمر والتعجب يشيع في تلك الزهديات. على أن مسحة مهمة تعلوها هي مسحة الكآبة والبرم بالحياة، وهي ليست مسحة إسلامية؛ فالإسلام لا يشوِّه الحياة ولا يبغضها إلى الناس، بل يدعوهم إلى العمل الصالح، أما

1 أغاني 4/ 103. والديوان ص66.

2 أغاني 4/ 104.

3 انظر: القصيدة الطويلة التي يصف فيها بالتفصيل مشهد الموت والغسل والدفن من ص293 إلى 295 في الديوان

ص: 170

أبو العتاهية فيصورها في سواد خانق، وهو سود جاءه فيما نظن من قراءاته في المانوية واختلاطه بأصحابها، إن لم يكن من اعتناقه لها؛ ولكن على أساس فلسفته التي قدمناها من التوفيق بينها وبين الإسلام؛ بحيث آمن بربه وأقرَّ بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، كما يشهد بذلك كثير من أشعاره.

ومما لا ريب فيه أنه كان يكثر من قراءة المترجمات، وخاصة في باب الحكم والموت، فقد قالوا:"إنه نظم في بعض مراثيه قول بعض الفلاسفة لما حضروا موت الإسكندر: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس"؛ فقال في رثاء على بن ثابت:

وكانت في حياتك لي عظات

وأنت اليوم أوعظ منك حيَّا1

ومرت بنا مرثية أخرى له في علي، وقد جعله تصويره لآلام الحياة والموت يجيد في هذا الموضوع، وكان كثيرًا ما ينقل حكم الأوائل من فرس وغير فرس إلى شعره، ولعل ذلك ما أتاح له أن ينظم مزدوجته "ذات الأمثال" التي امتدت إلى أربعة آلاف بيت، ويقول الجاحظ تعليقًا على قوله:"أسرع في نقص أمرئ تمامه"، ذهب إلى كلام الأول:"كل ما أقام شخص، وكلما ازداد نقص، ولو كان الناس يميتهم الداء، إذن لأعاشهم الدواء"2.

وأظن أن فيما أسلفنا ما يدل في وضوح على صنعة أبي العتاهية، وهي صنعة كانت تقوم على السهولة المفرطة في اختيار الألفاظ والعبارات؛ حتى لتقترب من لغة الناس اليومية، بل حتى ليصيبها أحيانًا ضرب من الابتذال، ومن أجل ذلك كان الأصمعي يقول:"شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى"3، ويقول أبو الفرج: إنه كثير الساقط المرذول4 على أننا نلاحظ أنه لم يدخل في شعره ألفاظًا أعجمية؛ إنما هو القرب فقط من كلام العامة، وكان يتخذ ذلك مذهبًا في صنعة شعره، حتى يكون أكثر تداولًا

1 البيان والتَّبَيُّن1/ 40. وانظر 3/ 257. والأغاني 4/ 44.

2 البيان والتَّبَيُّن1/ 154.

3 أغاني 4/ 40.

4 أغاني 4/ 2.

ص: 171